علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – القسم الاول/ الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟

تقدمنا خطوات في تعريف “ملتقى” العلوم التي تؤدي دورا في السياسة لا يختلف عن الدور الذي تؤديه العلوم المساعدة في درس موضوع جديد تعد تلك العلوم أدوات في علمه وليس هي علومه. وبذلك ننتقل من علوم بالجمع إلى علم بالمفرد فاعتبرناه “سد” حاجات وظيفتي الدولة أي الرعاية والحماية بفروعهما. ثم خطونا خطوة أهم وهي سد حاجات الانتخابين الذي يتحقق بالتربية تكوينا وتموينا للإنسان بحسب كل التخصصات التي تحتاج إليها الجماعة في تقسيم العمل وبالحكم حماية داخلية وحماية خارجية للإنسان بحسب وظائف الدولة التي تكون بمن يشعلها قيمة فرض كفاية بمساهمة الجماعة ورقابتها فرض عين. ثم تقدمنا خطوة ثالثة لما حصرنا محالات الانتخابين بالاعتماد على نظرية تصنيف النخب فبينا أن هذا الانتخاب مبني على مقومات الإنسان التي هي في آن مكونات الجماعة ومكونات الدولة من حيث هي ممثلة للجماعة في كل أفعالها: نخبة الإرادة ونخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة ونخبة الوجود. ثم تقدمنا خطوة رابعة عندما بينا أن الدولة تكون شرعية وصالحة عندما تحقق المطلب الاساس في كل جماعة وهو شروط البقاء الحر والسيد وذلك بمعيار قيم المقومات الموجبة وبينا أن هذه القيم هي الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال ويمكن أن تنعكس بفساد الدولة والجماعة فيعملان بسوالبها. وقبل أن نصل إلى الخطوة الخامسة لا بد من وضع أهم سؤال لم نضعه إلى حد الآن وهو يتعلق بدور الانتخابين في مفهوم الدولة المطابقة لطبيعة وظائفها أو لفضيلتها بالمصطلح الفلسفي أي ما من دونه لا تسمى دولة. وسأنطلق في الجواب من مقولة شهيرة “الشخص المناسب” رجلا أو امرأة” في المكان المناسب”. فهذه “الحكمة” إن صح التعبير فيها الكثير من المضمرات: 1. من يضع؟ 2. من الشخص المناسب؟ 3. وما المكان المناسب؟ 4. وما الشيء الذي تتحدد فيه الأماكن المناسبة 5. وما علاقة الأماكن المناسبة في الانتخاب الأول بالتي في الانتخاب الثاني. وفي ذلك معضلتا الجماعة والدولة في كل زمان ومكان. فأما المعضلة الأولى فهي ازدواج كيان الدولة: 1. فهي من جهة أولى نظام أماكن أو خانات وظيفية أو مؤسسات تناسب بنظامها سد الحاجات التي لأجلها انشئت الدول. 2. وهي من جهة ثانية قيمون يملؤون تلك الخانات او الأماكن معياره أن يكونوا مناسبين للوظائف التي تؤديها تلك الخانات أو المؤسسات. والتناسب الأول تقني خالص لأن الدولة حينها تكون بنية مجردة خالية من قيمين عليها وهي تمثل بتناغم خاناتها بنية النظام المؤسسي الذي “يصنع” بالإرادة المشرعة ليكون مناسبا للوظائف الدولة التي تسد حاجتي الرعاية والحماية. والثاني يضيف إليه الكفاءة والأخلاق شرطين لمن يملأها من القيمين عليها. وأما المعضلة الثانية فهي الانتظام الذاتي بمعنى أن الجماعات وخاصة دولها ذات خلق وانتظام ذاتيين “كوازا سوي” علة ذاتها. فالعمليتان المتمثلتان في “خلق” جهاز الدولة المؤسسي من حيث هو نظام مؤسسي يحقق عند ملئه وظائف الدولة وفي ملئها بمن يناسبها كلتاهما خلق مستمر من الجماعة نفسها. وهكذا نجد أن الأسئلة التي وضعناها انطلاقا من عبارة “الشخص المناسب في المكان المناسب” واستخرجنا ضمائرها لم يبق فيها بغير تحديد إلى ما نعتره الخطوة الأخيرة في تحديد موضوعنا: سؤال من يضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالمعاني التي عرفناها في ما تقدم؟ وطبعا لا يمكن أن نجيب عن سؤال “من يضع” من دون أن نحدد كيف يكون ذلك الوضع ومن أين يأتي الواضعون الذين يبدون وكأنهم يمثلون أصل الانتخابين الأول بالتربية ويتعلق بوظائف الإنسان في تقسيم العمل في الجماعة والثاني بالحكم ويتعلق بوظائف الحماية والرعاية في كل جماعة (الدولة). وهذا السؤال الذي يبدو مجرد مسألة سياسية متعلقة بمن ينتخب وكيف ينتخب من يناسب المكان المناسب في الجماعة أولا وفي الدولة التي تمثلها ثانيا هو من أهم مسائل نظرية العلم (الابستمولوجيا) ونظرية القيم (الأكسيولوجيا) وهو أهم خلاف بين أفلاطون وارسطو قديما وبين كنط وهيجل حديثا. وحتى لا أبتعد كثيرا سأكتفي بكنط وهيجل وطبيعة العلاقة بينهما لا تختلف كثيرا عن طبيعة العلاقة بين أفلاطون وأرسطو في هذه القضية. كان هيجل يهزأ من أساس النقد الكنطي أعني من سؤاله عن المعرفة العلمية وشروط إمكانها وصحتها وحدودها من دون تعيين موضوع معين أي المعرفة بإطلاق. ومن الواضح أن اعتراض هيجل وحتى سخريته لا تعبر عن موقف صادق تماما كموقف أرسطو من أفلاطون عندما يسخر من نظرية التذكر ونظرية المثل المفارقة الافلاطونيتين. فهيجل يقول كنط ما لم يقله. فكنط لم يزعم أن من ينقد المعرفة العلمية ليس ممن بلغ الغاية في علم الأشياء وكأنه يبدأ النقد من عدم فما ينطلق منه كنط هو حصيلة الممارسة العلمية السابقة التي يتم خلالها اكتشاف ما في معرفة علمية من قبليات ليست صادرة عن التجربة بل هي شروط حصولها. والقبلي عند كنط هو معنى ما يتذكره الإنسان بوصفه بلغة ديكارت أفكارا فطرية (Idées innées ): سقراط يساعد العبد في تذكر ما لديه من فطري. وما لدى العبد من فطري لا يمكن للعبد أن يتذكره من دون سقراط في دور القابلة التي تساعد العبد على “الوضع” بمعنى وضع الحامل لما تحمل بأيدي القابلة. والقوابل في حالتنا هم من صاروا في أصناف النخب من اعترفت لهم الجماعة بكونهم يمثلون زبدة الانتخابين في مجال الاختصاص. ويحق لنا الآن أن نخطو الخطوة الخامسة: فلنسم هؤلاء الذين يعترف لهم كل نوع من النخب الخمس بأنهم أفضل ما أفرزه الانتخابان في مجالهم أي في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود بما يمكن تسميته بسقراط المجال أي قابلة الاجيال فيه فيكون لكل دولة مهما كانت متخلفة حقا أو وهما خمس قوابل. فالقابلة في نخبة الإرادة هي من يعتبره ممثلو الأمة في المجال الأدرى بقبليات الإرادة أي بشروط إمكانها وصحتها وحدودها. والقابلة في نخبة العلم هي من يعتبره ممثلو الأمة في المجال الأدرى بقبليات العلم أي بشروط إمكانه وصحته وحدوده. وهلم جرا في بقية المقومات القدرة والحياة والوجود. وليس لهؤلاء القوابل سلطان فعلي على المجال وأهله بل سلطانهم رمزي ومعنوي وهو ما به يميز ابن خلدون بين مفهوم “الرئاسة” ومفهوم السيادة. فالرئاسة سلطان معنوي يجعل الجماعة هي التي تضفيه على صاحبه والسيادة سلطان مادي يفرض نفسه على الجماعة. فيكون أساس شرعية الدول هو هذا السلطان المعنوي. ذلك أن الدولة نفسها حتى وإن كانت بحاجة إلى الشوكة فإن الشوكة مهما كانت متحوشة لن تضمن لها البقاء ولا خاصة السلام فتكون من ثم كما وصف ابن خلدون العصبية مفضية للهرج لأنها شوكة أو عنف أعمى خالية من شروط الشرعية وأهمها هي هذه الرئاسات الخمس أو القوابل السقراطية الخمس. وبعبارة وجيزة يمكن القول إن العرب اليوم ليس لهم هذه القوابل السقراطية. لذلك فالحابل مختلط بالنابل. لم تتمايز المجالات والجماعات الجزئية التي لها رئاسات في مجالها تعترف بها دون أن يكون لهم سلطان مادي على أحد هم رئاسات معنوية تمثل الوعي بقبليات المجال لبلوغهم الغاية فيه في عصرهم ويمكن القول إن هؤلاء السقراطات الخمسة هم أصحاب الرؤى التي تهتدي بها الجماعات والدول في تحقيق مقومي المحافظة على الكيان تقوية وتجديدا أي الرعاية والحماية. ذلك أن الدولة كيان معنوي حتى وإن كان يتعين في جهاز مؤسسي يملأه أشخاص بمعيار المناسبة في الكفاءة والخلق. وفي الجماعات التي لها هذه الرئاسات المعنوية أو القوابل السقراطية لا خوف عليها حتى إذا حصل خلل ظرفي في إحدى وظائف الدولة -كالحال في أمريكا الآن بنجاح ترومب في الرئاسة-لأن لها حروز ضد الخلل الجزئي بخلاف دولنا: فلا فرق بين مراهق السعودية وترومب. لكن الأول طامة لغياب الحروز. وما يصح على مثال ترومب في أمريكا يصح على كل “ترومب” ممكن في أي بلد غربي لأن مجتمعاتهم لها القوابل السقراطية في كل مجالات الاختصاص التي يمكن تصنفيها بنفس المعيار الذي صنفنا به النخب فتكون الاختصاصات اللامتناهية مردودة إلى الأصول الخمسة التي تصنف بها القابلات السقراطية. وما يصح على مراهق السعودية يصح على كل بلاد العرب من الماء إلى الماء بل وعلى جل بلاد المسلمين لأنها فاقدة للقوابل السقراطية وكل شيء فيها لا رئيس فيه بسبب الحابل والنابل أو الهرج بالمعنى الخلدوني الي يعم كل محالات الأنشطة والعمل اذ لا شيء فيها يعتبر عملا على علم. وما زاد الطين بلة هو التقدم التقني وخاصة في مجال التواصل. ففيه بتوسط التويتر الفايس بوك إلخ.. يكاد الجميع يدعي العلم اللدني لكأنهم يولدون علماء دون حاجة للتعلم الرصين والصبور والمديد حتى إن الإنسان اليوم يمكن أن يكتب الدكتوراه في أسبوع استنادا إلى شيخه “جوجل”. وفي هذه الحالة يغيب الشرطان: النضوج الضروري بممارسة المجال والانتخاب الأمين في المستويين الأولين بالتربية وبالحكم. والمجتمعات التي فيها الرئاسات الخمس بما يطابق القوابل السقراطية كل خلل في أي منها قابل للتدارك بفضل هذه القوابل. لكن غيابها يجعل الانتخابين ينقلبان إلى العكس وسأضرب مثالين وأبدأ بتونس: في عهد بورقيبة مهما قيل فيه كان النظام التربوي في تونس من أفضل الأنظمة حتى إننا كنا لما نذهب لإتمام الدراسة في فرنسا لا نجد فرقا يذكر بين مستوانا المعرفي والمنهجي ومستوى زملائنا من نخب فرنسا في مجال الاختصاص. والمثال الثاني ليس من التعليم بل من السياسة. فعندما أنظر في طبيعة البطانة السياسية في حكومات الثورة المضادة لا أرى إلا مراهقين عابثين جعلوا السياسة العربية معارك أطفال في الاحياء ويسمون هؤلاء مستشارين وهم أقصى ما يعلمونه قد لا يتجاوز خرافات مربياتهم المستوردات من آسيا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي