لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه
فهي جميعا تفاسير تتنكر لما يقول القرآن عن نفسه: فهو رسالة تذكير أولا تبشر من يتبع ما تذكر به وما تعتبر العلم به ليس في نصها بل فيما فطر عليه الإنسان وفي الآفاق والأنفس أي فيما تحيل عليه من عالم الشهادة إذ لا يمكن لرسالة أن تتوجه لمرسل إليه بما لا يستطيع له فهما: الغيب.
فلابن رشد كتابان في الجدل مع المتكلمين كلاهما يقتصر على الكلام الأشعري وبصورة أدق على اللحظة الحرجة التي اقترب فيها الأشاعرة من الفلسفة أعني إمام الحرمين والغزالي خاصة مدعيا أنه ليس له الاطلاع الكافي على الاعتزال فلم يرد عليه: مناهج الادلة وتهافت التهافت.
والانتقال المباشر من ابن رشد إلى التصوف ممكن لعلاقتين واحدة متقدمة عليه وتتصل بالكتابة الرمزية (انب طفيل) والثانية معاصرة له وتتصل بالكتابة الصوفية الخالصة (ابن عربي) فهو حد اوسط بين اسلوبين فلسفي صوفي بداية (حي ابن يقظان) وكلامي صوفي غاية (كلامي صوفي الفتوحات).
ولما كان فقيها وابن فقيه فقد جمع كل علوم الملة بما فيها رأيه في التفسير وإن لم يكتب تفسيرا رايه الذي يشاركه فيه من بعده ابن تيمية أعني التفسير النسقي الذي يعتبر القرآن نظاما واحدا يفسر بعضه البعض ولا يمكن تجزئته فيقرأ نتفا لا نسق نظامي لها بل هو بنية ذات نظام شارط لفهمه ككل.
كان أول عمل لي في الفلسفة في ثانيتي سنواتي بدار المعلمين العليا حول أدلة وجود الله في المناهج لابن رشد وكان العمل بالفرنسية ومنذئذ بقيت غير ميال لابن رشد رغم درسي بعض شروحه لأرسطو وربما بسبب هذا الدرس. لكن العلة الأساسية هي أني بعد عملي على هيجل اخترت الغزالي في أعمل عمل بالسوربون.
ذلك أني لا أدري لماذا وجدت المتكلم (الغزالي) فيلسوفا أكثر من الفيلسوف (بحسب الشهرة) وهما يشتركان في الفقه ولعل الأول هو أستاذ الثاني حقا فيه رغم اعتراضه على تقديم الغزالي المنطقي للأصول في المستصفى: وجدت أنه لم يفهم تهافت الفلاسفة كما يستحق أن يفهم.
ذلك أني اكتشفت أن عدم ميلي لابن رشد لم يكن نزوة بل لأنه لم يقدر تهافت الفلاسفة الذي ما يزال حداثيو العرب من أنصاف المثقفين يعتبرونه عائقا أمام الفلسفة في الثقافة العربية في حين أن الغزالي هو الذي أدخل التفلسف الجدي لأنه رفض اعتبار الفلسفة نصوصا تشرح وكأنه قرآن كريم.
ولهذه العلة فيمكن اعتبار الجدل بين المتكلمين والفلاسفة في هذه الحالة قد أصبح جدلا بين المتفلسفين بحق والعارضين للبضاعة الفلسفية: فلأول مرة جاء من لم يعتبر العلم قد تم وأنه لم يبق إلا أن يعلم ويتعلم (كلمة الفارابي في كتاب الحروف): أدخل أهم خاصية للفكر الفلسفي التشكيك في ذاته.
وما حيرني حقا هو أن ابن رشد لم يقرأ المقدمات الاربع من التهافت أو هو على الأقل قرأها ولم يعلق عليها ما يعني أنه لم يفهم ضرورة ذلك لأنه لم يفهم أمرين هما جوهر محاولة الغزالي:
التمييز بين العلمي (الرياضيات والمنطق) والميتافيزيقي
والتساؤل الفلسفي حول أساس علم الطبيعة(السببية)
فكان بحثي في شهادة الأهلية (Maîtrise) في الفلسفة حول مفهوم السببية. وفيها حاولت فهم العلاقة بين الضرورة المنطقية في العلم وفرضية الضرورة الوجودية في موضوعه الطبيعي. والغزالي لم يتخل عن الأولى ولم يعتبر الثانية ضرورية ويكفي افتراضها دون ادعاء حقيقتها.
صحيح أن دافعه ديني لكن ذلك ليس مهما لأن القول بها حتى وإن لم يكن ذا دافع ديني فهو عقدي وليس عقليا: فليس لأن العالم يبدو متسقا إلى حد لحظة القول فيه ينبغي التسليم بأن ذلك ضروري أو بأن ذلك سيبقى كذلك بل يكفي القبول بأن ذلك هو كذلك ما لم يكذبه المجرى الآتي. هذا كاف للعلم.
والأهم وراء ذلك هو عدم اعتبار الفرضيات الميتافيزيقة حول الوجود وطبيعة انتظامه حقائق علمية دون نفي الحاجة إليها منطلقات مؤقتة قابلة للتغيير بحسب فائدتها التأسيسية. وبهذا المعنى فالغزالي كان يؤمن بأمرين: أن العلم الموثوق لا يقتضي بالضرورة القول بالمطابقة وإطلاقه ليصبح ميتافيزيقيا.
فيكون ملخص ثورته الابستمولوجية التحرر من نظرية المعرفة المطابقة وإن بفرضية وهي أن نسبة العقل إلى الحواس تشكيكا في إطلاقها تدعو إلى افتراض تصور يكون في نسبة العقل إلى الحواس بوصفه مفهوما حدا يحد من أوهام العقل فيخلصه من تخيل قدرة له على العمل المحيط: طور ما وراء العقل.
وما يعنيني ليس وجود هذا الطور كما يتصور الغزالي لكونه ربما يقصد به العلم اللدني او الكشف الصوفي أو الوحي. ما يهمني هو هذا الحد من توهم علم الإنسان قابلا لأن يكون محيطا ومن ثم التخلص من نظرية المعرفة المطابقة التي تجعل الفارابي (وابن رشد) يعتقد أن العلم تم ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم.
المحير في هذا الجدل بين المتكلمين والفلاسفة والذي يمكن اعتبار هذه النتيجة أهم إضافة في تاريخ الفكر الذي حصل في حضارتنا سرعان ما نسبت وصار الكلام أكثر وثوقية من الفلسفة التقليدية التي شكك الغزالي في ميتافيزيقاها. وحتى اليوم مازلت أسمع بعض المتطفلين على الفلسفة يقول بالعلم المحيط.
فلا يفهمون معنى أني أومن بوجود الحقيقة لكني لا اعتقد بأن الإنسان يحيط بها علما. والإيمان بوجود الحقيقة شيء ووهم الإحاطة بها شيء ثان. ولا شيء أخطر على العلم أكثر من هذا الوهم. ذلك أنه يقتل ضرورة التجاوز والتقدم في إدراك الحقيقة فيحول دون أفق البحث العلمي اللامتناهي شرط ثرائه.
أما إذا أرادوا أن يسكتوك فسيقنصوك بعبارة “المعلوم من الدين بالضرورة”. فإذا قلت لهم لا وجود لمعلوم بالضرورة لا في الدين ولا في الدنيا كفروك. ذلك أن ما يسمى معلوما بالضرورة هو معنى القطعي أي ما تحتاج لقطع التسلسل للانطلاق نحوه دون أن يكون محل القطع أكثر من ضرورة شرطية.
ومفهوم الضرورة الشرطية وضعه أرسطو لتأسيس علم الطبيعة وأثبته لايبنتس ليبين شرط الانتقال من الرياضي إلى الطبيعي في المعرفة الإنسانية. وهو يعني أن كون الشيء الوجود فعلا يشبه ما يحصل إذا اعتبرنا غاية فعل شبه قصدي لجعله يكون على ما هو عليه.
ذلك أن الإمكان إذا لم تحدد له غاية يبقى إمكانا مرسلا قد يتحقق بطرق مختلفة فنفترض غاية تقيد الإمكان لئلا يبقى مفتوحا بلا حد: ولنأخذ مثال من يريد بناء منزل يكنه. فالمنزل يمكن أن يكون شديد التنوع والكن أكثر تنوعا. فنضطر لوضع ضرورة مشروطة بالإمكان الذي اخترناه (شرط اقتصادي).
وإذا نظرت في الطرق العفوية في البراري فإن المشاة غالبا ما يختارون أقرب السبل للغاية في حين أنها من حيث الإمكان يمكن أن يصل إليها الإنسان بما لا يتناهى من السبل. وحتى ماء الأودية في سيلانه فهو يتبع هذا المبدأ وكأنه يخضع للضرورة الشرطية مع اعتبار ما يعترضه من عقبات فيتلوى.
وهذا المبدأ من أهم مبادئ البحث العلمي: فغالبا ما يكون الحل هو الأبسط في النظام الرمزي المستعمل للعبارة عن البنى المجردة التي تصاغ بها الظاهرات الطبيعية. وهذه البنى محكومة بنظام الترميز الذي هو في الحقيقة كتابة رياضية وبما يشبه التناظر بين بنى الكتابة وبنى الموضوع الذي تعبر عنه.
ولما كان الامر متعلقا ببنى رمزية فإن قانونها شبيه بآليات البلاغة حيث تؤدي الاستعارة والكناية دورا كبير في إدراك المماثلات الخفية التي توحي للفكر بالمعاني التي عادة لا تبدر إلى الأذهان لأنها جنيسة للإبداع الفني حيث يكون للبساطة والجمال والتناسق والتناظر الدور الاول في الاكتشاف.
مشكلي مع علم الكلام هو أنه يغفل أن علمنا بعالم الشهادة محدود جدا لذلك فإني لا أفهم تجرؤهم على علم ما وراء عالم الشهادة وعدم احترام آل عمران 7 بدعوى أن الراسخين في العلم يمكن أن يؤولوا المتشابه. وكل كلام فيما يسمونه جليل الكلام متشابه بل إن كل كلام على الله متشابه.
وهو متشابه إلى حد التشبيه ما يجعل المؤمن العادي لا يستطيع التخلص من التشبيه (الانثروبومورفية) مهما فعل ومهما حاول ألا يغفل عن ليس كمثله شيء. فالقرآن مليء بالتعبير المتشابه في كلامه على الله وعلى البعث والحساب والعقاب. وكل محاولة للتنزيه المزعوم إضعاف لإيمان الإنسان العادي.