لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟
نبدأ الكلام في النوع الثاني من الانتخاب بكلمة في المستوى الثاني من الانتخاب الأول وتعريف طبيعة دور الانتخابين بمستوييهما. فالأول يتعلق بما يجعل الإنسان عنصرا مقوما للجماعة بوصفها كيان يحقق شروط بقائه بعمله على علم. والثاني بما يجعله جزءا مقوما لتمثيل إرادتها سلطانها على نفسها. ويمكن إذن أن نقول بإيجاز إن الانتخاب الأول بمستوييه يتعلق بشروط الوجود والثاني بمستوييه يتعلق بشروط السهر على شروط الرعاية والحماية أو الانتظام الذاتي للجماعة أو بكون الجماعة تنتقل من كونها كيانا وجوديا يحقق شروط بقائه إلى كونها كيانا سياسيا يسهر على نظام رعاية ذاته وحمايتها. فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه متعلقا بوعي الجماعة بذاتها وعيا يؤهلها لأن تكون ذات إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجودا كلها عائدة على ذاتها تسديدا وتوجيها بسلطانها على ذاتها. تلك هي السياسة وهي في نسبة وعي الفرد بذاته بنفس هذه الابعاد وصاحبة سلطان على ذاتها: المعنى الدقيق لموضوع الاخلاق. ومن ثم فالانتخاب الثاني بمستوييه لا يمكن تصوره من دون المرور بالانتخاب الأول وخاصة بمستواه الثاني. ولذلك فكل من يتعاطى السياسة من دون أن يكون قد حصل في المستوى الأول من الانتخاب الاول ما يؤهله للنجاح في المستوى الثاني منه الذي يثبت أهليته بنتائجه سلامة تكوينه الفني والخلقي. ومن المفروض أن يكون النجاح في الانتخاب الأول بمستوييه شرطا للترشح والتنافس على الانتساب للانتخاب الثاني بمستوييه. لكن ما يجري في بلاد العرب خاصة وبلاد الإسلام عامة كلا الانتخابين بمستوييهما مغشوش. فلا نظام التكوين صالح ولا نظام الانتخاب في مستواه الاول عادل ناهيك عن مستواه الثاني. فالانتخاب الأول بمستوييه مبني على الوساطة والجاه. والانتخاب الثاني بمستوييه مبني على أحد امرين: إما على طبيعة الأنظمة العسكرية ودور الوساطة والجاه فيها أو على طبيعة الأنظمة القبلية ودور الوراثة والوساطة والجاه فيها. والعسكر هو نفسه بدأ يميل إلى إضافة الوراثة للوساطة والجاه. ومع ذلك فلا يمكن تصور أي جماعة من دون الانتخابين بمستويي كل منهما. الفرق ليس بالوجود والعدم بل بقيمتي الكفاءة والأخلاق معيارين للمنتخب وبقيمتي الأمانة والعدل معيارين لمن يقوم بالانتخاب. وبدون هذه الشروط الأربعة تصبح السياسة مناقضة لما ينبغي أن تكون عليه: فبدل التعمير يحل التدمير. والجميع مرشح للانتخاب في المستوى الأول من الانتخاب الأول أي إن الجميع ينبغي أن يخضع للتكوين التربوي وينتخب على اساس التحصيل فيه ومثله في المستوى الثاني. لكن من يقوم بالانتخاب في المستوى الاول هم من سميناهم بالقوابل السقراطية (سواء كانوا كذلك حقا أو وهما: وهم المكونون والمربون). أما من يقوم بالانتخاب في المستوى الثاني من الانتخاب الاول فهم الجماعة كلها وبالتدقيق أهل المهن والحرف والوظائف والخدمات في الجماعة الذين لهم مسؤولية هذه الاعمال وتقييم نتائج من ينتدب لها في تقسيم العمل في الجماعة. وهذا هو الحكم المطلق سواء كان سويا فنيا وعادلا خلقيا أو لم يكن. ومعنى ذلك أن كل الجماعات دون استثناء تمثل غربال مضاعف سواء كان سويا تقنيا وعادلا خلقيا أو لم يكن وبالغربلتين في النوع الأول من الانتخاب بمستوييه تتحدد الصفات العامة للجماعة والمنحنى التطوري لكينونتها صعودا في سلم التعمير ومضاعفة القوة أو نزولا في سلم التدمير ومضاعفة الضعف. ولهذه العلة سميت الانتخاب الأول بمستوييه متعلقا بالشروط الوجودية: فالوجود قوة متنامية للتعمير والعدم قوة متضائلة للتدمير. وكل جماعة تحيا بالأول وتموت بالثاني. ومعنى ذلك أن المجتمعات التي لا يكون فيها الانتخاب الأول بمستوييه أمينا وعادلا مجتمعات انتحارية بوعي أو بغير وعي. ولهذه العلة فما يحدث في الانتخاب الأول بمستوييه رغم أنه وجودي يصبح في المجتمعات البشرية بخلاف المنطق المنتظر خاضعا لتأثير الانتخاب الثاني بمستوييه: من هنا اعتبر ابن خلدون فساد معاني الإنسانية ناتجا عن بعدي السياسة أي نظام التربية ونظام الحكم المفسدين لقيم الانتخاب الأول. السلطة السياسية ببعديها (سلطة التربية وسلطة الحكم) هي التي تغير المعايير. فلا يبقى معيار الكفاءة الفنية ومعيار السلامة الخلقية المحددين للانتخاب بل يصبح معيار الوساطة والجاه هو الأساس في الانتخاب. وبالتدريج يتراكم انعدام الكفاء وسقم الخلق في كيان الجماعة ودولتها: التدمير الذاتي. وقد سبق فشرحت “عبارة الشخص المناسب في المكان المناسب” وأضفت المضمر فيها بمعنى: 1. من؟ 2. ينتخب الشخص المناسب؟ 3. لماذا؟ 4. وفي ماذا؟ 5. وما أهداف الانتخاب ومعايير. وفي هذه الإشكالية دور بالمعنى المنطقي: المنتخِب والمنتخَب واحد في الحقيقة أي الجماعة نفسها. ففي وضع الفاعل هي المنتخِب وفي وضع المفعول به هي المنتخَب وخاصة في المستوي الثاني من نوعي الانتخاب أعين أنها هي التي تقيم نتائج المستوى الأول من نوعي الانتخاب. فهي تقيم حصيلة التربية وتقيم حصيلة الحكم. فتكون هي الجانية على نفسها إذا قبلت بتغيير المعايير من صالحها إلى طالحها. وبعبارة وجيزة فكل الجماعات مبنية على الانتخاب حتى لو كانت فاشية أي أن ما يميز جماعة عن جماعة ليس وجود الانتخاب وعدمه بل نوعه وخصائصه التي تحددها معاييره. فإذا كان الانتخاب خاضعا لما بينا من القيم الموجبة كان معمرا وإلا فهو مدمر. الفرق بين الجماعات انتخابيا هو بين المعمر والمدمر. والانتخاب الثاني بمستوييه يأتي إذن في العلاج السوي للتعمير بين النخب بأنواعها الخمسة بعد أن تكون قد برهنت بالمستوى الثاني من الانتخاب الاول نجاحا يؤهلها لأن تكون من المترشحين للانتخاب الثاني مستواه الاول ومن بين هؤلاء يقع المستوى الثاني من الانتخاب الثاني. لكن عندنا هو العكس. لأن من يشغل خانات “مكنة” الدولة التي هي ذات الجماعة العائدة على نفسها لتنظيم شروط بقائها رعاية وحماية لا يأتيها بالاعتماد على الانتخاب السوي بنوعيه الأول بمستوييه والثاني بمستوييه. عندنا نوعان من الانتخاب غير السوي: الوراثة في الأنظمة القبلية والغلبة في الانظمة العسكرية. لكن الأدهى من ذلك كله هو أن هذين النوعين من الانتخاب رغم طابعه الهدام لا يجري بمقتضى دينامية القوى الداخلية الذاتية للجماعة بل هو بدوره خاضع لسلطان خارجي يفرض من ينتخبه بمقتضى ما يعتبره خادما لمصالحه فلا القبائل ولا العساكر تختار بذاتها بل الحامي يختار بدلا منها من يخدمه أكثر. ولا يمكن أن يكون من يخدمه أكثر حريصا على مصالح شعبه لأن هدف المستعمر هو استعماله لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الشعوب. فيكون الانتخاب أكثر تهديما مما لو كان ناتجا عن دينامية القوى الداخلية حتى لو كان بالقيم المقلوبة. هو إذن انتخاب قيمه مقلوبة مرتين خلقيا وسياسيا. فيكون الانتخاب الثاني بمستوييه فاسدا ومفسدا باستراتيجية نسقية وليس بالصدفة لأن المتحكم فيه يستعمله من أ جل منع الاستئناف بكل الوسائل والخطة هي “ضرب الراس لتنشف العروق” كمن يفسد الجهاز العصبي للجماعة (الدولة هي الجهاز العصبي) حتى تصبح فاقدة للمقومات الخمسة. وذلك على النحو التالي: يفسد انتخاب نخبة الإرادة (الساسة) المشرفة على الانتخاب في المقومات الأربعة الباقية فتفسد نخبة العلم (الباحثون) ونخبة القدرة (الانتاج المادي والثقافي) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الوجود (نخبة المرجعيات الدينية والفلسفية) لتصبح الجماعة مطلقة التبعية والتبعية المطلقة روحية بالأساس: تصبح النخب النافذة والمسيطرة على القرار دورها الاول والاخير هو التشكيك في الذات ورؤاها الوجودية دينية كانت أو حتى غير دينية وجعل الحامي هو المثال الأعلى في كل شيء فتموت في الحضارة المستقلة كل ينابيع القيام الذاتي الحر في المقومات الخمسة. وقد جمع ابن خلدون ذلك كله في قانون سماه “تقليد المغلوب للغالب” في كل شيء ومن ثم قتل كل ما يميزه عنه لكأن دوره يتحول إلى الانتحار التدريجي لبعث الآخر فيه بديلا منه. ولعل عقدة التأصيلي أكبر من عقدة التحديثي: فهذا يريد طي الصفحة وأخذ تراث الغير وذاك يبحث عن تراث الغير في تراثه. بمعنى أن التحديثي يطوي صفحة حضارته بوصفها ماضيا درس والتأصيلي يجعل الماضي نفسه خاضعا للغير بوصفه مثالا فلا يبقى ذا قيمة عنده في ماضيه إلى ما يظنه سبقا فيه على الغرب الذي صار مثالا يقيم به كل شيء في ماضينا لأن البحث عنه فيه يعني كل ما ليس مثله لا قيمة له عند هذا الباحث. وإذن فكلاهما ينطبق عليه قانون ابن خلدون. والتأصيلي أخطر من التحديثي لأن هذا يعتبر الماضي مغايرا لكنه يظنه قد مات فيقلب الصفحة ويتبنى صراحة تراث من صار عنده المثال الأعلى. لكن التأصيلي يدعي رفض ذلك فيفعل أكثر منه لأنه يجعل الماضي نفسه مغتربا لأن يقيمه بما يتصوره مماثلا لحاضر الغير.