علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه

ومثلما أن التسمية هي شرط التعالي لرؤية الحقيقة فإنها أيضا شرط التداني لتزييفها وهو معنى {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} ومن ثم فالتسمية هي رمز الحرية التي تجعل الإنسان مخيرا بين القيمتين الموجبة والسالبة وكل ما بينهما من فسحة للاجتهاد والجهاد أو التواصيين بالحق والصبر. وهنا يكمن ما يعاب على الفلسفة والكلام: فهما يعتمدان على نظرية في المعرفة النظرية والعملية يدعيان لها المطابقة ومن ثم الإحاطة المعرفية متصورين ان العلم الإنساني بوسعه أن يعلم الأشياء على ما هي عليه وبقصد او بغير قصد هم نافون للغيب أو لما يتجاوز به الوجود العقل الإنساني. ولولا الانتباه إلى استحالة ذلك في المدرسة النقدية لما استثنيت أصحابها من حكمي في الكلام والفلسفة واعتبارهما من علوم الملة المزيفة في جدلهما حول نظرية الله ونظرية العلم. فالغزالي وضع مفهوم “طور ماوراء العقل” لجعل مجال المعرفة أوسع من المعرفة العقلية وهو يقصد الوجدانيات الصوفية. لكن ابن تيمية تجاوز ذلك فاعتبر أن كل تصور وراء تصوره أقرب إلى حقيقة الأشياء وأن هذا التعالي لا متناهي ومن ثم فعلم الإنسان ناقص دائما ولا يمكن أن يصبح محيطا لما في الوجود من أعماق جلها من الغيب المحجوب فتكون المعرفة الإنسانية وظيفة في مهمة الاستعمار والاستخلاف لا غير. وكانت الصيغة النهائية لنظرية المعرفة التي تنفي المطابقة من نصيب ابن خلدون وقد وضعها بصورة تؤكد على وجهيها: 1. الوجود أوسع من الإدراك. 2. لكن الإدراك الإنساني لا يفقد بذلك جدواه المعرفية. وهو ما يعني أنه حدد نظرية في المعرفة لا تدعي علم الشيء على ما هو عليه دون أن تفقد جدواها. واستنادا إلى هذا التحديد قدم “لطيفته” في نقد علم الكلام ليبين أن أثبات وجود الله عن طريق السببية أو التوجيه (الممكن والواجب) لا فائدة منه لأن السببية قطعها تحكمي وفاعليتها مجهولة ومن ثم فالأفضل الانتقال مباشرة للعلة الخالقة أو الله والتوجيه يرد عليه بأن فيه مصادرة على المطلوب. فالجهات (الممكن والواجب والممتنع) لا معنى لها إلا إذا افترضنا الوجود قبلها لأنها أقسامه. طبعا هو لم يشرح الامر على هذا النحو لكن فكرته تقتضيه. والوجود المقسم إلى الجهات ليس جهة بل هو أصل الجهات فإذا لم نفترضه قبلها لم يكن بالوسع التوجيه ومن ثم ففي التوجيه مصادرة على المطلوب. فالمطلوب هو أثبات الوجود مع إضافة صفة الوجوب. والوجوب مشروط بالإمكان لأن ما ليس بممكن لا يمكن أن يوجد فضلا عن أن يكون واجبا. فيكون الواجب كما قال كنط هو الممكن الذي يوجد لمجرد إمكانه. وهذا هو الوجود المحض وهو النقيض التام للعدم. فيكون ما تمت المصادرة عليه هو ما يدعى اثباته. فتكون لطيفة ابن خلدون قد لخصت كل ما يعاب على الجدل الكلامي الفلسفي أو ما يدين به أحدهما لآخرهما مع تبادل الدين. فالمتكلمون يأخذون من الفلاسفة أداة الصوغ او الاستدلال (المنطق ونظرية المعرفة المطابقة) وبعض مقدماته (من الرواقية بداية ومن المشائية الخليطة بالأفلاطونية المحدثة غاية). والفلاسفة -صادقين أو منافقين-يستمدون من الكلام ما يبدو قبولا بالوحي مع تأويله بما يلغي الحاجة إليه وبنحو ما بعض الانسنة لمفهوم الرب لأن الرب الفلسفي غير الإله الديني إذ إن المحرك الاول (أرسطو) أو حتى المثال الأسمى (افلاطون) لا علاقة مباشرة بينه وبين الإنسان بخلاف الكلام. والمعروف عن الفلاسفة اليونان -وخاصة أرسطو وأفلاطون-أنهم يعتبرون ما نسميه نبوة كهانة وفوضى الخيال الذي يقرب من الجنون ولا علاقة له بمفهوم الوحي الدي من المفروض أن يكون منطلق المتكلم إذا لم يصبح فيلسوفا. وهذا هو مدار الخلاف الجوهري بين الفلاسفة والمتكلمين. وسأكتفي بالفارابي وابن رشد كما أسفلت. فللفارابي موقفان أحدهما ورد في احصاء العلوم والثاني وهو الاتم والأقل سلبية في كتاب الحروف. وبين أن الموقف الأول متحرر من الصبغة “الشيعية” بخلاف الموقف الثاني التي فيها نوع من الاعتراف بالمرجعية التي تواصل عمل المؤسس أو الإمام صاحب الشريعة. ذلك أن الموقف الثاني في الحروف ينسب إلى المتكلم وظيفتين فقهية وكلامية. فهو يواصل تشريع واضع الشرع بالقياس عليه ويواصل واضع العقد بما لم يحدده بدقة ولكنه جعله من جنس مواصلة الشرع. وهذا يعني أنه يشبه دور الكلام بدور الكنسية في المسيحية والمرجعية في التشيع. لكن الضمني في كلام الفارابي هو أن ذلك يصح على الأديان المتقدمة على الدين الفلسفي أو الاديان غير “العلمية” وهي عنده دون الاديان المؤسسة على الفلسفة. ومعنى ذلك أن رأي الفارابي فيه مهادنة مع الدين الإسلامي في صيغته الشيعية ونفي ضمني لصحة هذا الدين لأنه ليس مبنيا على الفلسفة. ولما كانت الحقيقة الفلسفية عنده قد اكتملت في فلسفة أرسطو وأنه لم يبق إلا أن تتعلم وتعلم فإن موقفه بهذا المعنى لا يختلف كثيرا عن موقف ابن رشد الذي سننهي به الكلام على الجدل بين الفلسفة والكلام في الحضارة العربية الإسلامية. وكما أسلفت فلا تخلو حضارة عرفت الفلسفة من هذا الجدل. وأقول “عرفت الفلسفة” لأن هذه ليست موجودة في كل الحضارات ويمكن أن أفترض أنها ثمرة الجدل الكلامي لما يتطور بتطور العلاقة بين الدين والعلم. فهي تصدر عن تطور الثقافة الدينية بقدر ما تتأثر بالثقافة العلمية والملاحظ أن الفلسفة الموالية للمرحلة الهيجلية حصل فيها عكس هذا المسار. فتعقد الثقافة العلمية وتعذر ملاحقة الفلاسفة لها جعل الفلسفة تعود إلى أصلها أو الجدل الكلامي ولكن ليس للأديان التي بؤرتها مفهوم الله بل لـ”الأديان” التي بؤرتها مفهوم الإنسان: وذلك هو ما يسميه أصحابه علم الكلام الجديد وما يسفيه الفلاسفة ما بعد الحداثة في علاقة بنفي قطبي المعادلة. ويمكن أن نسمي ذلك بميثولوجيا عديمة الرأس الإلهية والإنسانية لأنها ترد مرموزيا إلى آليات التاريخ الطبيعي في مجال السياسية ببعديها الاقتصادي والثقافي ورمزيا إلى آليات التاريخ الأدبي (أجناس الادب) في مجال التعبير عن هذه الجدليات الدنيوية وتصعيداتها القيمية. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى فكرة شديدة الطرافة وردت في شرح ابن رشد لكتاب الشعر (ارسطو): فبعد أن حاول بيان الآليات البلاغية المشتركة بين الشعرين اليوناني والعربي (قارن ذلك في 100بيت من أجود شعر العرب) ختم بالقول إن شعر اليونان لا مثيل له في شعر العرب بل في القصص الديني لا غير. وهذه الإشارة ذات صلة بمآل الفلسفة بعد أن عجزت عن ملاحقة الثقافة العلمية وعادت إلى أصلها الميثولوجي في فكر ما بعد الحداثة: فهي بهذا المعنى أقرب إلى فن الشعر منها إلى العلم وهو ربما المشترك بينها وبين الثقافة الدينية. لكن الدرامي فيها من إبداعها كالشعر بل ما تلحظه من احداث التاريخ. ما يعني أن الفلسفة بعد هيجل تحولت إلى إيديولوجيا تدعي ما كان من وظيفة الدين والعلم وهي إيديولوجيا مدارها فلسفة التاريخ والسياسة أو العلاقات البشرية حول رهانات الوجود الدنيوي مع شيء من توابل الكلام في الوجوديات المعبرة عن أحوال النفس كما هو بين من الهيدجوريات المتعامقة. ولذلك فالعودة إلى ما قبل سقراط ليس وليد الصدفة بل هو تعبير عن هذا الطلاق بين العلم والفلسفة والعودة إلى الاصل أعني العبارة الميثولوجية عن علاقة الإنسان بما يتعالى عليها تعبيرا عنها بأسلوب شعري وأدبي لعل محاولات نيتشه هي باكورتها بميل إلى سلطان الطبيعة فنانا بمعزل عن الخير والشر. والفنان بـ”معزل عن الخير والشر” هو في الحقيقة قول بوحدة الوجود بعد بتر رأسي المعادلة الوجودية: أي موت الله (هيجل ونيتشة) وموت الإنسان (فوكو) في لغة أصحاب هذه الرؤية: فلسفة ما بعد الحداثة تجاوز للفرق بين جنس العلم وجنس الادب والعودة إلى وحدة الوجود الطبعانية أو التاريخانية. وبهذا ففلسفة ما بعد الحداثة صوفية بالجوهر إما بالمعنى الذي عرفته الفلسفة اليونانية قبل انفصالها عن الميثولوجيا على يد أفلاطون وأرسطو أو بعده عندما صارت أفلاطونية محدثة في العصر الهلنستي ومثل ذلك حدث عندنا عندما سيطر فكر تصوف وحدة الوجود وخاصة بعد ابن عربي وها هو يتكرر منذ هيجل. ما بعد الحداثة من ثمرات فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الهيجليتين. ومن الاولى نتجت التيارات الماركسية ومن الثانية نتجت التيارات الوجودية وعنهما تولدت وحدة الوجود الطبعانية (البحث عما فوق الإنسان أو الفنان بمعزل عن الخير والشر) ووحدة الوجود التاريخانية (النكوص إلى ما قبل الإنسان).

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي