علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه – الفصل الثامن

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه

المشكلة في الفكر الإنساني وخاصة الديني والفلسفي منه سرعان ما ينتقل بمقتضى ما يترتب عليه في التربية من المحاولة الفرضية الاستنتاجية إلى وهم الحقيقة المطلقة فيصبح ما يظن خبرا صادقا عن الحقيقة إنشاء لفرضها على الاعتقاد. فتاريخ البشرية هو تاريخ أخطائها تبدعها ويعسر ان تتخلص منها.

والعكس صحيح وهو أخطر: فكل نظريات ابن عربي مبنية على تحليلات من هذا الجنس. فعندما نحول الإنشاء إلى خبر تتساوى جميع الاديان فيتسع قلبه حتى للكفر. فكون القرآن يقول “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني” لو كانت خبرية لاستحال أن يوجد إنسان لا يعبد الله ويعبد الأوثان.

وأكبر الأوثان التي يعبدها الإنسان هي الإنسان إما ذاته أو من يعتقد أنه يدين له بما يأمله فيكون وثنيا مرتين بعبادة ما يأمله وبعباده من يتصوره محققا لما يأمله. وبهذا المعنى فالغالبية الساحقة من العرب عبيد لعبيد وإلا لما وجد من بينهم من يقبل الاستبداد والفساد وتخريب البلاد.

فجل من يسمونهم علماء دين صاروا في الحقيقة دعاة لهذه الوثنية الخفية التي تجعلهم بعكس ما قال رسول جيس المسلمين لقائد الفرس: لسنا هنا لتحرير العباد من عبادة العباد حتى يعبدوا رب العباد حرية روحية (لا وساطة) وحرية سياسية (لا وصاية) بل العكس تماما كما يبين الموقف من ثورة الشباب.

والظاهرة ليست متعلقة بالرموز -المقابلة بين الخبر والإنشاء- بل هي مسالة جوهرية في الفكرين الديني والفلسفي. فمن دون هذا التمييز لا يبقى إلا الخلق ويزول الامر دينيا وسياسيا بمعنى أن الجماعة يمكن أن تقوم من دون قوانين. أما فلسفيا فإذا كانت الطبائع كافية فلا يبقى مجال للحرية.

فالحرية تعني أن وراء الموجود يوجد المنشود -بلغة ابن تيمية-بمعنى أن المقابلة بين الماهو والما ينبغي من شروط الحرية وإلا لكان كل ما يحدث، يحدث بمقتضى الضرورة وليس للإنسان اختيار. وطبيعي ان يكون القائلون بوحدة الوجود قائلين بذلك فيصبح الطغاة ظل الله في الأرض لزوال المسافة بينهما.

وضربت هذه الامثلة حتى أبين أني ليست ابحث في قضايا ميتافيزيقية بمعنى جدليات بيزنطية بل هي فلسفية تجمع بين مسائل الوجود الأعمق ومسائل الحياة اليومية في آن: ذلك أن مسائل الوجود الأعمق هي مسائل الحياة والغازها التي يعيها الإنسان العادي: شروط الكرامة والحرية ومناعة القيام الذاتي.

والان فلنتكلم في دور مستوى الرمزي من الإنسان في علاقة بمستواه الطبيعي (كونه كيان عضوي متعين في بدن) وبما نتج عن ذلك من قدرة إنسانية على استرماز كل الموجود: ما ذكرته حول نظام العالم الطبيعي أو تفاعلاته الاربعة ووحدتها التي هي نظام طبيع لا نعلم طبيعته لكننا رمزناه بمعادلات رياضية.

والقرآن دون ان يعطينا هذه التفاعلات ولا عباراتها الرياضية يقول لنا إنها من طبيعة رياضية (كل شيء خلقناه بقدر) ومن ثم فهو يدلنا على لغة الطبيعة الرياضية التي علينا ابداعها لتكون أداة الحوار مع الطبيعة التي جعلناها تتكلم: وهذا ما أقصده بالاسترماز ورمزه في القرآن تعليم آدم الأسماء.

ولما كان تعليمه الاسماء كلها غير ممكن عقلا إذا كان القصد خبريا فإن القصد هو أعطيناه القدرة على تعلمها وإبداعها وهو ما يمكن اعتباره بالاصطلاح الأرسطي قدرة بالقوة على تعلمها كلها بما جهز به الإنسان من قدرة الاسترماز التي هي الشرط الضروري للعلم دون أن يكون كافيا.

وهو ما قصده القرآن بأن تبين حقيقة القرآن تكمن فيما يرينها الله من آياته في الآفاق والانفس أي في الطبيعة وفي التاريخ ومن ثم في الشرط الثاني للعلم التجربة التي تمدنا المعلومات النقلية في حين الاسترماز يمدنا بالأشكال العقلية: علم الإنسان يجمع بين التجربة (نقلية)والنظرية (عقلية).

وعلى حد علمي فإن أول من صاغ ذلك صوغا علميا صريحا هو ابن تيمية: فهو يعتبر العلم الكلي في النقليات التجريبية في معرفة الموجودات الخارجية مستحيل وأنه دائما جزئي ولا كلية فيه إلا بالمقدرات الذهنية التي هي رياضية ومنطقية والتي يتحقق فيها العلم الكلي لأن العقل يبدع المعلوم وعلمه.

فتكون علوم الموجودات الخارجية -الافاق والأنفس-مشروطة بمضمون نقلي هو المعطى التجريبي الذي يطلبه العالم ليستعلم عن الموجودات الخارجية وشكل عقلي هو استرماز هذا المعطى بقيس ما يتجلى فيه من بنى منتظمة على البنى المنتظمة في الرموز الرياضية التي هي مبدعات عقلية نظرية.

وقياسا على دور المبدعات العقلية الرياضية في استرماز المعطيات التجريبية -قبليا أو بعديا- وفي الحقيقة قبليا كفرضية وبعديا كقانون-يمكن أن نقول إن السياسة بمعنى الدقيق ليس تسيير الشؤون العامة فحسب بل هي رياضيات العمل إن صح التعبير أو لنقل إنها استراتيجيات العمل.

فتكون نسبة الإبداع الرياضي لاستراتيجيات النظر عامة وفي الطبيعيات خاصة مناظرة لنسبة الابداع السياسي لاستراتيجيات العمل عامة والعمل في التاريخيات خاصة. والادب الراقي ومنه الاديان عند غير المؤمنين بها يجمع بينهما باعتباره ابداعا للمثل العليا التي بها يتميز المنشود عن الموجود.

وبهذا المعنى فكل أدب يصفه أصحابه بالواقعي ليس أدبا بل هو تاريخ منحط للموجود وليس ابداعا رفيعا للمنشود. ولهذه العلة فأنا اميز بين الميثولوجيا أو أساطير الاولين والقرآن. فهو مع وصف الموجود يحدد المنشود ويعتبر ما بينهما فسحة حرية الإنسان ودرجات تكليفه اجتهادا وجهادا.

ولأن الاسترماز شرط ضروري غير كاف للعلم فإنه فيه الصادق والكاذب وغاليه كاذب وهو من جنس إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم. وهو تأويل لآيات الله في الآفاق والأنفس إذا كان علميا أما إذا اقتصر على شرح النصوص فهو ليس علميا لأنه لا يوجد حكم يحسم بين التأويلات المختلفة.

والحكم الذي يحسم بين التأويلات المختلفة للآيات هو التجربة القابلة للتكرار بهف الامتحان. وذلك هو الاسترماز العلمي. فليس لكل النظريات الرياضية ما يناظرها في التجربة الطبيعية وليس كل الاستراتيجيات السياسية على ما يناظرها في التجربة التاريخية. فالرياضي تقدير ذهني خالص.

ويمكن اعتبار الاستراتيجيا السياسية في نسبتها إلى التجربة التاريخية من جنس الاستراتيجيات الرياضي في نسبتها إلى التجربة الطبيعية. فالأولى يتوبيا نظرية خالصة والثانية يتوبيا عملية خالصة: هو الاسترماز المطلق وبه يكون الإنسان مشدودا للمنشود ومتجاوزا للموجود.

والسؤال هو من أين للإنسان بهذه القدرة على التعالي على الموجود؟

كيف يطفو الإنسان على أمواج مجرى الطبيعة والتاريخ ليخرج من فوضاهما فيطلب ما ورائهما من نظام هو شرط فهمه لهما وشرط تمكنه من التحرر من سلطانهما عليه فيكون بهذا المعنى مكلفا بأن يكون خليفة فيهما؟

قصة استخلاف آدم الرمزية جعلت أهليته فيما لو عملته الملائكة لما شككت في جدارته بالاستخلاف عندما عبرت عن استغرابها من استخلافه رغم كونه يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ هي حكمت الموجود وظنت أن آدم مشدود إلى الموجود. لكن الله أعطاه قدرة الاسترماز فصار يتجاوزه إلى المنشود.

وما اعتبره قد مات في نخب العرب هو هذا الاشرئباب إلى المنشود. فمنشودهم صار موجودا بمعنى أن مثالهم الأعلى ليس ما يبدعه الإنسان من استراتيجيات رياضية لاسترماز الطبيعة ولا من استراتيجيات سياسية لاسترماز التاريخ بل المستقبل عندهم هو إما في محاكاة ماضينا أو ماضي الغرب.

ليس لهم مثل عليا كل مثلهم دنيا. فما تحقق سواء في ماضينا أو في ماضي الغرب ليس فيه الطاقة الدافعة للإبداع بل هو يضخ فيهما عقلية الاتباع فيكونوا عبيدا ليس في كيانهم العضوي فسحب بل وفي كيانهم الروحي لأنهم فقدوا المسافة بين الموجود والمنشود: أخلدوا إلى الارض فصاروا لاهثين.

واللاهثون فاقدون للطموح المادي والرمزي: فهم يأكلون أكل الانعام ويفكرون تفكير الحمير. فلا يمكن لشعب حي أن يقبل بالسيسي حاكما أو بمراهقي الثورة المضادة في الخليج أو بكل حكام العرب ونخبهم الدائرة في فلكهم أي كل من ثار عليهم شباب الأمة طلبا للمنشود أو شروط الحرية والكرامة الإنسانية.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي