لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه
وبخلاف ما يتوهم الكثير فإن ما يزعم أعماقا في فكر التصوف لا يعدو أن يكون إفراطا في الاستسلام لهذه الآليات البلاغية في الكلام على المجهول بالطبع في الوجود سواء كان شاهدا (العلم) أو ماوراء الشاهد ما يجعل العالم عالما فضلا عما وراء هذا المايجعل أعني عالم غيب القطبين الله والإنسان.
وهكذا أصل إلى بيت القصيد الذي حاولت علاجه في المحاولة السابقة على هذه: غيب القطبين ولغز الوجودين الله والإنسان والعلاقة المباشرة بينهما ثم العلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ بينهما. فكل ما يدعيه التصوف من علم لدني هو تخريف وتجديف حول هذين اللغزين الله والإنسان وعلاقتيهما.
وهو ما يمكن التمثيل له بآلة الاكورديون: بسطا وقبضا لما سميته المعادلة الوجودية. فما أن تلغي أحد القطبين الله أو الإنسان حتى تلغي القطب الثاني. لكنك لا تلغيهما بل تدمجهما في الوسيطين الطبيعة والتاريخ. فتدمج الله في الطبيعة والإنسان في التاريخ آليتين عمياوين ومصادفات لامتناهية.
وتلك هي أمواج محيط التلمساني أو فنان نيتشه الذي بمعزل عن الخير والشر وحتى عن الرسوم الوجودية التي تصبح فوضى الغليان في العود الابدي الذي لا يتوقف. مفهوم الرسوم الذي يتجاوزه المتصوف القائل بالحقيقة وراءها يجعل هذه من جنس فنان نيتشة وأمواج التلمساني وبكلمة وحدة الوجود الطبعانية.
ففيها جوهر واحد وما عداه أحوال من جنس امواج التلمساني سواء كانت في الطبيعة ذاتها أو في خيال الإنسان الكامل وإدراكه الذي هو الواحد في الوجود لكأن ما عداه هو خيالاته التي من جنس توهم المحاسبي في الجنة أو في النار التوهم المبدع للمتوهمات فيكون الإنسان وكأنه هو صاحب كن.
والأمر في حقيقة ما يدعيه التصوف من الكشف الوهمي وما يحققه العلم الإنساني العادي من المعرفة الفعلية لا يختلف عن الخيال العلمي والعلم الخيالي. فغزو الفضاء الفعلي يختلف عن أفلام الفضاء الهوليوودية: للعلم الخيالي علاقة بالخيال العلمي لكن الفرق من جنس الفرق بين الفلك والتنجيم.
أو هي من جنس بساط الريح والطيران. فرق بين أضغاث الخيال وحقائق الأفعال. هذه أساسها علوم الرياضيات والطبيعيات وشروط التغلب على الجاذبية ودينامية الهواء والانتقال في الفضاء وهي جهود جماعية عمرها آلاف السنين وليس فيها دعوى كشف منحصر في مدعيه إنها قابلة للمراجعة والاختبار.
أستأنف الكلام في علوم الملة من علم التصوف الذي شبهنا علاقة “علمه” المزعوم بعلاقة العلم الخيالي في أفلام غزو الفضاء بالخيال العلمي في غزو الفضاء الفعلي. فهذا العلم اكتشف ما يشبه اللامحدود في العالم بالأدلة العلمية وخاصة بالتطبيق الفعلي لهذه الادلة بثمراتها وقابليتها للاختبار.
فكل الكرامات المزعومة والعلوم اللدنية الموهومة هي من خيال المتصوفة التي لا أشكك في أنها معيشة فعلا لديهم لكن المعيب فيها هو أنها من جنس حيل توطيد سلطانهم على العامة ومنع القدرة الحقيقية للأمة في تحقيق شرطي السيادة أعني شروط الحماية والرعاية في الدنيا لئلا يعبد غير الله.
ذلك أن الاستسلام لهذه الخرافات كانت ثمرتها جعل الامة عزلاء لا تستطيع حماية ذاتها ولا رعايتها وهو ما جعل ابن خلدون يعتبرها أمة فسدت فيها معاني الانسانية لأنها صارت عالة على غيرها في شروط الاستعمار في الارض وفي شروط الاستخلاف وهو ما ينافي فلسفة الإسلام: الدنيا اختبار لهذه الاهلية.
وبهذا أمر إلى أصل كل هذه العلوم الأربعة التي بينا طبيعة انحرافها عما يعتبره القرآن علما عامة وعلما بحقيقته خاصة: علم التفسير. وأول عملية تزييف حصلت هي اعتبار نص القرآن مدونة لعلوم الملة بل ولكل العلوم وهو ما ينافي العقل السليم فضلا عن منافاته لطبيعته كرسالة تذكير وتوجيه للإنسان.
فلو كان القرآن وظيفته أن يغني الأنسان عن الاجتهاد لاكتشاف شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها والجهاد لتحقيقها أعني مهمتيه كما حددهما القرآن لكان ذلك يعني أن التكليف بات أمرا لا معنى له إذ يكفي أن يحفظ الإنسان القرآن حتى يكون قد أدى الأمانة ولا معنى لحسابه عن اجتهاده وجهاده.
والقرآن حسم الامر في نظرية المعرفة التي جعلها مبنية على الجمع بين الإدراك الحسي والبناء العقلي لما يحصل عليه الإنسان من معلومات حول محيطه الطبيعي والتاريخي وفيهما يرى آيات الله في الآفاق والأنفس وليس في النص إلا باعتباره منها لا بديلا عنها ليعلم حقيقته.
وآيات الله في الآفاق والأنفس ليست مادة علم لدني بل هي مادة علم عقلي حسي يطلب قوانين الطبيعة الرياضية (قوانين الخلق بمقدار) وسنن التاريخ (سنن لن تحد لها تبديلا ولا تحويلا) فيكون ما وجه إليه القرآن الإنسان لعلم حقيقته هو ما في العالم الطبيعي والتاريخي من نظام أساس كل أدلة القرآن.
صحيح أن القرآن يتكلم في قصصه على معجزات الرسل السابقين. لكن الرسالة الخاتمة معجزتها الوحيدة وأساس كل استدلالاتها هو معجزة النظام في العالمين الطبيعي والتاريخي. واعتبار القرآن معجزة لا يتجاوز ذلك والتحدي يتعلق بهذا: لا يمكن لأن إنسان أن يعاجز القرآن في معجزته: الاستدلال بالنظام.
ولا ننسى أن القرآن نفى فائدة المعجزات التي من جنس معجزات الرسل السابقين واعتبرها للتخويف وليست للإقناع ومعنى ذلك أنها لا تخاطب الإنسان بوصفه كهلا عاقلا ومكلفا ومسؤولا بل بوصفه طفلا يكون اقناعه بتخويفه بما لا يطابق خطاب العقل والعلم: القرآن معجز بهذا المعنى: يعامل الإنسان كمكلف.
ويمكن تلخيص تحريف التفسير في أمرين:
الأول هو تحويله إلى مدونة معارف علمية مزيفة في الفقه واصوله وفي الكلام وأصوله وفي الفلسفة وأصولها وفي التصوف واصوله قديما.
عودة هذه الخرافة بشكل أسوأ هو شكل الإعجاز العلمي في القرآن. نعم القرآن معجز بوصفه يرفض غير العلم وسيلة لفهمه.