علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه – الفصل العاشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه

الفصل التاسع

هل يعقل أن يكونوا جميعا غفلوا عن هذه الحقيقة البينة والبديهية؟

ألست أبالغ؟

موضوع هذا الفصل الاخير هو الاعتراضات الممكنة على فرضيتي لتفسير فشل هذه العلوم كلها بلا استثناء لتحقيق ما لأجله توضع العلوم وبما به تغير: فالعلم أي علم يطلب إما لذاته كمعرفة من جنس الفنون أي العلم للعلم أو يطلب لغاياته فيكون أداة. فإذا تبين أنها لا تدعي العلم لذاته بقي أنها لغاية.

والعلم لغاية هو إما لغاية دنيوية أو لغاية أخروية أو للجمع بينهما كما يدعي أصحاب هذه العلوم أي من أجل سعادة الدارين. ولست أنا الذي ادعي أن أصحاب علوم الملة لا يطلبون العلم لذاته كالفنون فهم الذي لا يكفون يرددون بمعارضة العلم غير النافع أو العلم الذي لا ينتج عنه عمل مباشر.

وليعلم القارئ أني لم أقدم على هذه الفرضية دون تردد وتمحيص دام عقود. ذلك أن الامر جلل. لكنه لا يعني فائدة هذه العلوم في ظرفها الذي وصفته بكونه حالة طواري سياسية ومعرفية فرضت المحظورات بسبب سيطرة الضرورات التي نتجت عن الفتنة الكبرى والحروب الاهلية التي عطلت دستوري القرآن.

ودستورا القرآن هما جوهر سياسته التي حدد صفاتها أو خصائصها ليكون الإنسان قادرا على تحقيق شرطي اهليته للاستخلاف: سياسة علاقته بالعالم (العلم والعمل) وسياسة الوجود المشترك للأفراد في الجماعة والجماعات في العالم الذي استعمر فيه الإنسان بقيم الاستخلاف التي قد يتخلى عنها.

وكون الرسالة تذكير بذلك يعني أنه من مقومات ما فطر عليه لكنه ينساه بسبب الاخلاد إلى الارض لكأن ما اعتبر علة اخراج آدم وحواء من الجنسة يتكرر دائما في حياة البشر بمعنى أنهم ينسون ما يجعلهم اهلا للاستخلاف فيخلدون إلى الارض أي ينكصون إلى القانون الطبيعي ويتخلون عن القانون الخلقي.

اعتبار الرسالة متضمنة لكل ما يحتاج إليه الإنسان ليثبت جدارته بالاستخلاف فيها تجن لا يطاق: إذا كان ذلك كذلك فمعناه أن محاسبة الإنسان يوم الدين لم تعد على ما يعلم اجتهادا وما يعمل جهادا بوصفه كائنا حرا مكلف ومسؤول عن علمه وعمله بل هو مجرد دمية تطبق تعليمات: الله ليس دكتاتورا عربيا.

والله لا يمكن أن يستخلف من يمكن أن يكون دمية: والقرآن يبين أن الإنسان ليس دمية والدليل هو تاريخه الروحي في تعامله مع الرسالات التي يقصها القرآن وخاصة أوصافه الواردة في القرآن ومدى تنكره لكل ما تذكره به الرسالة وتبين له أنه مما فطر عليه لكنه رد أسفل سافلين فأصبح من الخاسرين.

والرسالة الخاتمة أو التذكير الأخير لا تراهن على الإنسان عامة بل على الإنسان الذي ينجح في تحقيق شروط الاهلية التي تخرجه من الخسر وهي خمسة حددتها العصر:

  • واحدة هي وعيه بقابليته للرد إلى الخسر وينتج عنه أربعة أفعال.

  • اثنان لكل فرد كفرد (الإيمان والعمل الصالح)

  • واثنان لكل فرد مشارك في الجماعة (التواصيان)

وشرط هذه الأعمال الخمسة الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل ولا يمكن أن يكون ما يوصل إليه الاجتهاد والجهاد محددا بالعدد بل هو محدد بالنوع والجنس لا غير: ومعنى ذلك ان القرآن لا يحدد عين العلم والعمل بل خصائصهما الكلية التي تجعلهما محققين للغاية التي هي أهلية الإنسان للاستخلاف.

صحيح أن الرسالة خلال نزولها على الرسول تكون مصحوبة بنماذج يطبقها الرسول التطبيق الامثل لأنه الرسول وهي من ثم خاصة بسيرته التي لا يمكن لأحد مهما ادعى الكمال أن يزعم أنه مثله فيعتبر الاجتهاد والجهاد المطلوب منه يكفي فيه تكرار ما فعله الرسول وهو أمر مستحيل.

وقد يغالط الكثير ممن قتلوا روح الإسلام بدعوى احتذاء الرسول بما قاله الرسول لقاضيه: ماذا لو لم تجد في القرآن وفي أقوال الرسول وأعماله بأن ذلك يعني أن القاضي سيقضي كما قضى الرسول بالاعتماد على النماذج الواردة في القرآن والسنة. وهي مغالطة بررت وهم طلب العلم من شرح النصوص.

وهي مغالطة لأنه لا يمكن أن يوجد في القرآن أو في الحديث نفس النوازل بكل ما يحيط بها مثل التي سيقضي فيه قاضي الرسول ومن ثم فالرسول لا يعني أعيان النوازل وأعيان الأحكام بل يعني صفات العلاج القضائي لصفات النوازل العامة ووظيفة القضاء التي هي تحديد لما ينبغي أن يتصف به القضاء.

وهذا هو القصد الأسمى من سؤال الرسول لقاضيه ولا يمكن أن يكون قد طلب منه أن يبحث في القرآن أوفي السنة عن شبيه لما هو مطالب للقضاء فيه ليقيس عليه وقد زاد هذا الوهم تصديقا قوله إذا لم أجد فيهما سأجتهد رأيي ولا آلو. فظن أنه مطالب بالبحث عن شبائه يقيس عليها.

وعن هذا الفهم الرديء نتجت كل تحيلات القياس والرد عليها بالظاهرية ثم تحيلات المقاصد وما حاولت بيانه من فسادها وعجزها عن الحل المطلوب كل ذلك بسبب الاستعمال المباشر الناتج عن ظن القرآن مدونة فقهية وكلامية وفلسفية وصوفية تغني عما أمر به ونهى عنه لإثبات أهلية الاستخلاف.

فلا يمكن لأي حاكم حتى لو كان أميا وليس أعلم العالمين وأحكم الحاكمين أن يستخلف غبيا يحدد له كل كبيرة وصغيرة في كتيب ويطلب منه تطبقيها حرفيا ثم يحق له أن يحاسبه لاحقا على ما علم وعمل لأنه لم يعلم ولم يعمل بل اكتفى بسلوك الببغاء والقرد: هل الحساب على عدم التقيد بمضمون سابق التحديد.

فالعالم هو معين قيامه العضوي والتعامل بين البشر هو معين قيامه الروحي. والبشرية يعتبرها القرآن اخوة (النساء 1) وينصحها بأن تتعامل كأخوة متساوين في العيش المشترك في العالم فلا يتمايزون ولا يتفاضلون بالعرق والطبقة والجنس بل بالتقوى لا غير. ذلك هو مضمون رسالة التذكير الأخير.

وهذه هي رسالة المسلمين للإنسانية في مرحلة الاستئناف. لم أعطل أحكام القرآن ولا أحكام السنة بل عطلت وهم اعتبارهما مدونة يكفي شرحها للاستغناء عن الاجتهاد والجهاد اللذين هما ما يعير بهما علم الإنسان وعمله باعتباره مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها كما يعرفه القرآن الكريم.

وحالة الطوارئ السياسية التي حرفت سياسة القرآن الجوهرية ببعديها (الحكم (في تنظيم عمل الفرد والجماعة) والتربية (في تكوين الإنسان ليعلم ويعمل) ألغت ثورة الإسلام بتعطيل بعدي دستوره هذين فأعادت السلطة الروحية (وساطة “العلماء”) لتفسد التربية والحكم بالحق الإلهي (وصاية “الامراء”).

وهما ما كانت سائدا قبل الإسلام وجاء الإسلام ليحرر البشرية منهما لأن المسؤولية فيه شخصية بإطلاق (كلكم يأتي ربه فردا) لذلك ألغى الكنسية والحكم بالحق الإلهي. لكنهم غالطوا في مفهوم أولي الامر منكم فظنوها تنطبق على “العلماء” و”الأمراء” كيفما اتفق ونسوا “منكم” أي من تختارونهم أنتم.

فعندما تقول الآية أمرهم فهي تعني أنه ليس أمر ولي الامر الذي هو موظف مؤقت للقيام عليه وليس صاحبه إذن طبيعة الحكم جمهورية. وعندما تقول شورى بينهم فهي تعني أن الموظف لا يقرر بل يدير ما ينتج عن قرار الشورى الجماعية إذن أسلوب الحكم ديموقراطي. فيكون النظام جمهورية ديموقراطية .

ومدار الامر حكما وتربية في أي جماعة يرد إلى أصل المشكل في أي جماعة وأصل الحل: فأما أصل المشكل فهو ما ينتج عن التنافس عن أسباب العيش بين البشر. وأما أصل الحل فهو ما يجعل التنافس شرط انتاج الثورة ذا بعد اجتماعي لتوزيعها بصورة تلغي العداوة بينهم: ومما رزقناهم ينفقون.

ألست متناقضا؟

كيف ارفض الاستعمال المباشر للقرآن مدونة لمضمون العلوم ثم استنتج نظام الحكم والتربية من آياته؟

أليس هذا استغلالا مباشرا؟

كلا. ذلك أن عرفت الرسالة بكونها التذكير الأخير. وفيها نجد عرضا نسقيا لكل ما وقعت فيه الانسانية من ابتعاد عن فطرتها. وتلك هي أدواء الإنسانية.

التذكير الاخير يتضمن أمرين: تذكير بأمر يهمله الكثير هو أن الديني في الاديان أو الدين عند الله يختلف عن الأديان التاريخية التي هي الديني المحرف وإذن فالتذكير الديني في التذكير الأخير تذكير بالديني في الاديان وتحذير من التحريفات التي طرأت عليها: التحريفات متعلقة ببعدي سياسة الدنيا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي