لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلوم الملة ليست في النصوص بل فيما تحيل عليه
لأني اعتقد أن الشباب بجنسيه قد قام بالواجب وأكثر وآن أوان أن يلحق بهم جيلنا فيحسم ما لا يستطيع الشباب حسمه في مستواه النظري والعقدي رغم تقدمه في الحسم العملي والسياسي: الخروج من حالة الطوارئ التي دامت أربعة عشر قرنا بسبب القوانين الاستثنائية التي حرفت دستوري الأمة العملي والنظري.
حاولت صوغ الإشكالية بأكثر وضوح ممكن منذ بداية الثورة وقبلها بدون الوضوح الذي اعتقد أني بلغت إليه خلال محاولة قراءة القرآن الكريم قراءة فلسفية وإعادة النظر في تاريخنا السياسي والفكري طيلة أربعة عشر قرنا أعني ما مر منه خلال المدة الفاصلة بين الفتنتين الكبرى بداية والصغرى غاية.
وحتى أكون أوضع المدة التي مرت بينهما والتي أحياها كاريكاتور التأصيل الذي بلغ الذروة في داعش السنة (الابن لادنية) داعش الشيعة (الخمينية) اللتين أحيتا الفتنة الكبرى وداعش الأنظمة القبلية التي تدعي الأصالة والحكم الإسلامي والأنظمة العسكرية التي تدعي الحداثة والحكم بالعلماني.
وينبغي الا ننسى أن الذين أسسوا دولة الإسلام ومكنوا للرسالة الخاتمة كانوا كلهم شبابا أحاط بالرسول وخدم الثورة بصدق وتفان جعل المسلمين يحققون معجزات لا يوجد في العالم من لم يعبر عن اعجابه بها وخاصة جل فلاسفة الغرب الحديث بمن فهم من لا يخفي عداءه للإسلام والمسلمين.
لكن هذا النجاح الاول لم يتله ما كان ينبغي أن يتله: سرعان ما حدثت الفتنة قبل أن يستكمل البناء فنكصت الثورة إلى سنن النظامين المحيطين بموطن البداية أعني المناذرة والغساسنة وما تعودوا عليه حكما وتربية لا علاقة لهما بقيم الثورة الإسلامية التي آلت إلى نقائض امكاناتها التي لم تتجل.
وهدفي من هذا العمل هو إطلاق هذه الإمكانات التي لم تتجل لأن الفتنة الكبرى حالت دون النضوج بعد أن تحققت شروط الثورة الخمسة ولم تؤت أكلها:
المشروع في القرآن
والانطلاقة لأولى (الرسول)
المركز المكاني (الصديق)
المركز الزماني (الفاروق)
وحدة المرجعية (ذو النورين) ووحدة الكل
ولأول مرة سأقول ما أعلم أنه سيغضب الجميع وهو مدلول ما وصفته بفساد علوم الملة الخمسة: فما يفاخر به المسلمون اليوم من إنجازات حضارية حصل رغم أنف أصحاب هذه العلوم بمعنى أنها ثمرة ما في القرآن من صمود أمام تحريفاتهم وما في الارض التي فتحت من تراث صمد أمام تخريف أصحاب هذه “العلوم”.
فانفتاح القرآن على الآفاق والانفس مجالا للبحث العلمي الذي يطلب آيات الله فيها هو الذي لم يلغ البحث الرياضي وتطبيقه التجريبي في قوانين الطبيعة والخلق (كل شيء خلقناه بقدر) والبحث السياسي وتطبيقه التجريبي في سنن التاريخ والأمر (الاستخلاف والتكليف) هما سر بقاء الحد الأدنى من العلم.
ولولا تأكيد الرسول على ضرورة طلب العلم ولو من الصين لكانت العلوم الزائفة قد قضت على شروط الاستعمار في الارض (علوم الطبيعة وخاصة الرياضيات) وشروط الاستخلاف فيها (علوم التاريخ وخاصة السياسة) ورغم ذلك فقد توقفت بسبب حصر العلوم فيما لا يعلم بطبعه: التخريف حول الغيبيات.
والمؤلم حقا هو أن القرنين من محاولات النهوض والتدارك يجدان من يعيدنا إلى نفس التخريف الذي يتصور معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ موجودة في النصوص وليست فيما قال القرآن إنها موجودة فيه أي الآفاق والأنفس وما منه يستمد كل أدلته في محالة تذكير بالبشر بشروط الاستعمار والاستخلاف.
وسأعتبر هذا الفصل تعليقا على فصول المحاولة السابقة الخمسة فآخذ علوم الملة الخمسة وبيان فسادها رغم أنها أدت وظيفتها مدة حالة الطواري التي دامت كما أشرت أربعة عشر قرنا والتي حالت دون الاستفادة من الثورة الإسلامية التي تهدف إلى تحرير الإنسان فردا وجماعة روحيا (لا وساطة) وسياسيا (لا وصاية).
وسأبدأ بأول علوم الملة تأسيسا أي الفقه وأصوله. فأساس التحريف فيه هو توهم العلماء أن الإنسان العادي قادر على الحكم السياسي والخلقي مثل النبي فاعتبروا ما في القرآن من أحكام هو الشريعة التي يمكن اعتمادها التأسيس القانون والاخلاق موضوعي الفقه وأصوله: نماذج نبوية وليست في متناولنا.
ولآخذ مثالا بسيطا حتى أوضح القصد: عندما نحكم في حد السرقة بقطع اليد. فيمكن أن نقول إن النبي يعلم الحكم مثلنا ويعلم مناطه في الوجود الفعلي بصورة لاريب فيها. لكن أحكامنا نحن مهما بلغت قدرتنا المعرفية لا يمكن ان نصفها بمثل هذا الوصف من اليقين. فهل” نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر”؟
“سرائر” من؟ السارق أم القاضي أم الحاكم ولا شيء يثبت أن سرائرهما هي مع العدل: هل نسينا أن النبي اعتبر من بين ثلاثة قضاة اثنان أقرب إلى جهنم منهم إلى الجنة؟ السرائر ظن القصد بها سرائر المتهم بالسرقة وغالبا ما يكون من المستضعفين لان المستكبرين هم حاميها حراميها.
ولهذه العلة فقد أصبح ما يسمى بتطبيق الشريعة من جنس الحق الذي يراد به الباطل: كلما كان النظام مستبدا وفاسدا استعمل هذا الشعار حتى يظن أنه بحكم بشرع الله وهو لا يكون كذلك إلا إذا توفرت شروطه فكان القاضي والحاكم وليس المتهم وحده مؤمنا حقا بشرع الله ومتصفا بالأمانة والعدل.
لذلك فشرع الله في القرآن نماذج للحكم به إذا توفرت شروط القضاء العادل والامين وشروط الحكم غير المستبد والصالح. وهذا كله ينطبق على الرسول وربما على صحابته الاول لكنه لا يوجد أبدا في أي جماعة عادية من واجبها أن تعتبره نماذج يقاس عليها بشروط الممكن للإنسان العادي في الجماعة العادية.
ولذلك اعتبرت القرآن لا يشرع مباشرة بل يشرع للتشريع المقبول قرآنيا: هو يحدد الشروط التي تجعل التشريع الإنساني مشروعا أي معبرا عن امتثال الخليفة للأوامر المستخلف ونواهيه بخصوص شروط التشريع العادل والمحقق لشروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف.
فالإنسان الخليفة ليس مكلفا بتطبيق شريعة بل بوضع شريعة تطبق شروط شرعيتها وفيه يكمن اجتهاده العملي تماما كما أنه ليس متلقيا لعلم مكلف بحفظه بل هو مكلف باكتشاف علم الطبائع وعلم الشرائع وفي ذلك يكمن اجتهاده النظري والاجتهادان يصبحان جهادا إذا حققا شروط الاستعمار وأهلية الاستخلاف.
فالقاضي مثلا بما هو حكم يجتهد للوصول إلى الحكم العادل ولا يكتفي بتطبيق نص سابق حتى وإن كان ذلك من شروط الموضوعية حتى لا يتحول الاجتهاد إلى مجرد رأي لا يضبطه ضابط. والوصل بين الاجتهاد والنص في القضاء هو المعايير التي تجعل النص هو بدوره جديرا بأن يعد قانونا.
فيكون القرآن محددا لهذه المعايير وليس مدونة نصوص تطبق مباشرة. لذلك فالتشريع القرآني تشريع للتشريع الإنساني وليس بديلا منه. هو يحدد للإنسان شروط التشريع العادل والامين للقيم القرآنية ولا يضع مدونة نصوص. وكل ما فيه من نصوص وهي قليلة هي نماذج لا يستطيع العمل بها بجدارة إلا النبي.
ذلك أننا متأكدون أن النبي لن يظلم أحدا ولن يخشى حاكما فوقه ولن يجانب الصواب في تطبيق الأحكام القليلة التي كانت ضرورية لبناء دولة الإسلام. وهي تبقى ضرورية نماذج للعدل المطلق الذي هو ليس في متناول الإنسان العادي. ولولا هذا الشرط لظننا الظنون مثل الملحد في العذاب الأخروي.
ذلك أن أي إنسان -خاصة إذا طبق معايير العصر الحالي على الاحكام الواردة في القرآن والتي يكون الحاكم فيها نبيا في الدنيا وربا في الآخرة لا يمكن أن يقبل بها العقل. فهي تبدو وكأنها تعذيب متجاوز للحدود القيمية التي يقول بها العصر الحالي. هل نقبل وصف الله تنزه وجل بالسادية في عذاب الآخرة؟
والمعلوم أن إشكالية التخليد في النار من المسائل الكلامية وأنا لا أريد البحث في الغيبيات وليس لي فيها جواب. بعض العلماء قالوا بنفي الخلود في النار وبنهاية العذاب. لكن المسألة التي تعنيني هي احكام الإنسان في الدنيا التي ينبغي ألا نضفي عليها الإطلاق: إنها أحكام نسبية بنسبية علمنا.
ولم أجد حلا يتوافق فيه العقل والنقل عدا الحل الذي ينطبق على العلم الذي هو قضاء معرفي: والفقه قضاء معرفي وقانوني وخلقي ومن ثم فمن باب أولى أن تكون شروطه أشد فتكون من ثم نسبية بنسبية علم القاضي والحاكم وموضوعيتهما فأحكام الشرع نماذج وهي أحكام أحكامه التي يستمدها من الآفاق ولأنفس.
وبعبارة وجيزة الإنسان مكلف ليس بتطبيق أحكام سابقة على الأحداث الدنيوية بل بتطبيق معايير سابقة على أحكامه حتى تكون أحكاما يقبلها الشرع الإلهي بوصفه شبه توصيات من المستخلف للخليفة. ولو قسنا أي خليفة لأي حاكم دنيوي لكان الأول محددا لمعايير للثاني وتاركا له حرية العمل في إطارها.