لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه
وها قد حان آوان الكلام في المعادلة الوجودية بوصفها الاسترماز الوجودي الذي يمكن استخراجه من بنية القرآن سواء آمنا بكونه وحيا أو ابداعا ادبيا من الرسول وقصدي أن ما سأقوله لا علاقة له بالإيمان أو بعدمه لان الأمر يتعلق بما في القرآن من استرماز وجودي بأسلوب درامي مشاهده أبلغ من الحجاج.
فالدراما تعني مشاهد أفعال وليست استعراض اقوال. والافعال تعني وجود شخصيات كما في المسرح كل منها يمثل أحد مقومات الدراما التي هي عرض للأفكار في شكل افعال حية بين شخوص الدراما: وهذه المقومات هي عناصر المعادلة الوجودي المسترمزة في المقرآن.
ولن اهتم بكل الشخوص فبعضها شبه كومبارس لان الدراما تدور بين شخصين: الله والإنسان. أما الملائكة وإبليس إلخ. فهم من متممات الدراما لكن دورهم ثانوي ولا يعني المعادلة الوجودية. والدراما تجري في عالمين الدنيا ثم عالم وراها سابق ولاحق عليها. العقدة هي الاستخلاف شروطا ونتائج قبل وبعد الدنيا.
واختيار هذا الاسلوب للرسالة الخاتمة بوصفها تذكيرا وتحذيرا بأمثلة من التاريخ الروحي والسياسي للإنسانية هدفها التبليغ المتحرر من فروق الالسن بين البشر لأن من وظيفة الدراما أنها مشاهد محسوسة ومن ثم فهي مفهومة ولغتها غير الدرامية قابلة للترجمة لأنها من جنس السيناريو للمشاهد.
المشكل الأعوص في قراءة القرآن هو أن البطلين فيه الله والإنسان -النبي مخاطب وكأنه متفرج على الدراما والمطالب بتبليغها وتعليمها للامة-كلاهما خالق ومخلوق وآمر ومأمور. فالمؤمن يؤمن بأن الله خالق وآخر للإنسان وغير المؤمن يرى العكس (فيورباخ). لكن الأمر صحيح بنحو ما.
فالله خالص وأمر حقا. لكن الإنسان خالق لصورته عن الله وعن امره وهو يخلقهما بقيس الله عليه بمعنى أن الإنسان لا يعلم الله إلا بالانتروبومورفية أي بمحاولة تصور الله على مقاسه حتى لو أضاف ليس كمثله شيء. فيبدو وكأن بين الله والإنسان ما يشبه دليل التمانع: ما ينسب لاحدهما ينفى عن ثانيهما.
أما مسرح الدراما أو الركح الذي تجري فيه الدراما فهو الآفاق والأنفس وما يتجلى فيهما من آيات تشير إلى نظامهما وإلى ماورائه أو إلى العالم السابق واللاحق بالقياس إلى الدنيا طبيعة وتاريخا كلف الإنسان فيهما باستعمارهما وبالاستخلاف فيهما ويحاسب على رهان الله عليه ضد موقف إبليس.
فتكون المعادلة الوجودية: قطبان هما الله والإنسان وسيطان بينهما هما الطبيعة والتاريخ وجها الدنيا ووجها الآخرة السابقة واللاحقة بما فيهما من آيات الله ثم العلاقة المباشرة بين القطبين. ويمكن أن نكتب المعادلة على النحو التالي: نضع الطبيعة بما ورائها والله والإنسان والتاريخ بماورائه.
وتلك هي الدراما التي تلخص مضمون القرآن كله: لقاء مباشر بين الله والإنسان ولقاء غير مباشر بتوسط الطبيعة وما ورائها والتاريخ وما ورائه واعتبار ذلك مجال التذكير والتحذير من القطب الاول (الله) إلى القطب الثاني (الإنسان) مع نسبة الخلق والامر لكليهما بمعان مختلفة.
فالمؤمن يعتبر الله هو الخالق والآمر. وغير المؤمن ينسب ذلك لنفسه أو للطبيعة والتاريخ. وكلاهما رايه صحيح مع اختلاف المعنى. فصحيح أن الإنسان يخلق صورته عن الله ولا يخلق الله بخلاف ما يتوهم فيورباخ. ذلك أنه حتى لو سلمنا لهم أن الطبيعة تخلق فذلك دليل على أنهم حيثوا الله فيها.
وهو المعنى الاول لوحدة الوجود الطبعانية. وعندما نسلم بان الإنسان هو الخالق فالقصد هو وحدة الوجود التاريخانية وذلك هو الأصل الهيجلي للتطور الفيورباخي في يسار الهيجلية. ووحدة الوجود طبعانية كانت أو تاريخانية لا تنفي المعادلة وإنما تدغم الكل الوسطين وتوحده في سيلان العود الأبدي.
وقد بينت في محاولات سابقة أن هذه المعادلة الوجودي هي عين بنية الوعي الإنساني بمعنى أن مسرحها ليس ما وصفنا فحسب الآفاق (الطبيعة والتاريخ وما وراءهما) بل إن لها مسرحا ثانيا هو الانفس. والقصد ليس النفس بمعنى موضوع علم النفس بل الذوات (مثل يقتلون أنفسهم أي ذواتهم) كائن الإنسان.
فلا شيء في نظام العالم طبيعية وتاريخه وما وراءهما ليس بعديم الصلة للإنسان فلبدنه صلة مباشرة بالطبيعة ولروحه صلة مباشرة بالتاريخ وما بينهما من عودة الثاني على الأولى بفعل الاسترماز لأن الإنسان يعيش في العالم الطبيعي بفضل استرمازه ليجعله محلا لقيامه واطمئنانه باستعلامه عنه.
وتوجد ظاهرة محيرة هي أن الرسول يتقمص ذلك كله فيصبح وكأنه المرآة العاكسة للمسرحين وكأنه الإنسان عامة والعالم الطبيعي والتاريخي وما بعدهما وهو ما قد يفسر ما يعانيه من عنت في تلقي الوحي إذ يتفصد عرقا وشبه غيبوبة تدل على نوع من التحول إلى مسرح اللقاء بين الذاتين الالهة والمألوهة.
وحال التجربة الروحية هذه هي ما يظن المتصوف انها يمكن أن تكتسب بالرياضة فيتوهمون ما لم يدعه الرسول لأنه لم يدع الكشف ولا العلم اللدني بالغيب بل اكتفى بالقول إن الغيب محجوب على الجميع بمن فيهم الرسل وأنه مبلغ لما تلقى ولم يكشفه برياضة واصطناع.
ورغم أن المعادلة الوجودية هي كما أسلفت عين معادلة الوعي الإنساني بما هو إنساني لأن الدراما بين القطبين ملازمة للإنسان مهما ألحد لأن الإلحاد لا يتعلق بها بل بأحد الخيارين اللذين ينبعان منها: فإما أنك تؤمن بأنك ليست القطب الرئيس وتسلم بوجود ألله أن أنك تنسب الحاجة إليه لغيره.
وغيره تحيثه إما في الطبيعة (وحدة الوجود الطبعانية) أو في التاريخ (وحدة الوجود التاريخانية) بتذويت الطبيعة نفسها كما فعل هيجل مع سبينوزا للجمع بين الجوهر والذات أو بين الموضوع الذات بمنطق الجدل والتوحيد بين النظامين الطبيعي والتاريخي من حيث القوانين الجدلية.
والنتيجة هي التفسير الطبعاني للتاريخ (الماركسية) وهو القصد بالمادية الجدلية التي تجعل التاريخ مبنيا على صارع المصالح الاقتصادية لا غير وتنفي كل وجود لما يعلو عليها إلى بوصفه حصيلة ترقي المادة نفسها عندما تحصل التوليفة من نفي النفي: لكن ما حصل في التاريخ هو العكس تماما.
ما حصل هو أن ما يسمونه نظاما اشتراكيا لم يحصل منه إلا نسخة مسيخة في المجتمعات الزراعية لا الصناعية (روسا والصين كوريا الشمالية إلخ.. وهي لم تحصل كتطور طبيعي لهذه الجماعات بل لعنف مادي مستورد فرضته بعض النخب التي استعملت هذه الإيديولوجيا لاستعباد شعوبها وقولقتها.
والقولقة هي الدليل القاطع على أن الإنسان مهما تردت روحه لا يمكن أن يقبل المعاملة بمنطق القانون الطبيعي إلى بقهر مطلق مثل الذي حدث في “قولاج” ستالين وماو وغيره من زعماء طبعانية التاريخ والتعامل مع جماعة بوصفها قطيعا مثل الحيوان: وحتى هذا فهو يحدث باسم قيم خلقية محرفة.
فالماركسية متناقضة لأنها تقول بالمادية الجدلية وتهدف إلى قيم خلقية هي حرية الإنسان وكرامته والمساواة بين البشر. وهذه كلها مناقضة للقانون الطبيعي الذي لا يعترف إلا بالنسب بين القوى لأنه منظومة بنيتها تناغم التفاعلات الطبيعية الاربعة التي ذكرت في هذه المحاولة.
وإذن فالمعادلة واحدة سواء قبلنا بعناصره الخمسة منفصلة أو أدمجنا بعضها في الطبيعة أو في التاريخ وقلنا بوحدة الوجود بدرجاتها المختلفة وغايتها الوحدة المطلقة التي يعتبر صاحبها نفسه هو الموجود الوحيد والباقي هي إدراكاته وخيالاته التي لا وجود لها خارج ذاته إلا بوصفها إسقاطا منه عليه.
وكيفما كان الامر فالمعادلة الوجودي وبنية الوعي الإنسان وحبكة القرآن كدراما سواء آمنا بكونها وحيا أو من تأليف الرسول واحدة. وهي بهذا المعنى دليل حقيقتها بذاتها: فالقرآن ليس خطابا للإنسان من خارجه بل هو محفز لبروز ما في ذاته من هذه الحبكة والمعادلة الوجودية: إنه التذكير الخاتم.
وما من أحد تدبره صادقا في طلب الحقيقة التي هي عين كيان الإنسان في تجربته الوجودية إلا وانتهى إلى الإيمان بأن القرآن بحق معجزة ليس بالمعنى الذي يعتبره للتخويف بخرق العادات بل بالمعنى الذي يعتبر نظام الكون الطبيعي والتاريخي يقتضي العلاقتين بين الله والإنسان مباشرها وغير مباشرها.
والعلاقة المباشرة نزاعية بين الذاتين الحريتين المستخلف والخليفة. والعلاقة غير المباشرة هي التي تمكن بعد البحث العلمي فيها من اكتشاف صدق القرآن فيما يقوله عن هذه العلاقة التي تجعل الإنسان بوصفه مكلفا مسؤولا على اجتهاده وجهاده بمعايير العصر: الوعي بالخسر أصلا والأربعة الباقية فروعا.