علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم الكلام تكوينيته بشكليه القديم والجديد

وصلنا الآن إلى بيت القصيد: فالكلام القديم نهايته مع كنط يمكن تمييزه يكون مركزه الله. والكلام الجديد من كنط فنازلا مركزه الإنسان. فالأول الكلام اللاهوتي أو ثيولوجيا والثاني الكلام الناسوتي أي انثروبولوجيا الوجوديات مؤمنها وملحدها والدنيويات هيجليها وماركسيها: رؤية الإنسان لذاته. والانتقال من المركز الأول إلى المركز الثاني يجعل من كان في موقع الذات يتحول إلى موقع الموضوع ومن كان في موقع الموضوع يتحول إلى موقع الذات. ففي الكلام القديم كان الله هو الذات والإنسان هو الموضوع وفي الكلام الجديد انعكس الأمر فصار الإنسان هو الذات والله هو الموضوع. ويوجد بين المواقف الاربعة (اثنان وجوديان مؤمن وملحد واثنان دنيويان هيجلي وماركسي) وسط متحرر منها جميعا وفيه منها بعض شيء هو الموقف النيتشوي الذي هو في آن لا واحد منها ويبدو وكأنه مشروط بها لما فيها من سوالبها فلا هو إنسان ولا هو إله ولا هو مؤمن ولا هو ملحد ولا هو ليبرالي ولا هو يساري. لكنه في آن إنسان إله صفته الأساسية الخلق والأبداع لأن الوجود كله إبداع فني وهو من ثم مؤمن وملحد دينيا وليبرالي ويساري دنيويا وفي الجملة هو ثورة على كل القيم المعتادة التي تقبل الرد إلى المسيحية والافلاطونية كما يعرف نفسه هداما بمطرقته لكل الألهة بشرط ألا يهدم نفسه إنسانا إلها. وهذه المواقف الخمسة هي فروع علم الكلام الجديد. لكن لا بد من العودة إلى ما بدأنا به. فالقديم كما رأينا له مرحلتان قبل قلب المعادلة الوجودية الذي هو العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. وسنرى أن علم الكلام الجديد له كذلك مرحلتان بعد هذا القلب نفسه ومدارهما عكس مدار القديم. مدار علم الكلام القديم بمرحلتيه هو العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والتاريخ: ويمكن القول إن المرحلة الأولى هي الميثولوجيا ذات النموذج التاريخي (الأوائل نموذجا لعالم الآلهة) والنموذج الطبيعي (نظام العالم هو عينه عالم الألهة): الكلام مصدره ألغاز العلاقة العمودية وقيام الإنسان. أما علم الكلام الجديد فله مثل القديم مرحلتان ومداره العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ وبينه وبين الطبيعة. والمرحلتان ميثولوجيتان كذلك ولكن بمعنى ثان لأن العلاقة الأفقية تتصل بالتواصل وليس بالتبادل. والقصد أن الأمر يتعلق بالقيام الروحي في مبدعات البشر التي عالجت القيام العضوي. لم يعد الأمر متعلقا بأسرار الوجود في الطبيعة والتاريخ وما بعدهما بل بأسرار ما جهز الإنسان به لعلاجهما أعني النظر والعقد في المعرفة والعمل والشرع في الممارسة. وحتى أيسر فهم الامر فلنقل إن المدار الأول كان علاقة الإنسان المادية بما وراء الطبيعة والتاريخ والثاني صار علاقته الرمزية به. فلكأن كل ما كان ينسب إلى الله من فاعلية وخلق وإبداع بوصفه ما وراء الطبيعة والتاريخ صار ينسب إلى الإنسان بوصفه ما وراء التاريخ والطبيعة. وما كان يدرس بوصفه ألغاز اللاهوت صار يبحث بوصفه ألغاز الناسوت. وما كان يدرس بالانثروبومورفيا صار يدرس بالثيومورفيا. وكلاهما أسقاط. فالانثروبومورفيا هي تصور الله بتشبيهه بالإنسان. والثيومورفيا هي تصور الإنسان بتشبيهه بالله. وفي النهاية العمليتان هما مرحلتان في تصور الله بالإنسان ليصبع تصورا للإنسان به. ومن ثم فنحن لم نخرج من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان وكأنهما في وضع التمانع: وضع هذا نفي ذاك. والحل القرآني يحرر الإنسان من هذه العلاقة التمانعية بين الله والإنسان بنظرية الخلافة. فالعلاقة المباشرة بينهما هي علاقة الخليفة بالمستخلف. وهي علاقة بين سطلتين مطلقة ونسبية من حيث الصفات وخاصة في ما يسميه علم الكلام بالصفات الذاتية الخمس: الوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة فهي صفات مطلقة عند الله ونسبية عند الإنسان: فالله مريد بإطلاق والإنسان بنسبية والله عالم بإطلاق والإنسان بنسبية والله قادر بإطلاق والإنسان بنسبية والله حي بإطلاق والإنسان بنسبية والله موجود بإطلاق والإنسان بنسبية. وهما متواصلان بعلاقة الاستخلاف في النظر والعقد وفي العمل والشرع. فيكون قلب المعادلة الوجودية (الله-الطبيعية (الله-الإنسان) (التاريخ-الإنسان) التي سبق فشرحناها في غير موضع أو العلاقة المباشرة بينهما (الله-الإنسان) متعينة كذلك في العلاقة غير المباشرة ما تقدم على (الله الإنسان) وما تلاها في المعادلة أو هي الماوراء في الحالتين وبينة الوعي الإنساني. ولذلك فليس بالصدفة أن كانت الميثولوجيات أو محاولات الإنسان فهم الغاز قيامه العضوي في المثيولوجيتين الأوليين وفهم ألغاز قيامه الروحي في الميثولوجويتين الأخرتين والجمع بين نوعي الألغاز في الرؤية النيتشوية للإنسان الإله المبدع للأكوان كلها إذ عنده لا وجود لما وراء هذا الإبداع الفني. وهنا يكمن الفرق: فهذا الموقف النيتشوي والذي هو أساس ما يسمى بما بعد الحداثة هو النوع الثاني من القول بالمطابقة لأن نفي ما وراء المبدعات (الإنسانية: واضعها بين قوسين لأن الإبداع هو في آن مبدع ذاته وليس له ذات وراءه هي الفاعل) قول بمطابقته لذاته ولا يوجد غير هو وراء لمضمون الوعي. فعندما تنفي المطلق وراء النسبي يبقى النسبي وحده فلا يكون نسبيا بل يصبح هو المطلق. وهذا هو المعنى النيتشوي لنفي الماوراء. وهو في الحقيقة مسبوق. فجوهر فلسفة هيجل تقول بوحدة الوجود ولا تذهب إلى حد الوحدة المطلقة فليس قصده أن الوجود الخارجي من وهم الإنسان بل الروح المطلق متعين فيه. ومعنى ذلك أن هيجل يلغي الثنائية في ما سميناه لب المعادلة (الله-الإنسان) معتبرا الله هو الروح المطلق المتعين في الإنسان الذي هو تجليه بوصفه الكلي المتعين وهو إذن روح العالم الذي هو تجليه في الطبيعة والتاريخ ولا يوجد شيء وراء الطبيعة و التاريخ كالمقابلة بين الدنيا والآخرة. فلكأن الإنسان شيفرة العالم لأنه الروح الكلي المتعين بشرط أن يكون مسيحيا لأن الروح الكلي تعين في المسيح ومن ثم فالإنسان لا يكون إنسانا ما لم يؤمن بالمسيحية. ولولا إيماني بأن هذا الفهم للدين هو سر كل ما تعاني منه الإنسانية لما نقلت فلسفته الدينية حتى نفهم الفاشيات الغربية بنوعيها. فهذا التصور للإنسان يعود في النهاية إلى الرؤية السوفسطاية التي تجعل الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه ولا يوجد ما يتعالى على إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده وهو بالضبط القصد بالفاشية سواء كانت ليبرالية بالطريقة الامريكية التي بشرى هيجل أو بالطريقة السوفياتية بشرى ماركس. ولذلك فكلاهما كان مدافعا عما يسمى المهمة التحضيرية الاستعمارية وبالعولمة المادية التي ليس وراءها من قاض غير التاريخ المحكوم بمنطق القوة أو بمنطق التاريخ الطبيعي. وفي الظاهر يبدو المفكران وكأنهما يسعيان لجعل المثال واقعا لكنهما في الحقية اعتبروا الأمر الواقع مثالا وهو سر الفاشية. وكما هو معلوم وكما أثبته في مقدمات الترجمة فهيجل عاد إلى القول بالمطابقة وعادة النظر في النقد الكنطي وخاصة في ما يتعلق بأدلة وجود الله التي هي سر تغييره نظرية القضية الجملية لتغيير مبادئ المنطق التقليدي الثلاثة الهوية والتناقض والثالث المرفوع ليعيد تأسيس اللاهوت العقلي. وبعبارة تقريبية يمكن القول إن وضع منطق الجدل كان السبيل الوحيدة للخروج من معضلات المواقف الاعتزالية في تقاليدنا الفكرية: فلا يمكن الخروج من مثنوية الكلام الاعتزالي -أو من مجوسيته-من دون التحرر من المنطق الارسطي يوضع مبدا وحدة المتناقضين في ثالث موضوع وليس مرفوعا. فبفضل هذا الحل مثلا يمكن القول إن الإنسان خالق لأفعاله بالمعنى الاعتزالي الذي يبدو غير ممكن بالمنطق الأرسطي لأن يؤدي إلى وجود إلهين لكنه يصبح ممكنا بالمنطق الهيجلي لأن وحدة المتناقضين ممكنة فلا نحتاج إلى ذاتين فاعلتين كما يحاول أصحاب الكسب البحث عن مخرج من المثنوية. وأختم هذا الفصل بالاعتذار للقراء عن تعقيد المسألة وعدم الإطناب في شرحها بما قد يساعد على تيسيرها لان كل عنصر من عناصرها قد يتطلب المزيد من الجزئيات التي تغرق الباحث فلا يرى الجوهري ويبقى في شكليات اكاديمية ليس هذا محلها وبعضها وارد في مقدمات ترجمة فلسفة الدين لهيجل.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي