علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه

ولو فهم الفقهاء ومؤصلو الفقه هذه الحقيقة لما ظنوا أن عملهم يقتصر على خطأين الأول اعتبار النص مدونة أحكام ثم محاولة توسيع هذه المدونة بالقياس عليها أو بكل فنيات تمطيط أحكام مضمرين أمرين كلاهما مستحيل. فلا توجد مدونة إلا وهي متناهية ولا توجد نوازل إلا وهي لامتناهية.

التكليف لا يقتصر على التنفيذ بل يتضمن التشريع. الإنسان مكلف بالتشريع الذي يتصف بما اشترطه القرآن في التشريع ومن ثم فالقرآن لا يشرع للنوازل بل يشرع لتشريع الإنسان للنوازل لأن التشريع من أهم الأفعال التي يحاسب عليه الإنسان بوصفه مكلفا بها بشروط الاستخلاف.

لكن الخطأ الثاني وهو الاخطر هو أن هذا الفهم الرديء أدى إلى عدم السهر على شروط استقلال القضاء وضمانة حق المتهم وخاصة التمييز بين القضائي والتشريعي. فعدم توفر شروط استقلال القضاء وترك الامر كله لشجاعة القاضي أو لضميره وعدم توفير حماية المتقاضي: دليل على وهم قيس القاضي على النبي.

وتضخيم دور الفقهاء جمعا للسلطتين التشريعية والقضائية هو خدعة: ذلك أن الفقيه إلا ما ندر خاضع للحاكم المستبد والفاسد فيكون مجرد خدعة لاستحواذ الحاكم على السلطتين التشريعية والقضائية بخدعة تشبه خدعة دوارق رجال الأعمال الفاسدين: الفقيه واجهة للحاكم للتحيل على الشرع.

أما عندما يكون الفقه تشريعا والفقه قضاء أمرين يستمدان من الآفاق والانفس بما يتجلى فيهما من آيات الله التي يرينها بالتجربة الفعلية في الحياة السياسية والخلقية للجماعة فإن الاجتهاد الإنساني تشريعا وقضاء سيركز على المؤسسات التي تحمي السلطتين وتحررهما من الاستبداد فتقرب من العدل.

وهذا هو القصد بتشريع التشريع: الله يطلب الأمانة والعدل في الحكم بين المتنازعين. فإذا لم يكن الحكم محميا ليكون أمينا وعادلا فهو سيصبح أداة الظلم لأن من له عليه سلطان لن يكون الله بل سيده الذي يتحكم في مصيره. وكل ذلك وقع إعماله في الفقه وأصوله بسبب الخطإ الأول الذي وصفت.

وأعلم أنه سيتعرض علي ببعض الأسماء من كبار الفقهاء في التاريخ. لكن ذلك اعتبره من الشذوذ الدال على صحة القاعدة التي وصفت. ولا تصدقن من يتكلم على دولة الفقهاء في عصور الإسلام الزاهرة فهذه من الأكاذيب التي لا يصدقها عاقل. فالمستبد والفاسد لا يحكم معه غيره فيما يعارض مصالحه.

ما يحكيه حلاق عن الفقه اساطير تنافي حقائق الأشياء وطبائعها. فكل ما كان يعتبره الحاكم المستبد ضروريا لاستبداده وفساده يرغم الفقهاء على فتاوى تضفي عليه الشرعية ويمرر باسم الشريعة. طبعا توجد أشياء تضفي المصداقية على حكم الفقهاء في ما لا يعارض سلطان المستبدين لإسكات الرعية باسم الله.

وهو في الحقيقة كما في حالة الكنيسة مضاعفة الاستبداد: الاستبداد السياسي مضاعف هو استبداد الحكم واستبداد التربية. والأولى سلطان الدولة والثانية سلطان المجتمع والضحية في الحالتين بالعنف المادي للدولة والعنف الرمزي للتربية ضد ثورتي الإسلام: الحرية الروحية والحرية السياسية.

أعتقد أني بهذا الاستدلال الواضح والصريح أنهيت خرافة الحكم بشرع الله لأن الحكم كان ولا يزال عندنا يدعي ذلك حقيقة يراد بها الباطل: ذلك أن الله لم يعط للإنسان مدونة أحكام قانونية وخلقية بل أعطاه معايير إذا طبقها في كل افعاله تشريعا وقضاء وتنفيذا كان جديرا بالاستخلاف: تكليف.

فيكون من واجبه تحقيق شروط تطبيق هذه المعايير وهي مؤسسيا في مسألة الفقه العلم بسنن التشريع والقضاء والفصل بينهما ووضع المؤسسات تحمي القاضي والمتقاضي وتحقق شروط الموضوعية في الحكم المتحرر من تسلط الحكام وفساد القضاة الذي يختارهم الحكام للتنكيل بمن يريدون.

فالله وضع معياريين للقاضي بوصفه حكما بين المتقاضين: الأمانة والعدل. فيكون المطلوب تحقيق الشروط التي تحمي أمانة القاضي وعدله. وما يهدد أمانة القاضي وعدله هو الخوف من الحكام والطمع فيهم. وإذن فالله لا يشرع للنوازل بل يشرع لشروط شرعية تشريع الإنسان لها بالأمانة والعدل وحقوق المتهم

فالله وضع معياريين للقاضي بوصفه حكما بين المتقاضين: الأمانة والعدل. فيكون المطلوب تحقيق الشروط التني تحميهما. وما يهدد هما هو الخوف من الحكام والطمع فيهم. وإذن فالله لا يشرع للنوازل بل لشروط شرعية تشريع الإنسان لها بالأمانة والعدل وحقوق المتنازعين وضمانات الدفاع لهما كليما.

وأخيرا فلا وجود لأمانة وعدل في التشريع وفي القضاء إذا كانت السياسة حكما وتربية خالية من الحريتين الروحية (لا وساطة بين الإنسان وربه) والسياسية (لا وصاية على الإنسان في إدارة شأنه العام والخاص) لأن هذا الخلو يؤدي إلى ما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية فلا يبقى معنى للشرع أصلا.

وهذا كاف في الكلام على الفقه وأصوله ولأمر إلى الكلام وأصوله. فإذا كان القرآن لا يشرع للنوازل بل يشرع لتشريع الإنسان لها ولا يتضمن مدونات تشريعية فهو كذلك لا يتضمن مدونات عقدية ولا يطلبها بل هو يطلب تدبر الآفاق والانفس لتبين حقيقة ما يذكر به القرآن مما يوجد في الآفاق والانفس.

فالجوهري في الكلام كله ومصدر كل التهم المتبادلة بين مدارسه هو الكلام في الغيب ذاته الله وصفاته وكيفيات الحساب والعقاب ودعوى اثبات ما لا يعلم بالعقل بالعقل وهلم جرا من الخرافات التي لا تزيد المرء إلا تشكيكا في إيمانه وحيرة نهايتها تمني جل المتكلمين أن يهبهم الله إيمان العجائز.

فتكون ثمرة الكلام عين ما وصفت آل عمران 7 تعبيرا عن مرض القلب وابتغاء الفتنة لأن تضارب الآراء في الحقائق الوجودية التي تعتبر من الإدراكات الوجدانية تصبح مادة صراع بين آراء ليس لها ضابط منهجي يمكن الاحتكام إليه لحسم الخلافات ولهذه فهي تؤدي حتما إلى الحسم العنيف.

وطبعا لست أجهل أن ذلك ملازم لكل الثقافات الدينية التي عرفها الإقليم لكن ذلك لا يعني أن عمومه دليل على عدم السعي لتجنبه فهو أساس الحروب الطائفية في جميع الاديان لأنها مباشرة تتحول إلى دعوات توظف سياسيا وهو معنى وصف أصحابها بابتغاء الفتنة بمعنى جعلها علة حروب طائفية.

فما وجدت في الكلام حقيقة علمية واحدة فيما يسمى بدقيقه ولا يمكن أن ينتظر المرء حقيقة عقدية سوية واحدة فيما يسمى بجليله. جليله كلام في الغيب المحجوب (ذات الله وصفاته والنبوة والبعث) وثرثرته في الطبيعيات وفي الإنسانيات من مبتذلات المرحلة الهلنستية من الفلسفة أي المنحط منها.

ولا يعني ذلك أننا ننفي الحوار حول فهوم المرجعيات الدينية. لكن هذا الحوار يخضع لآدابه القرآنية: فهو يقول إن الغيب محجوب وهو يقول إن الله ليس كمثله شيء وهو ما يعني أننا لا حاجة للكلام لفهم أن ما يقوله القرآن ويبدوا تشبيهيا هو أسلوب تبليغ مشروط بقبوله كما هو مع حرز ليس كمثله شيء.

والدليل أن القرآن يقول في الإسراء بأن المؤمن يمكن أن يدعو الله بأي اسم من أسمائه الحسنى وهي مناظير تصور الإنسان لله وفيها شيء من التشبيه لكنه منفي بليس كمثله شيء. وبين صفات الله وصفات الإنسان من علل التشبيه ينفيها إطلاق صفات الله ونسبية صفات الإنسان وهو فرق كيفي وليس كميا.

مثال ذلك الأبرز هو علم الله فهو علم محيط وعلم الإنسان علم لا يحيط بشيء وليس هذا الفرق كميا بل هو كيفي. الإحاطة تعني انه لا شيء من المعلوم يخفى عن الله وعدمها يعني ما أن ما يدركه الإنسان من أي شيء لا يكاد يساوي شيء منه لأن المجهول للإنسان من الموجود هو اللامتناهي.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي