علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم الكلام تكوينيته بشكليه القديم والجديد

ولا بد هنا من مقارنة سريعة للعلاقة بين أفلاطون وأرسطو ودورهما بالنسبة إلى الفكر القديم دينيه وفلسفيه وبين كنط وهيجل ودورهما بالنسبة إلى الفكر الحديث دينيه وفلسفيه لأن ذلك من شروط فهم العلاقة بين اللاهوت العقلي في الفكر الديني واللاهوت العقلي في الفكر الفلسفي بصورة عامة. ومعنى “بصورة عامة” تعني في آن ما يندرج فيه الفكران الديني والفلسفي عندنا إيجابا وسلبا. فهو يندرج فيه إيجابا بالانتساب العام إليه لأني لا أسمي فكرا ما كان خصوصيا لحضارة دون حضارة وفي ذلك أختلف مع من يعتبر أهمية الفكر في خصوصيته لكأنه لا يميز بين الفكر والفلكلور الشعبي. ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن الكلام في البعد البراجماتي أو التداولي في الفكر لا يعني الخصوصية في شيء فالتداولية الفكرية هي تداولية الجماعة العلمية التي هي كونية بالجوهر. وهي تتجاوز المتعاصرين إلى المتوالين فما من علم أو فلسفة تتقدم إلا بحوار أحياء المبدعين أمواتهم في العلوم والفنون. والوجه السلبي في هذا الاندراج في الفكر الإنساني المتجاوز للخصوصيات هو مساهمته في تجاوز ما تقدم عليه والأعداد لما تلاه بصورة ذات دلالة أعني بإحداث منعرج أشبه بالذي أحدث بارمينيدس وهو منعرج سعى إليه سقراط واهتم به أفلاطون لكنه لم يوصله إلى ما أوصلته إليه المدرسة النقدية. وتلك هي علة اهتمامي بهذه المدرسة (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) من دون قصد الرد على ما ادعاه هيجل في تاريخه للفلسفة (لا تمثل دورا كيفيا) وكان فيه معذورا لأن اطلاعه على الفكر الإسلامي والعربي كان مقصورا على مراجع قليلة ولم يكن من بين من ورد فيها ابن تيمية ولا ابن خلدون. وقد تكلمت في الامر في غير موضع ويكفي التذكير بالزبدة: فأول من بدأ التمييز بين الوضعي من العلم والكلام في ما وراء الوضعي منه وأول من شكك في إمكانية المطابقة في نظرية المعرفة وأول من صاغها بصورة لا مراء فيها هم فلاسفة المدرسة النقدية الثلاثة: الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. لكن المنعرج لم يكتمل إلا عند ابن خلدون لما قلب العلاقة بين الطبيعي والإنساني من العلوم فصار ما بعد التاريخ عنده شاغلا موقع ما بعد الطبيعة في دور العلم الرئيس المؤطر لكل نظر وعقد ولكل عمل وشرع وهو ما كان يأمله سقراط وحاوله أفلاطون وعطله أرسطو الذي فضل ما بعد الطبيعة لهذا الدور. وكان أرسطو في عصره على حق لأن القطيعة مع الميثولوجيا التي أحدثتها الفلسفة في الظاهر لأن الفلسفة هي بدورها ميثولوجية عند أفلاطون أكثر ولكنها حتى عند أرسطو لأن نظام العالم الفلكي فيه شيء من الميثولوجيا التي بلغت الذروة من بعدها عندما أصبح الأفلاك ذات أرواح وعقول محركة بالجاذبية. فإله أرسطو -في الميتافيزيقا- محرك لا يتحرك وهو يحرك بالجاذبية والمتحركات تتحرك بالشوق الناقل لما هو موجود بالقوة في موادها انجذابا لإلهه الذي لا ينشغل إلا بنفسه ولا يعلم سواها. وما ما قصدته عندما تكلمت على آلهة الميثولوجيا والإله الواحد المقيسة على البشر في الفصول السابقة. لكن قطيعة ابن خلدون كانت حاسمة. فما كان ليثبت نسب التاريخ إلى الحكمة لو لم يكن يعد الكليات التي تعلمها الفلسفة كائنات تاريخية وحصيلة التراكم المعرفي سواء كان من المقدرات الذهنية أو من الخبرات التجريبية (ابن تيمية) وليست كما يظنها الفلاسفة في عصره ثوابت لا تاريخية وصور الموجودات. ولهذه العلة كتبت ذات مرة أن نسبة أرسطو إلى نشأة علوم الطبيعة هي عينها نسبة بن خلدون إلى نشأة علوم الإنسان. فمبدأ علوم الإنسان كانت الفلسفة اليونانية لا تعترف به بل هي ترد العلوم العملية إلى العلوم الطبيعية: فالتاريخ يتعلق بالعرضيات وليس بالجوهريات ومن ثم فهو ليس علما أصلا. لن تجده في منظومة العلوم الفلسفية لأنه كما قال أرسطو عنه في كتاب الشعر أقل قربا من الكليات من الشعر الذي يتكلم في الكلي الممكن والفلسفية في الكل الفعلي لكن التاريخ يتكلم في الجزئي الاتفاقي أو الذي يحدث عرضا وبتلاقي الصدف ككل عرض غير ذاتي (آسف مضطر للاصطلاح الأرسطي). ولهذه العلة فمقدمة ابن خلدون من حيث الدور الأبستمولوجي في تأسيس علوم الإنسان تناظر التحليلات الأواخر في تأسيس علوم الطبيعة. ذلك أن ابن خلدون أثبت فيها أن التاريخ المديد غير التاريخ الذي كان أرسطو محقا في إخراجه من الفلسفة. والتاريخ المديد هو أساس كل علوم الإنسان. وهو يتعلق بالتحولات الكيفية التي تمثل إطار التأويل لأحداث التاريخ القصير دلالات ومعان. ولا يمكن فهم ذلك من دون أن تصبح الكليات هي بدورها تاريخية لأنها حصيلة تطور المعرفة والخبرة وليست قائمة بذاتها في صور الموجودات. ولا يمكن أن يحصل ذلك لو كان يقول بنظرية المعرفة المطابقة. فمن يدرس التحليلات الأواخر التي وضع فيها أرسطو شروط تطبيق التحليلات الأوائل على الوجود الخارجي يدرك نه يبحث في شروط الانتقال من المتغيرات في اشكال القياس لتعويضها بقيم معينة مستمدة من الوجود الخارجي وتبقى العلاقات القياسية صالحة فتستكمل مهمة الميتافيزيقا القائلة بنظرية المطابقة. وقد يعترض علي بان ابن خلدون يستعمل كل مصطلحات أرسطو في تأسيسه علم التاريخ المديد الذي هو العمود الفقري للعلوم الإنسانية. لكني بينت كيف أنها استعارات وليس بدلالتها الأرسطية. فما يسميه ابن خلدون التاريخ المديد لطبائع العمران والاجتماع لا تتكلم على طبائع وضرورة بل على شرائع وحرية. وبعد هذا الاستطراد على منزلة الحقبة العربية الإسلامية في تاريخ الفكر الإنساني أعود إلى المقارنة بين الزوجين الأولين أفلاطون وأرسطو والزوجين الأخيرين كنط وهيجل ليس بصورة عامة بل من منظور تكوينية علم الكلام اللاهوتي والناسوتي ومآله إلى ما بعد الحداثة النيتشوية. ولكن لإثبات رأيي في كونية الفكر ورفضي للخصوصية التي هي فلكلورية وليست فكرية أود أن استكمل الاستطراد بالتذكير بعنوان القسم التكميلي من رسالتي في الدكتوراه حول منزلة الكلي في الفلسفة العربية: فاصلاح العقل عنوانه من أرسطو وأفلاطون إلى ابن تيمية وابن خلدون. ولأضف إلى ابن تيمية وابن خلدون قبلهما ما أضفته المقارنة بين علاقة أفلاطون بأرسطو أي علاقة كنط بهيجل أضيف ابن سينا والغزالي. فالنسبة بين أفلاطون-أرسطو قديما وكنط-هيجل حديثا يمكن أن تفهم بدقة أكبر إذا قورنت بالنسبة بين ابن سينا-الغزالي بداية وابن تيمية-ابن خلدون غاية في فكرنا. وطبعا لست غافلا عن الفروق وخاصة الزمانية. فلا الغزالي عاصر ابن سينا ولا ابن خلدون ابن تيمية بخلاف المثالين القديمين والحديثين في الفكر الغربي. لكن التعاصر الذي يعنيني ليس تعاصر الحيوات بل تعاصر الأعمال. فلا يمكن فهم فكر الغزالي دون ابن سينا ولا فكر ابن خلدون دون ابن تيمية. فمن نقل ميتافيزيقا أرسطو إلى النسقية القابلة لنقد الغزالي هو ابن سينا. ومن نقل نظرية المعرفة الارسطية إلى الإحراج الفلسفي العميق القابل لنقد ابن خلدون لإضفاء التاريخية على الفلسفة هو ابن تيمية. ومقالة الالف لأرسطو هدفها إثبات نهاية تاريخ الكلي بنظريته في العلل الأربع. وحتى التعاصر الزماني لم يكن ما يعارضه بالكبير فبين ميلاد الغزالي ووفاة ابن سينا ربع قرن وأقل من ذلك بين ابن تيمية وابن خلدون. والمكان لا يذكر لأن الأرض الإسلامية كانت واحدة والتبادل المعرفي كان على قدم وساق وخاصة بمناسبة الحج والرحلة العلمية طلبا للعلم من كبار العلماء ومنابعه. وهذا مما لا يحتاج إلى اثبات بالنسبة إلى ابن سينا والغزالي لكن بالنسبة إلى ابن تيمية وابن خلدون فالأمر عسير. فيبدو أن ابن خلدون يجهل ابن تيمية رغم أن ابن تيمية لا يجهل ابن رشد مثلا ولا كبار علماء المغرب في جميع الفنون التي يعتد بها. فما مصدر نفي المطابقة وتاريخية موضوع الفلسفة؟ لما كانت الفكرتان غير موجودتين عند الفلاسفة التقليديين ولم تكونا بارزتين إلا عند ابن تيمية قبله فالحل هو أحد أمرين: إما أنه كان على علم بفكر أبن تيمية أو أنه أبدعهما مثله. وليست مهتما بأعيان المفكرين بل بالمشترك بين افكارهم. وقد يكون ابن خلدون أبدع الامرين معا. وهذا فيه مزيد فضل. انتهى الاستطراد وسأعود في الفصل المقبل إلى المقارنة بين علاقة أرسطو بأفلاطون وعلاقة هيجل بكنط بخصوص تكوينية علم الكلام اللاهوتي (علم الكلام القديم) وعلم الكلام الناسوتي (علم الكلام الجديد) وهو موضوع بحثي والاستطراد لا يهدف لتعطيل العلاج بل لفهم دور فكر في تطور الفكر عامة.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي