لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟
نعود إلى أسئلتنا: خمسة أسئلة إذا أجبنا عنها تمكنا من القيام بما يناظر ما قام به ابن خلدون في تعريف علمه: 1. ما العمل الذي هو موضوع علم السياسية؟ 2. كيف يكون علم؟ 3. لسد أي نوع من الحاجات؟ 4. من الفاعل؟ 5. وكيف تتدخل مقومات الإنسان في فعله. ذلك هو التعريف الجامع المانع. جواب السؤل 1: موضوع علم السياسة دور القوى السياسية في تمثيل الدولة المعبرة عن إرادة الامة عامة في إدارة شؤونها عامة فرض كفاية بمشاركة كل المواطنين في عملها ومراقبته فرض عين. جواب السؤال 2: يكون علاج هذا الموضوع علما: بدراسة مدى صدق التمثيل وفاعليته والعلاقة بين الفرضين جواب السؤال 3: سد حاجات الرعاية التكوينية والتموينية والحماية الداخلية والخارجية أي تحقيق وظائف الدولة. جواب السؤال 4: من الفاعل أو حقيقة القوى السياسية وكيف تفعل الأحزاب أو القبائل أو الطوائف. جواب السؤال 5: فاعلية الدولة هي تناغم فاعلية مقومات الإنسان وكأنها شخص فيزيائي واحد. أجملت الأجوبة في عبارات وجيزة. لكن شرحها ليس بالأمر الهين ولا اليسير. وسنبدأ إذن بأصل هذه المقومات التي تجعل ما ستسده السياسة من الحاجات موضوع علم كما جعل ابن خلدون سد الحاجات الإنسانية موضوع علم العمران البشري والاجتماع الإنساني وهنا أيضا الحاجات صنفان: الرعاية والحماية. موضوع علم السياسة هو مستويا وظيفة الدولة أو دور القيمين عليها من القوى السياسية فرض كفاية بمشاركة كل الجماعة فرض عين: الحماية الداخلية والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية للإنسان. والغاية من هذين الدورين هو تحقيق شروط القدرة على البقاء والتجدد الدائم في إطار النظام الدولي. والنظام الدولي ليس ظاهرة حديثة ومثله العولمة. فكلاهما ليس جديدا إلا في مستوى البروز والطغيان لكن الحضارة كانت ولا تزال كونية دائما لأنها حصيلة ما في المعمورة من جماعات متواصلة ومتفاصلة في تقاسم جغرافيتها وثمرتها وتاريخها وثمرته ورؤى الوجود المتماثلة وظيفيا وإن تعددت صيغها. وشرح هذه المسألة متقدم على الأسئلة لأنها تبدو غريبة بل ومنافية لظاهر التاريخ. فالمعتاد هو توهم الحضارات كانت منعزلة وحولها جدران من جنس جدار الصين. ولا يدرون أن بناء الجدران دليل على صحة ما أدعيه وليس العكس. فما كان الصينيون يحتاجون لجدار لو كانت الحضارات جزائر منفصلة. فكلما رجعنا إلى بدايات التاريخ كلما كان التواصل أكثر سلما وحربا لأن شروط الحياة كانت تستمد مما تنتجه الطبيعة مباشرة وكان الجميع تقريبا رحلا طلبا لهذه الشروط بحسب الفصول طلبا للماء والكلأ تماما كما نرى البشر اليوم طلبا للمواد الأولية والطاقة وحتى الاسواق دون ترحال. ولهذه العلة كانت السياسة دائما ومنذ أن انتظمت الجماعات حتى في شكل قبائل تتواسع كلما حصل تبادل وتزاوج خارجي ذات وجهين داخلي وخارجي لكأن الداخلي تمتين لحمة الجماعة الواحدة لتكون قادرة على رعاية ذاتها وحمايتها من الجماعات الأخرى التي تقاسمها نفس الشروط الضرورية للقيام. واستقرار الحدود بين الشعوب والأم ظاهرة جديدة وهي قابلة للتغير بمجرد أن يتغير توازن القوة والقدرة بين الأمم وأحيانا تزيد الحدود في نفس الجماعة بالتفتت أو تنقص بالتكتل في عملية وصفها ابن خلدون في كلامه على العصبيات تكتيلا أو تفتيتا لها كالأمواج التي يحدثها رمى الحصوات في بركة ماء. وبمعيار نظرية ابن خلدون التي قدمنا موجزها في الاستطراد الاول فإن دور الطبيعة يتناقص ودور الثقافة يتزايد بتقدم التاريخ الإنسان. والبداية هي حصول الاستقرار حول المياه والشروع في الزراعة التي تغني عن الترحال طلبا لـ”نحل العيش” المعتمدة على منتج الطبيعة جنيا وعلى الكلأ والماء للأنعام. وبين العمران البدوي والعمران الحضري -دون أن يتوقف الأول عند نشأة الثاني- لا بد من نشأة الدول بالمعنى الذي هو موضوع بحثنا بمعنى أن الدولة من حيث النشأة سابقة على المدينة التي هي أساس العمران الحضري والبداية الحقيقية لوظيفتي السياسة النظامية وتكوين مؤسسات الحماية والرعاية. وأهم مؤسستين شارطتين للحماية والرعاية مؤسسات الانتخابين: الانتخاب الاول الذي يلازم تكوين الإنسان وتموينه حتى يكون للجماعة عامة والدولة خاصة شروط تقسيم العمل ويعتمد على المنظومة التربوية التي تحقق شرطي العمل على علم: التكوين التقني والتكوين الخلقي شرطيه الضروريين والكافيين. ويليه مؤسسة الانتخاب الثاني: وهو ملازم لمؤسسة الحكم التي تحتاج إلى انتخاب ثان ممن تم انتخابهم في الانتخاب الاول ليكونوا القيمين على وظيفتي الدولة حماية ورعاية ولكل منهما خمسة فروع كما بينا. لكن الانتخاب الأول مخمس ومثله الانتخاب الثاني. وبهما تكون الجماعة “خالقة” لذاتها “كاوزا سوي”. فالانتخاب الأول الذي يقع في التربية بصنفيها النظامي في المؤسسات التربية وفي بقية المؤسسات المجتمعية ككل (كالأسرة والمعمل والنوادي والجمعيات) يحدث في اصناف النخب الخمسة: في نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود. ففي كل واحدة منها يحصل انتخاب تراتبي. وفي المجتمعات التي يكون أهلها حريصين على شروط البقاء والتجدد بقيم الاستقلال وعدم التبعية يكون هذا الانتخاب الاول صارما بمعياري الكفاءة في الاختصاص والأخلاق في ممارسته حتى تكون حصيلة الانتخاب المعين الذي يجري فيه الانتخاب الثاني بنفس الحرص. وهو كذلك في المقومات الخمسة. فالدول التي تؤطر الجماعة في إدارة شؤونها وتنوبها في ما هو من مجال فروض الكفاية لا يمكنها أن تحقق الحماية والرعاية بالحكم بمعنى السلطة السياسية الممثلة لإرادة الأمة فحسب بل لا بد لها من سلطة العلم وسلطة القدرة وسلطة الحياة وسلطة الوجود حتى تكون أفعالها متناغمة في العمل على علم وإذن فالأساس هو مستويان من الانتخاب هما شرط السياسة وثمرتها في آن: 1. الانتخاب في تكوين الإنسان وتموينه لأداء كل الوظائف التي تسد حاجات الجماعة المادية والروحية (موضوع علم ابن خلدون). 2. والانتخاب في حكم الإنسان أو لرعاية سد نوعي الحاجات ورعايتها. ويمكن أن يكون الانتخابان بالعكس. وذلك هو أصل وهن الدول والأمم. وهو نتيجة ما يسميه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” إذ إن التربية والحكم بقلب الانتخاب طردا لمن يتصفون بالكفاءة والأخلاق وجذبا لمن يتصفون بعكسهما فيفسد العمل الذي يصبح على جهل فلا تسد الحاجات بصنفيها وذلك هو مفهوم “العالة”. ومن هنا تصبح قيم المقومات هي المدار: فالإرادة حرة أو عبدة والعلم حق أو باطل والقدرة خيرة أو شريرة والحياة جميلة أو قبيحة والوجود جليل أو ذليل. القيم الموجبة لا تتحقق إلا في الدول ذات السيادة التي يكون يؤمن مواطنوها ويعلمون بالحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال. أما في الحالة التي تفسد فيها معاني الإنسان فالرعايا يؤمنون ويعلمون بالعكس تماما: العبودة والباطل والشر والقبح والذل. ولست بحاجة لضرب أمثلة فيكفي القارئ أن يلتفت حوله ويرى ما يجري في بلادنا العربية وجل بلاد المسلمين: الرعايا عبيد يسيطر عليهم الباطل والشر والقبح والذل. ولهذه العلة كانت ثورة الشباب بجنسيه ثورة روحية قبل أن تكون سياسية: والدليل شعارها المستمد من بيتي الشابي وهو شعار يعيد النظر في علة كل هذه الصفات السلبية لأن سوء فهم القضاء والقدر جعل حياة الجماعة تربية وحكما تؤدي بالضرورة إلى وساطة ووصاية تفسدان معاني الإنسانية. ولهذه العلة فكل تحليل سياسي يزعمه صاحبه مبنيا على “العلوم السياسية” لا يحدد قوة الدولة والجماعة على نظام انتخابيها ليس سياسيا ولا علميا بل هو مبني على أحوال النفس. فالمحلل لا يرى من الظاهرة السياسية إلى أحوال نفس حكامها وبطانتهم أو معارضيهم وليس في المحددات المؤثرة حقا. ومن هنا يغلب على هؤلاء المحللين الخطب الوعظي والإرادوي لكأن الأمر رهن أحوال النفوس وليس له علل عميقة تعود في غاية التحليل إلى نظامي الانتخاب لأن السياسة لا تعمل بعصا موسى بل بما تحققه النخب بتناعم أفعالها نخبة الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من نتائج فعليه في مجالها. وليكن مثالنا أي دولة غربية متقدمة أو حتى إسرائيل: فالسياسي فيها (ممثلا للإرادة) يستطيع أن يريد واثقا من نفسه لأن نخبة العلم (البحث العلمي) ونخبة القدرة (الاقتصاد والثقافة) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الرؤى (الاستراتيجيون والفلاسفة ورجال الدين) كل في مجاله يجعل الإرادة قدرة. لكن حتى لو افترضنا ساسة ذوي إرادة قوية دون أن يكون كلامهم مطابقا لإنتاج علمي واقتصادي وثقافي وفني واستراتيجي يحول الإرادة إلى قدرة سياسية فعلية فإن إرادته لن تتجاوز الأقوال فتكون عنتريات عديمة المفعول الإيجابي ويرتد على الامة مفعولها السلبي أو العيش على وهم قدرة معدومة. وتلك هي علة غلبة الخطاب الإنشائي في الجماعات التي لم تحقق هذا التناغم بين الإرادة السياسية والخلقية والعلم الطبيعي والإنساني والقدرة المادية والرمزية والحياة الفنية والجمالية والوجود الرؤيوي الديني والفلسفي ويكون فعلها مجرد أقوال فتتحول إلى ظاهرة صوتية لا تؤثر في التاريخ. وإذا كان الموضوع كلام والتحليل كلام على كلام فلست أفهم حينئذ دلالة “علوم سياسية”. ولست أفهم خاصة الجمع في “علوم” ليس لأني أنفي أن السياسة هي ملتقى بالمعنى الذي عرفته لكثير من العلوم لكن علم السياسة ليس جملتها بل ملتقاها وتكون هي علوما مساعدة لعلم ملتقاها كما عرفناه سابقا. فالملتقى كان عند ابن خلدون “سد “الحاجات المادية (العمران البشري) والروحية (الاجتماع الإنساني) فتصحب كل العلوم التي تسهم في سد نوعي الحاجات علوما مساعدة وليست موضوع علمه بالقصد الاول بل هي ما لا بد منه وكأنها علوم آله بالنسبة إلى علمه الذي هو ثورة لم يسبق إليها. فتجاوز بذلك الفلسفة القديمة (اليونانية) والفلسفة الوسيطة (الإسلامية والمسيحية) فلم يبق من منتسبا إلى البارادايم الأرسطي الأفلاطوني بل إلى بارادايم جديد لم يصبح ممكنا إلا بعد تجاوز نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة في موضوع هو من إبداع الإنسان بل هو عين “إنتاج” الإنسان لشروط قيامه.