علم السياسة، ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟ – القسم الاول/ الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟

لم يكن الاستطراد والكلام في ثورة ابن خلدون مجرد استعراض لقراءتي لابن خلدون بل هو ضرورة يقتضيها الكلام في “علم السياسة” لأن جوهر عمله هو اللبنة الاولى في هذا العلم كما سنبين لاحقا. وقبل ذلك لا بد من استطراد آخر علته الغاية التي ختم بها ابن خلدون مقدمته: دور الذوق في وجود الإنسان. مسألة علم السياسة الأعقد هي دور الخيارات الذوقية في كل ما هو سياسي لأن غايتها كما أسلفنا هي تحقيق الحماية والرعاية من أجل الغاية التي سماها ابن خلدون “الأنس بالعشير”. فكل ما نسميه مصالح الدول يتحدد في الغاية بالغاية: فما من أجله تتكون الجماعات لتحتمي وترتعي هو خياراتها الذوقية. والخيارات الذوقية هي الوجه القيمي من المفهوم الخلدوني الذي سماه “نحلة العيش”. كل الخلافات بين الأمم تعود في الغاية إلى الخلاف حول نحل العيش وأساليبه وهي في الجوهر خيارات قيمية ذوقية. وما لم نفهم ذلك يمتنع أن نحلل علاقات الشعوب وحتى الاجيال في نفس الشعب بعضها بالبعض سلما وحربا. ولذلك فالتحليل العلمي والتحليل الخلقي وحدهما لما هو سياسي لا يكفيان بل لا بد من التحليل الذوقي. وغالبا ما يكون الذوقي مقدما على الخلقي في المجتمعات البشرية وهو بالطبع مقدم على العلمي. فالجميع يعلم أن التبغ قاتل لكن ما يصحبه من ذوق لا يعير للعلم أهمية في قرارات الإنسان السلوكية. وهذا هو العنصر الأكثر استعصاء على التحليل السياسي في العلاقات بين البشر عامة وبين ممثلي الجماعات في مؤسسات دولها سلمية كانت أو حربية وهما وجها السياسي سواء كان السياسي داخليا أو خارجيا لأن العامل الذوقي في حد ذاته وبصرف النظر عن الذائق عسير الضبط والتحديد. وهذا هو موضوع الاستطراد الثاني في المحاولة تمهيدا للجواب عن الاسئلة التي حددناها بدقة فائقة وهي كافية لتحديد القصد بعلم السياسة الذي ما يزال إلى الآن علما فاقدا لشرطيه أعني تحديد طبيعة الموضوع وطبيعة العلاج الذي يكون علميا فيه التحليل الذي يقدر المواقف والوضعيات السياسية مثلا. وأول خطوة هي التمييز بين العلمي والذوقي في مصدرهما الثاني المشترك. ذكرنا سابقا أن للعلمي والذوقي مصدرين مشتركين. أحدهما هو التقدير الذهني والثاني هو المعطى الحسي الذي يصبح تجربة إذا اكتشفنا ما فيه من ثوابت مقومة تصاغ بما يبدعه الإنسان من مقدرات ذهنية من أحد النوعين. وبهما يتميز العلمي موضوع الإبستمولوجيا والقيمي موضوع الاكسيولوجيا. والمقابلة هنا هي بين العلمي والقيمي عامة. لكن القيمي كما بينا خمسة أنواع قيم الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود. فيكون الأبستمولوجي بنحو ما أحد أنواع القيم (الحقيقة والباطل في معرفة الوجود). فقيم الإرادة شارطة لكل ما عداها كإمكان وهي الحرية والعبودية وقيم العلم هي الحقيقة والباطل وقيم القدرة هي الخير والشر وقيم الحياة أو الذوق هي الحمال والقبح وقيم الوجود أو الرؤى هي الجليل والذليل. وكلها تنتسب إلى ما سميناه الخيارات التي تمثل الدافع الرئيس لكل سياسة حقا أو مظهرا. وسأبدأ بالذوقي الخالص أو قيم الحياة جمالا وقبحا لأنه أكثرها تعقيدا وأقلها قابلية للمعرفة الدقيقة حتى إن الحكم الشائع هو القائل بأن الذوق لا يفسر ولا يعلل ولا يمكن أن يتفق عليه اثنان. ومع ذلك فهو المحدد الأساسي لكل مواقف البشر الفردية والجماعية ومن ثم فهو المؤثر في السياسة. ولعل أبرز تجلياته يمثلها دور المرأة في السياسة وخاصة في وسائلها اللطيفة التي هي شبه سلطان مواز لكل سلطان ظاهر في كل المجتمعات وفي كل الحضارات وفي كل مراحل التاريخ بل إن ما يسمى بالتاريخ الصغير وراء التاريخ الكبير لعله هو الاكبر من كل كبير في كل سياسة. وبصرف النظر عن دورها في السياسة فإن نموذج المرأة من حيث طبيعة دور الذوق يمثل أفضل طريقة للتمثيل لدوره الذوق عامة لأنها تمثل نوعي الجمالي (الاستيتيكي عامة) أعني نوعيه الذي “تصنعه” الطبيعة والذي يصنعه العقل: فهي لوحة فنية طبيعيا ولا تكتفي بذلك بل هي لوحة فنية بالمجملات الصناعية. وذلك على الاقل في مستوى إدراك الذوق من قبل الرجال. وقد يكون لإدراك الذوق من قبل النساء ما يماثله في الرجال وإن كان البعد الصناعي أقل مشاركة فيه فيكون الجمالي في الرجال عند النساء بالعكس هو ما يغلب عليه الجمال الذي تصنعه الطبيعة لأنهن يرين في الصناعي عند الرجال تخنثا وليس جمالا. ومعنى ذلك أن للمقابلة أنوثة رجولة دورا كبيرا في معايير الذوق إذا تعلق بحامله البدني وسنرى لاحقا أن لحامله الروحي معايير مماثلة وأن الاصل في ذلك كله هو معايير من جنس التي تكلمنا عليها في المحاولة السابقة عندما تكلمنا على عين الرسام وأذن الموسيقي وأنف العطار ولسان الطباخ ومس اللماس. وفي الحقيقة فإن أصل عين الرسام وسمع الموسيقار وأنف العطار ولسان الطباخ كلها هو مس اللماس لأن كل الحواس تدرك باللمس واللمس هنا مذكور في متوالية من الأبعد إلى الأقرب إلى حدد المماسة التي هي تماس المدرَك والمدرِك وأقصى درجاته بين مدرٍكين: ولهذا اعتبر رمز القرآن للجنس به. وقد اعتدنا أن نعتبر هذه المدارك مدارك ملكات ذات صلة بالمعرفة لكنها في الحقيقة من طبيعة ذوقية وليست من طبيعة معرفية وكل محاولة لردها إلى “الملكة” المعرفية تخطيء كثيرا حتى وإن كان لها بها صلة. هي “ملكة” ذوقية. والمطلوب ما يماثلها في القائد السياسي والقائد العسكري خاصة: “الفلار”. وهي من أسرار العبقرية في القيادة السياسية والقيادة العسكرية خاصة وفي كل قيادة عامة. ومن شروطها المعرفة دون شك لكنها لا ترد إليها ولا تقتصر عليها خاصة. والعلة أن المعرفة تقتضي وقتا يطول أو يقصر لتحليل القرارات الآنية كما يحصل لقائد المعركة في المعركة حيث لا يمكن انتظار التحاليل. وهذا “الفلار” تجوده وتلطفه التجربة لكنه ليس مكتسبا كملكة بل هو من علامات سرعة البداهة والإلمام السريع بأساسيات الوضعيات وهو ضروري في القيادة في الاقتصاد الذي يمكن لأي تأخير في أخذ القرار وخاصة في الاقتصاد الحديث حيث للمعلومة والمضاربة الدور الأول والأخير في النجاح والفشل. والآن كيف تعلو هذه الملكة على المعرفة العقلية المجردة؟ سآخذ الحواس الخمسة وأبين ذلك لأعود لاحقا إلى مسألتنا للجواب عن الأسئلة الخمسة التي طرحناها بالقياس إلى تحديد ابن خلدون لأبعاد تعريف أي علم وخاصة في الإنسانيات التي هي أكثر تعقيدا من الطبيعيات. وسأبدأ بالذوقي في كل حاسة. فالبصر يدرك الأشكال من حيث هي أشكال لكن الرسام يدركها كذلك ويدرك جمال أنسقها. والسمع يدرك الأصوات والموسيقي يدركها كذلك ويدرك أنغمها. والعطار يدرك الروائح كذلك ويدرك أطيبها والطباخ يدرك الطعوم كذلك ويدرك ألذها. واللامس يدرك الملمس كذلك ويدرك ألطفها. والمستوى الاول من كل هذه المدارك معرفي خالص وهو مشترك بين جميع البشر: كلنا نرى الشكل بأعيننا ونسمع الصوت بآذاننا ونشم الرائحة بأنوفنا ونذوق الطعام بألسنتنا ولهاتنا ونلمس الأجرام بأيدينا. لكن الرسام والموسيقار والعطار والطباخ واللماس له أمر آخر لا يكفي فيه العلم. أو لنقل إن العلم فيه ليس صاحب الحكم الفصل حتى وإن كان من شروطه. وهذا الذي يعلو على العلم الذي مصدره القدرة العقلية يمكن أن نعتبر القدرة التي يصدر عنها بكونها قدرة الحب أو الجاذبية بين المدرٍك والمدرَك وهو جوهر الحياة نفسها عندما تصل إلى ذروة الإدراك لتجلياتها في هذه الحوامل. فذروة الحياة في إدراك التناسق المكاني للأشكال هو ما يتميز به الرسام وذروة إدراك التناغم الزماني للأصوات هو ما يتميز به الموسيقار وذروة إدراك مزيج الطيب هو ما يتميز به العطار وذروة إدراك مركب الطعوم هو ما يتميز به الطباخ وذروة الذرى هو التماس في التلامس. ولا يكون التماس في التلامس بين متلامسين من طبيعة واحدة إلا في العلاقة الجنسية وهو ما يعني أن الرسام والموسيقار والعطار والطباخ والملامس كلهم في علاقة شبيه بالعلاقة الجنسية أو علاقة حب بالأشكال والأصوات والروائح والطعوم ومن هنا الطبيعة “اللامعقولة” في كل فن لأنه عين تجلي الحياة هو “باسيون” أو غرام جارف لا يمكن تفسيره بالعقل حتى وإن يحاول العقل أن يفسر التناسق الشكلي بالنسب الرياضية والنظام والتناغم الصوتي بالنسب الرياضية وامتزاج الروائح بالمقادير الكمية من مواد العطور وامتزاج الطعوم بالمقادير الكمية من مواد الطعام. لكن الموضوعي لا يطابق الشعور الذاتي. ويتجلى ذلك خاصة في إدراك الجمال الانثوي عند الرجال والجمال الذكوري عند النساء: ففيه إدراك الشكل لأن البدن شكل نحتي وليس رسمي لما فيه من تضاريس وفيه النغم (صوت الجنس المقابل) وفيه الرائحة وفيه الطعم وفيه خاصة المس في الملامسة. فإذا أضفنا الجمع بين الطبيعي والصناعي تعقد الامر أكثر. و”الفلار” الإضافي عند من لهم هذا الفرق الإدراكي في السياسة عامة وفي كل عمل قيادي يقتضي إدراكا فوق الإدراك العادي الخاص بمجال القيادة: فأي إنسان يرى الوضع السياسي أو وضع ساحة المعركة أو الوضع الاقتصادي إلخ.. من مجالات القيادة بإدراك الوصف الموضوعي: فهل هذا كاف لأخذ القرار؟ المشكل أننا سمينا في المدارك الحسية ما يجانس الامر الذي نتكلم عليه في القيادة عامة لكننا لم نسمه إلى الآن رغم أنه ما به ميزنا في تصنيف النخب بينها من خلال غلبة المقوم الذي يغلب على المنتسبين إليها إرادة أو علما أو قدرة او حياة أو وجودا لأن أي إنسان له هذه المقومات بغلبة إحداها. ولتقريب المعنى فلكأن الرسام عين لا غير والموسيقار أذن لا غير والعطار أنف لا غير والطباخ لسان لا غير واللماس مس لا غير. والقصد أن هذه القدرة الإدراكية عنده هي الغالبة عليه. وذلك بخصوص المقومات: فلكأن صاحب الإرادة إراة لا غير إلخ.. لكنهم جميعا لهم كل المقومات بغلبة إحداها. ونعود الآن إلى المرأة: قلنا إنها لا تكتفي بالحامل الطبيعي للجمال شكلا (بدنها) ونغما (صوتها) وطيبا (رائحتها) وطعما (ريقها) ومسا(بشرتها) بل هي تضيف إلى ذك كله مزينات ومجملات لكل واحد منها بمقتضى الموضة أو بحكم المرآن التي تجعلها هي الحكم في مظهرها الذي تعتبره عين وجودها وتأثيرها. وهذا هو بيت القصيد: الدول والجماعات والسياسيات فيها ما هو حقيقي وهو إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها كما هي في حقيقتها ثم الإيهام بما ليس حقيقيا فيها إما بحكم ما يشبه المرآة للمرأة من أجل التأثير في الذات وفي الغير أو بحكم القوة اللطيفة التي تعد بها حروبها العنيفة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي