علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم الكلام تكوينيته بشكليه القديم والجديد

كما أسلفت في المحاولة السابقة أطمأن قلبي لما اهتديت إليه من حل أقنعني شخصيا ولا أدعي السعي لأقناع غيري بما اقتنعت به في مسألة الصورة البشعة التي قدمت عن الله يوم الحساب لكأنه كائن سادي يتلذذ بتعذيب مخلوقاته في جهنم حتى باسم العدل جزاء لما فعلوا: والحل قرآني خالص كما سأزيد توضيحه. فالمسألة في الآخرة تتعلق بما يشبه التنزيه الإلهي في مسألة العدل الإلهي في الدنيا. ففي الدنيا الغاية هي تنزيه الله عن الشر الغالب عليها. وفي الاخرة الغاية هي تنزيه الله عن السادية التي عرضت بها علينا للتخويف بلغ حد نفي الرحمة عن الله حتى بلغ الأمر إلى تبديل جلد لمزيد الحرق. وكانت السبيل إلى الحل هي الوصل بين النوعين من التنزيه: فلا يمكن أن أحمل الإنسان الشر (الظلم والعدوان) في الدنيا وأنزهه منه في الآخرة ولا يمكن أن أحمل الله الشر في الآخرة (التعذيب) وأنزهه في الدنيا. فكان الحل التلازم بين الأمرين. مسؤولية الإنسان هي اختيار مصيره في الآخرة. فما يحصله من موجب القيم الخمس في الدنيا خلال اختبار أهليته للخلافة بحرية الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود من موجبات يصبح عين كيانه في الخلود في النعيم (الجنة) وما يحصله من سوالبها خلال نفس الاختبار يصبح عين كيانه في الخلود الجحيم (النار): والنار هي ما يتلبسه من إبليس. ولست أدعي أن الامر في ذاته هو كذلك فالغيب لا يعلمه إلا الله. وقد أعطانا القدرة على الفهم المتناسق المناسب لما يجعلنا نرضى عن الله راجين رضاه عنا. فهو قد أذن بأن ندعوه بأي من أسمائه الحسنى التي لا تمثل تعددا في ذاته بل تعدد في تصوراتنا له بالإضافة إلى ما يجعلنا نلجأ إليه بالدعاء. فالقرآن نفسه جعل علامة العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه هي تبادل الرضا (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ولا يمكن أن يحصل ذلك إذا بقي في النفس شيء مما يبدو غير لائق بأن نتصوره في الله من جعله وكأنه حاكم مستبد من حكام الدنيا وهو أرحم الراحمين. ولا أخفي أني عانيت كثيرا من الرؤى السابقة. خاصة وهذا الحل يحقق كل ما يمكن أن يعتبر مفيدا من الصورة القديمة بمعنى الردع لمن لا يخاف الله إذ قد جعله دائما من منطلق تحميل الإنسان مسؤولية المآل الذي يختاره بأعماله التي هي عين مآله بعد انتقاله من عالم الفناء إلى عالم البقاء: جهز بحرية الاختيار ومن ثم فليتحمل مسؤوله الاختبار. اخترت هذا المدخل لعلاج مسألة جوهرية في مراحل علم الكلام التي يمكن أن تقبل تحديدا لتصوراتنا عن الله دون الزعم بأنها حقيقة الله في ذاته. فلو كان يعترف بأن ما يقوله في الإلهيات كلام على تصورات الإنسان وليس على الله ذاته لكان مقبولا شرطا للاطمئنان لما يدركه الإنسان دون إطلاق. بعبارة أخرى فلو تحرر علم الكلام من نظرية المعرفة المطابقة التي ترد الوجود إلى الإدراك (ابن خلدون) فيتوهم أنه مقياس الوجود حتى الشاهد فضلا عن الغائب لأمكن الكلام على علم الكلام في الإلهيات سواء كان فلسفيا أو دينيا مما ليس منه بد حتى في حديث النفس لأن الإنسان لا تطمئن نفسه من دونه. آفة علم الكلام ليس في كون الإنسان لا يمكن أن يستغني عن شيء منه بل في كون صاحبه بمنطق نظرية المعرفة المطابقة بمجرد أن يرد الوجود إلى الإدراك يصبح عابدا لتصوراته التي هي أوثان إذا اعتبرت وخاصة في الإلهيات عين حقيقة موضوعه فيكون الله مثلا عين تصور الإنسان له. لكن إذا تحررنا من نظرية المعرفة المطابقة واعترفنا بأن الإنسان لما يتوجه إلى الله بالدعاء لا يستطيع ألا يكون له تصور ما هو ما يقصده عندما يختار الإسم الذي يدعوه به بحسب الدافع إلى الدعاء إما الغفور أو العفو أو الجبار أو أي اسم من الأسماء يطابق حاجة دافعة إلى نوع الدعاء فهذا حتم. لكنه من الوجدانيات ولا يمكن أن يصح مادة لتعليم الغير وكأنه علم بحقيقة الله ناهيك عن جعلها سلطانا يفرض تصورات زيد على تصورات عمرو. وذلك هو معنى الوساطة التي تجعل القرآن مثلا لا يكون خطاب الله الموجه لكل ذات عينها بل يمر بسلطان الوسيط فتصبح تصوراته أوثانا يستعبد بها غيره. وما أريد الكلام فيه هو مراحل هذه التصورات في التاريخ الإنساني من منطلق المعادلة الوجودية التي سبق فبينت دلالتها وعناصرها. وهي بدورها من جنس التصورات التي تتكلم على تصورنا لذواتنا ولعلاقتنا المباشر بالله وغير المباشرة به عن طريق الطبيعة والتاريخ وما ورائهما وصلا لهما به وبنا. والغاية هي دحض مسلمة هيجل الأساسية التي تؤول في الغاية إلى أن الله ليس إلا تصور الإنسان له لأن الله نفسه يعرف نفسه في الإنسان الذي هو عين الروح الكلي المتعين في الإنسان بتوسط المسيح: فمحايثة الله في الإنسان بتوسط المسيح وسيطا ونائبته الكنسية ثيولوجيا مسيحية رد هيجل الفلسفة إليها. وهذا الرد حول الدين والفلسفة إلى إيديولوجيا تكنيس العالم وتحزيبه والأول هو شكلها الديني (يمينه) والثاني هو عينه ولكن في شكله المعلمن (يساره): لا فرق بين الحلين الهيجلي والماركسي لان كليهما يصوغ المسيحية الحلولية إما بشكل يحافظ على الكنسية أو بشكل يعوضها بالحزب الشيوعي وسيطا ووصيا. وما من أحد ينظر ببصيرة في سلوك المتحزبين بالمعنى السوفياتي والستاليني والتفتت الفرقي وشبه الطائفي في الاحزاب الشيوعية لا يحد نفس الظاهرات التي تعرفها الكنسية والفرق والطوائف الدينية في كل دين انحرف فأعاد الوساطة والوصاية أي ألغى تورتي الإسلام: الحرية الروحية والحرية السياسية. وسأنطلق من قلب المعادلة الوجودية أي علاقة الإنسان بربه المباشرة لأنظر في مرحلتين قبلها ومرحلتين بعدها بمقتضى عناصرها: فقبلها الطبيعة والله وبعدها التاريخ والإنسان. فتكون مراحل التصورات المنطلقة من هذه المعادلة مراحل حتمية يمر بها وجدان الإنسان في فهمها وفهم القلب منها. وسبق أن بينت في كلامي على العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة شرطا في قيامه العضوي لا تكون مباشرة معها أبدا حتى في نحلة العيش الأكثر بداوة أعني مجرد جني ما تنتجه الطبيعة من سد الحاجة الغذائية بل لا بد فيها من عادات وتقاليد ودور السلف عند كل خلف. ولا نستطيع تصور بداية مطلقة. لذلك فكل التصورات عما وراء الطبيعة ستكون مستمدة من التاريخ بمعنى أن الميثولوجيا هي الشكل الارجح كبداية لعلم الكلام المتعلق بالتصورات التي تظن حقيقة الأشياء المتصورة لأن نظرية المعرفة الاولى كانت قائلة بالمطابقة. علم الكلام الاول هو الميثولوجيا. والقطيعة معه تعكس فتقدم الطبيعة. وحينها ننتقل من الميثولوجيا ذات النموذج التاريخي إلى الميثولوجيا ذات النموذج الطبيعي. وهما المرحلتان الأوليان في صوغ ما يتصوره الإنسان دينا مطابقا للعلاقة المباشرة بالله أو بالآلهة التي تكون إما في شكل تاريخ وكأن الآلهة مثل البشر تتوالد وتتحارب ولها ما للبشر من الهموم. أو لكأنها قوى طبيعية تتصادم وتتفاعل بما تتفاعل به القوى الطبيعة التي تصبح أوثانا تعبد مثل الريح والبرق والرعد ثم يجمع بين الامرين فيكون لكل ظاهرة طبيعية إله يحمل اسمها كإله البحر وإله الأنواء إلخ.. وهو المعلوم من الميثولوجيا. وكل ذلك خلط بين التصور الحقيقة برد الوجود إلى الإدراك. وتكون نهاية المرحلتين الاوليين إما إلى الوحدانية المطلقة أو إلى الواحد فوق الكثرة من الأوثان التي هي في آن آلهة حالة في قوى طبيعية ومستعملة لها وهما المرحلتان المتقدمتان على قلب المعادلة الوجودية أو العلاقة المباشرة بين الله والإنسان في تصور الإنسان لها وليس في حقيقتها الغيبية. وهذه الحال في الكلام قبل أن تحصل القطيعة في ما صار يسمى فلسفة أو محاولة الخروج من التعبير الشعري عن هذه التصورات إلى المعالجة العلمية للطبيعة والتاريخ أو بصورة أدق للتمييز بين القوى الطبيعية بوصفها خاضعة للضرورة والقوى الإنسانية بوصفها خاضعة للحرية. ومذئذ بدا الصراع بين الكلام بوصفه يعرف نفسه خطابا لاهوتيا والفلسفة بوصها تعرف نفسها خطابا عقليا ثم صار للفلسفة لاهوت عقلي وللكلام فلسفة لاهوتية وظل الأمر كذلك إلى أن أخرج الرسول الخاتم مفهوم الوحي والعقل من التنافي بين سبيلين إلى تصور الحقيقة مع نفي نظرية المطابقة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي