علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – القسم الثاني/ الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟

ميزنا بين نوعين من الانتخاب كلاهما مضاعف: 1. يجعل الفرد عضوا من كيان الأمة بوصفه أحد أعضاء الرعاية وتقسيم العمل المدني فيها لسد الحاجات المادية والروحية. 2. ويجعل الفرد عضوا من سلطان الأمة على ذاتها بوصفه أحد أعضاء الحماية وتقسيم العمل السياسي فرض كفاية وفرض عين في الانتخابين. والطابع المضاعف في الانتخابين معناه أنه يقع خلال التحصيل وخلال الاستعمال للتكوين الذي يتحقق في التربية وفي الحكم علما وأن التربية والحكم كلاهما فرض كفاية على الفرد وفرض عين على الجماعة بمعنى أن تربية الفرد ليست فردية وحكم الفرد ليس فرديا بل كلاهما تتدخل فيه الجماعة كحكم نهائي. ولنشرع الأن في الكلام على الانتخاب الأول والأساسي وهو انتخاب اصطفائي Sélectif للكفاءة والاخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان الجماعة ويختلف عن الثاني الذي هو انتخاب اختياري Electif للكفاءة والأخلاق المؤسسين لانتساب الفرد لكيان دولة الجماعة. والأول شرط في الثاني ضروري غير كاف. وبينا أن الانتخابين المؤسس للانتساب لكيان الأمة والمؤسس لدولتها-وهما يشملان جميع أفرادها-يحتاجان إلى من سميناهم القوابل السقراطية المغنية عن الوساطة في الأول بين المؤمن وربه أو بين المؤمن وحرية الإرادة وحقيقة العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود لأن سقراط يذكر ولا يفرض. والمستوى الأول من كلا الانتخابين يعود إلى القوابل السقراطية لأنها يجري في مؤسسات مختصة في التكوين والاصطفاء انطلاقا من القدرات الفطرية التي ميزنا فيها خمسة يتميز الفرد بغلبة إحداها عليه وبميله إليها دون أن يكون خاليا من الأربعة الباقية: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. لكن المستوى الثاني منهما الحكم فيه ليس القوابل السقراطية بل الجماعة ككل. ففي الانتخاب الأول الاحتكام عملي وهو يقع في مواقع العمل من تقسيمه الاجتماعي حيث يكون معيار التقييم هو الكفاءة والأخلاق إذا كان تقييما أمينا وعادلا وعلاقته بالمستوى الأول منهما كعلاقة الممارسة بالنظرية. كلنا نعمل أن الانتخاب الاول مقدم عند أفلاطون وقد خصص له ثلثي الكتاب حول مفهوم العدل وتكوين الإنسان لتكون الجماعة عادلة وخصص الثلث الاخير للانتخاب الثاني وعلل فساد الجماعات وانظمة الحكم بمقتضى علم النفس الجماعي والاقتصادي منه على وجه الخصوص وأثرهما في الحكام والمحكومين. ونعلم أن أرسطو قد عكس الترتيب فجعل تكوينية الجماعات والدول عضوية اقتصادية قبل أن تكون معرفية رغم أنه ضمن كتابه في السياسة مسألة التربية واعتبرها مثل أفلاطون مسألة جذرية دون أن يتطرف لإشكالية الانتخاب بالمعنى الذي ندرسه هنا والذي لم يغب عن بال أفلاطون قديما وابن خلدون وسيطا. وينبغي ألا نغتر بالمقابلة بين افلاطون في الانتخابين ونظرية المجتمع المفتوح لكارل بوبر بدعوى الإطلاق الأفلاطوني والنسبة البوبرية ولا نظرية المجتمع المفتوح عند بارجسون على أساس الحياة الخلاقة أو التطور اللامحدود بما يشبه التاريخ الطبيعي. فأفلاطون لم يدع الجمود في الطبيعة والتاريخ. كل ما في الأمر أنه يعتبر التطور في الطبيعة والتاريخ لا يتنافى مع الثبات في المثل أو في القوانين. فالتطور البايولوجي مثلا لا يلغي قوانين الوراثة مثلا. والتطور الاقتصادي لا يلغي البينة المخمسة للإنتاج المادي (الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك) وهلم جرا من علاقة التغير والثبات. ورغم أني لست أفلاطوني النزعة فإن رأيه يبدو لي أقرب إلى الصواب من رأي بوبر ورأي برقسن. فالقول بالتطور مشروط بثبات البنى القانونية وتطور المواد التي تخضع لتلك القوانين. وهدفي ليس الكلام في المضامين بل في القوانين التي تحكم كونها تتجلي ذلك النوع من التجلي في الوجود الفعلي بمقتضاها. فلننظر الآن في ثوابت التكوين والانتخاب فيه بمستوييه. كل جماعة تكون ناشئتها على ما تراه ضروريا لمستقبلها. فكيف يتم ذلك ولماذا لا يمكن حصوله من دون المستوى الأول من عملية الانتخاب خلال التحصيل استعداد للمستوى الثاني الذي هو الحاسم خلال استعمال الكفاءة والأخلاق المحصلتين فيه. وحتى يحصل الغرضان من مستويي الانتخاب الأول الذي لضم الناشئة في عمل الجماعة وفي مستقبلها لا بد أن يكون المشرفون على التكوين الأطراف الخمسة: 1. منتجة الناشئة (الاسرة) 2. ومستعملتها (الأعمال) 3. والمتعلم (التلميذ) 4. والمعلم (القابلة السقراطية) 5. سلطة الدولة الشرعية التي توحدهم ومثلما أن أطراف العملية التربوية النظامية مخمسة الأطراف فإن مراحل التعليم مخمسة كذلك: 1. ما قبل الابتدائي 2. الابتدائي 3. الثانوي 4. الجامعي 5. ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر (وهو ضرورة للمستوى الثاني من الانتخاب ولحركية تقسيم العمل والكفاءات في ما يجد فيه من جديد). وفي كل تكوين لا بد من أهداف مناسبة لهذه المراحل ومناسبة لنمو المتعلم نفسه من حيث كائن عضوي وروحي. ولا يقع ذلك في مؤسسات التعليم النظامي وحدها بل في المؤسسات الرئيسية التي لا يخلو منها مجتمع إنساني والتي هي أركان الوجود الجمعي الكونية في كل الحضارات. فلا بد من: 1. المؤسسة الأسرية 2. المؤسسة المدرسية 3. المؤسسة المعبدية 4. المؤسسة الإنتاجية للتموين (المادي أو الاقتصاد والروحي أو الثقافة) 5. الجماعة التي لها مثل جانوس وجهان داخلي هو الأمة وخارجي هو الإنسانية لأن كل أمة محوطة بها ولها التفاتان داخلي لذاتها وخارجي لمن حولها. ومن حولها لها معنيان مكاني ممن يساوقها في الزمان وزماني لمن توالى فيها أو في من تقدم عليها وكان ذا صلة بها لأن الحضارات تتخاصب بين المتعاصرين وبين المتوالين في الزمان. فحضارة الإسلام مثلا ليست ما نتج منذ مجيء الإسلام بل هي استوعبت وأسلمت كل الكوني من حضارات الشعوب التي اسلمت. من ذلك أننا ندين بالفلسفة وعلومها إلى اليونان ومن تأونن من الشعوب التي دخلت إلى الإسلام ليس بوصفه دينا فحسب بل وكذلك بوصفه حضارة لأن الكثير ممن أسهم في استيعاب الفلسفة اليونانية في حضارة الإسلام لم يكونوا مسلمين بل كانوا من العرب وغيرهم الذين استوعبوا التراث اليوناني. أما أهداف التكوين الذي يجري خلاله الانتخاب فلتنمية القدرات الطبيعية التي للفرد والتي أولى وظائف التكوين اكتشاف المميز للأفراد بعضهم عن بعض فيها والتي أرجعناها إلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فإنها للعناية بها وتهذيبها وتحقيق معياري الكفاءة والأخلاق فيها أفضل ما يكون. ثم انطلاقا من هذه الارضية تكون الاهداف كالتالي: 1. جعل الطفل يصبح “إنسانا” بالتحكم في بدنه وشروط التواصل (اللغة خاصة) 2. تعلم العلوم المساعدة أو علوم الآلة قبل العلوم الغائية. كممارسة أولا: علوم الألة للعلاقة العمودية وعلوم الطبيعة (الرياضيات والمنطق) والأفقية (التاريخيات واللسان) وبعد ذلك بوصفه تحصيلا لملكة 3. تعلمها بوصفها موضوع عودة نظرية على ملكة حاصلة عند النشء. وهنا يبدأ الانتقال من ممارسة علوم الألة إلى جعلها مادة للمعرفة النظرية وتلك هي بداية المعرفة النظرية والمطبقة في علوم الطبيعة وفي علوم الإنسان. لا بد من شرح القصد بالممارسة التي تحقق الملكة. ثم تأتي مرحلة التجريد: 4. تصبح علوم الألة المطبقة في علوم الطبيعة وعلوم الإنسان مطلوبة لذاتها وموضوع النظر الاساسي والمجرد وهي أسمى مراحل التكوين. 5. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الشروع الفعي في البحث العلمي لإبداع الجديد وليس البحث العلمي لتعلم الحاصل من أدبيات هذه الفنون. وأعود الآن إلى ما سميته التعلم بالممارسة. وهو أول المراحل في كل تعلم: وليكن مثالنا متعلقا بالعلوم الأداتية أو المساعدة وهي الاربعة التي ذكرتها: الرياضيات والمنطق أدوات علوم الطبيعة خاصة وكل علم عامة والتاريخيات واللغة أدوات للتواصل عامة وفي علوم الإنسان خاصة. فكيف بالممارسة؟ فالرياضيات والمنطق تتعلم بأول موضوعاتها بنوعيهما: الرسم والموسيقى يحققان غايتين: السيطرة على المكان وعلى الحركة فيه والسيطرة على الزمان وعلى الحركة فيه. وبهما يتعلم الطفل مبادي الهندسة دون تنظير ومبادئ العدد دون تنظير وبتحكم في يده والكتابة وفي لسانه والنطق. وهذه الأمور الأربعة فسدت تماما في أجيال الامة حتى صار الشباب فاسد النطق وفاسد الخط وعاجز على الرسم والموسيقى ومن ثم فلن يفهم لاحقا معاني البنى المجردة التي هي أداة الأدوات كلها في كل علم. وما قلناه عن الرياضيات والمنطق يقال مثله عن التاريخيات واللغة. وهما مادة الأدب الأسمى. وبهذا التدرج يصبح النشء قادرا على تعلم كل الفنون التقنية والفنون الجمالية بكل تفرعاتها لإنتاج “الغذاء” المادي و”الغذاء” الروحي للتموين الذاتي في التكوين وفي تقسيم العمل في الجماعة. فتكون الجماعة بذلك راعية لنفسها بدءا بسد حاجات المنظومة التربوية وحاجات الجماعة ككل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي