لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه
كان من المفروض أن أتكلم في التصوف وأصوله مباشرة بعد الفقه وأصوله باعتبارهما عادة يتحدان في كونهما ممثلين للدين العملي (الظاهر والباطن) لكني لم افعل وأجلته ليس لما بعد الكلام فحسب بل وكذلك لما بعد الفلسفة وذلك لأني لا أسمي تصوفا مجادتي التقوى والاستقامة أو الزهد.
صحيح أن ذلك مخالف للمعتاد. لكن اتباع المعتاد إذا فقد مبرره يصبح من فضائل البعث الجدي: ذلك أن التصوف غير الزهد وغير مجاهدتيه أعني مجاهدة التقوى والاستقامة بل هو مزيج منهما يصعب تصديقهما عند من يدعي تجاوزهما إلى ما يسميه مجاهدة الكشف القصدي ومن مسائل كلامية وفلسفية بوحدة الوجود.
وقد أطنبت الكلام عليه في المحاولة التي سبقت هذه عند كلامي على العلاقة بين الذاتين الآلهة (الإنسان) والمألوهة (الله) وأصناف الحلول الخاصة بهذه العلاقة وأهمها صوفية بالمعنى الذي أؤخره لكون المجاهدتين فيه ليستا إلى ظاهرة وباطنه هو مسائل كلامية وفلسفية حول معاني وحدة الوجود المختلفة.
وهذا هو العلم الذي اعتبره زائفا لأنه في الحقيقة يبدو معارضا للمعادلة الوجودية بعمليتي ادغام قطبيها إما في الطبيعة أو في التاريخ بين الحدين الاقصيين الذي يلغي الإنسان بما يشبه التمانع والذي يلغي الله بنفس التمانع لكأن القطبين بالتمانع يؤولان إلى مقابلة الوجود والعدم تناوبيا.
وبهذا المعنى فالتصوف الذي يبدأ بالعمل وينتهي ميتافيزيقيا وكلاميا بالمقابل مع الكلام والفلسفة اللذين يبدآن نظريا وينتهيان إلى العمل يتطابق معهما وإن بعكس البداية والغاية وهومن ثم لا يفهم من دون تقديم الكلام والفلسفة عليه حتى وإن خالفت العادة ووهم اعتباره فقه باطن لأنه فلسفة باطنية.
وسأعتبر منها كل ردود الفلاسفة على نقد المتكلمين والفقهاء لهم ومن ثم فما أسميها فلسفة من علوم الملة هو هذان الوجهان من الجدل بين الفلاسفة ومن يزعمون الدفاع عن الدين من الصفين لأن الفلاسفة حتى في هجومهم على علماء الملة من الفقهاء والمتكلمين يميزون بين فكرهم والدين إما نفاقا أو بصدق.
وأميز في هذا الجدل الكلامي الفلسفي من أطلقت عليهم اسم المدرسة النقدية أعني الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لأن نقدهم للفلسفة والكلام والفقه كان فلسفيا طريفا يتجاوز الفلسفة ما بقي من الفلسفة اليونانية في تقاليد المشرق والمغرب بذاتها وفي الكلام من ثقافتنا لتجاوزهما بدرجات مختلفة.
ولهذه العلة فما يمكن أن أقوله هنا لا يكاد يختلف عما قاله الغزالي عامة وعما قاله ابن تيمية في نقد نظرية النظر الفلسفية والكلامية وعما قاله ابن خلدون في نقد نظرية العلم الفلسفية والكلامية. لأن ما أضيفه إلى هؤلاء هو استخراج مضمراته أقوالهما ونقد عدم استثمار عملهم بحكم عطالة عصرهم.
والغريب أن هذه العطالة ما تزال سارية المفعول: فأدعياء الحداثة من العرب بتأثير من صاحب اليسار الارسطي (وصفا لابن رشد) ما زالوا يعتبرون الغزالي ظلاميا وابن تيمية إرهابيا وابن خلدون لا يشفع له عندهم إلى سوء فهمهم وخلط ثورته بعقم فكرهم الماركسوي أو الاجتماعوي السطحي.
وطبيعي جدا لمن اطلاعه على التراث الفلسفي اليوناني والعربي والغرب الحديث لا يتجاوز فكر المثقف العامي الذي يخلط بين التقريب الجمهوري للصحافة الفلسفية والفلسفة وما يمثل فيها المراحل الثورية التي تنقلها من روح عصر إلى روح عصر آخر وخاصة من القديم إلى الحديث في نظرية المعرفة.
وسأبدأ بكلام الفلاسفة بالمعنى التقليدي على الكلام (الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد) ويمكن القول إن أقل الرادين حدة على الكلام هو ابن سينا حتى إن ابن رشد يسحبه منهم لاعتقاده أن إضافاته تحريف للفلسفة الحقيقية التي هي عنده فلسفة ارسطو. لكن الأعنف هو ابن رشد والفارابي.
أما الكندي فقد كان كلامه عاما حول رجال الدين -ولعله يقصد خاصة الصف الثاني في المحنة كما يتبين من رسالته للمعتصم. لذلك فكلامي سيقتصر على الفارابي من المشرق وابن رشد من المغرب وهما كما أشرت الاشد موقفا من الكلام وفكره علما وان الفارابي موقفه الثاني منه دون الأول حدة.
ويمكن إيجاز الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين – في كل حضارة- في مسألتين: مفهوم الله ومفهوم العلم أو الطريق الموصلة إليه والواصلة بينه وبين العالم عامة والإنسان خاصة. وبصورة تكاد تكون مطابقة لما درسناه في المحاولة المتقدمة على هذه: طبيعة التلازم بين الذاتين ويتبعها العالمان الوسيطان.
وقد قلت إنها تكاد تكون مطالقة لما درسناه لأنها ليست مطابقة بل شبيهة بها. ذلك أن علاقة الذاتين الآلهة والمألوهة ليست تجربة معرفية بالمعنى العقلي بل هي أقرب إلى المعنى الوجداني الروحي التي تعاش ويعسر أن تنقال. لذلك فهي شبه محنة يحاول الإنسان التحرر منها ولا يستطيع.
وهي تجربة وجدانية كونية ومن ثم فرغم ما فيها من تأثير الثقافة التي هي بالجوهر متعددة بتعدد الشعوب وتجاربها وخاصة ولسانها فإنها مع ذلك ملازمة للإنسان من حيث هو إنسان وذلك هو مقصود القرآن باعتبار الديني في الأديان من فطرة الإنسان وهو جوهر الاستخلاف في رؤيته.
ولا بد هنا من فهم صيغة “إني جاعل خليفة”. فهي خبر عن إنشاء يتحقق عندما يرتقي الإنسان بوعي إلى شروط أهلية الاستخلاف. فالله لم يقل إن جعلت آدم خليفة بل قال إني جاعله بمعنى يشبه الفرق بين ما هو بالقوة وما هو بالفعل. فالإنسان كإنسان خليفة بالقوة ويصبح بالفعل عندما يثبت جدارته بها.
وكل أدلة المتكلمين والفلاسفة على وجود الله ووحدانيته وصفاته كلها بلا استثناء يوجد في القرآن ما هو أفضل منها منطقيا وإقناعيا ما يغني عن جدلهم والأهم هو تضمنه البعدين الغائبين فيهما أعني الطابع الوجداني للتجربة الروحية وتحديد منزلة الإنسان باجتهاده وجهاده لإثبات أهليته للخلافة.
ولا أحد يصدق أن الله كان بحاجة للمراهنة مع ابليس على امتحان الاجتهاد والجهاد لأثبات الاهلية لكن ذلك من شروط إفهام الإنسان بأن منزلته الوجودية هي حصيلة هذا الاجتهاد والجهاد لإثبات أهليته للاستخلاف. والاستعمار في الأرض غني عن الاختبار لأنه مقوم عضوي أما الاستخلاف فمقوم روحي.
وبذلك نفهم صيغة “إني جاعل” في الأرض خليفة: فجاعل تشبه المشروع الذي سيتحقق بما يبذله المجعول من اجتهاد وجهاد ليثبت أهليته للتكليف بهذا المشروع. والمشهد كله غايته بيان طبيعة المشروع: فالله لم ينف وجاهة تشكيك الملائكة في أهلية آدم للاستخلاف بحجتي الفساد في الارض وسفك الدماء.
ولو نفاه لما بقي معنى لاختبار الاهلية الذي تمثله حياة الإنسان في الوجود الدنيوي الذي يقترن بالآخرة من خلال هذا الاختبار للأهلية. لكنه أضاف الحجة التي تجعل الإنسان رغم أنه قد يفسد في الارض ويسفك الدماء له القدرة على التعالي بفضل ما جهز به من قدرة على التسمية أو شرط التعالي.
فلو لم يكن للإنسان قدرة التسمية أو الوجود الرمزي للمسمى في الاسم لاستحال عليه التعالي عن مجرى الوجود ولكان لا يستطيع التعالي عليه في اسمه ليراه قبل الغرق فيه ومساوقة له وبعده. فعالم الأسماء أو عالم الرمز هو شرط الانفصال عن عالم الأشياء حتى تمتحن المسميات في نظام تسمياتها.
ونظام الأسماء في صلته بنظام المسميات يجمع شرط الصفات الخمس التي تجعل الإنسان إنسانا: فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود هي مقومات كيان الإنسان وهي تنتسب إلى الوعي الذي هو عين نظام الأسماء الوصل بين روح الإنسان ونظام الأشياء فيه وخارجه وهي شرط الوعي بالأحياز.
فنظام الأشياء إذا غرق فيه الإنسان يحول دونه وتجاوز الهنا والآن فيغيب عن مفهوم المكان والزمان الارحبين ويصبح كيانه المادي لصيقا بتوالي نقاط المكان ولحظات الزمان ولا يصل بينها واصل لكأنها ذرات متوالية كل ذرة مكانية وزمانية لا صلة لها بما تقدم بوما تأخر عنها فتغيب الطبيعة والتاريخ.
وفي هذه الحالة لا يكون بوسع الإنسان أن يعتبر فيختبر. عودة الإنسان على ذاته شرطها إذن القدرة على التسمية وهي ما عرفه القرآن في سورة الرحمان بتعليمه البيان. فالبيان الأصلي هو التبين أي بيان الذات لذاتها لكونها ذات مستويين هما بنية الوعي: فالوعي بأي شيء ملازم للوعي بالذات.
والفسحة بين الوعي بالذات الملازم للوعي بأي شيء آخر هي الفسحة بين المسمي والمسمى أو التبين الشارط للبيان. لذلك فإني جاعل في الارض خليفة تعني إن خالق كائنا ومجهزا له ليكون قادرا على التعالي على ذاته العضوية ليصل إلى ذاته الروحية التي لا تتحقق فعلا إلا بما يثبته من أهلية لها.
ومن عدله تعالى أنه عرض هذه الأمانة على كل الموجودات فلم يقبلها إلا الإنسان وظلم نفسه بقبولها لأنها ليست مهمة سهلة: فالاجتهاد في النظر والعمل والجهاد فيهما هما شرطا الاهلية لأن المطلوب من الإنسان فيها ليس واجب النتيجة بل واجب الوسيلة بالمعنى القانوني للكلمتين بشرط الصدق فيهما.