لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلم السياسة ما موضوعه؟ وما طرق علاجه؟
القسم الاول/ الفصل الاول
لا أنفي أن لأحوال النفس في فهم أفعال البشر عامة والافعال السياسية خاصة دورا مهما. لكن حصر التحليل السياسي فيها لا يمكن أن يفيد علما حقيقيا. فما الذي يجعل من يدعون الاختصاص في العلوم السياسية يتجاهلون ما للأحداث السياسية من طبائع تحدد مجراها ولا ترد إلى أحوال نفس القيمين عليها؟ سأحاول فهم المسألة في ضوء ما سعيت لبيانه عند كلامي على “العمل على علم” وهي عبارة فيها تكرار غير ضروري (بليوناسم) لأن ما يحدث دون علم من الإنسان لا يمكن أن يسمى عملا ومن ثم فالعمل لا يكون عملا إلى على علم وإلا فهو تخبط كالحال في جل أعمال النخب العربية الخمس. وإذ سبق فصنفت النخب إلى خمسة أصناف فالأعمال مثلها خمسة أصناف: 1-نخبة الإرادة وهي السياسية خاصة ونخبة العلم وهي نخبة البحث العلمي خاصة ونخبة القدرة وهي نخبة الانتاج المادي والرمزي ونخبة الحياة وهي نخبة الفنون ونخبة الوجود وهي نخبة الرؤى الوجودية دينية كانت او فلسفية. وطبعا تحت كل صنف يوجد ما لا يتناهى من الأعمال كما يوجد في كل صنف من النخب ما لا يتناهى من الدرجات لأن جميع البشر يشاركون في الأعمال التي يجمعها الصنف لأن كل فرد إنساني له إرادة وله علم وله قدرة وله حياة وله وجود بمستويات مختلفة وبأقدار متفاوتة. وهذه الأعمال متوالجة ومتشاجنة وهي التي تمثل نسيج الحياة الجماعية التي تجعلها بمقتضى نظامها الأرقى أو صورتها المعبرة عنها إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا تصبح وكأنها ذات وحدة تعمل على علم في كل هذه المجالات فتكون الجماعة ذاتا لها رؤية وإرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود. لكن العالم ليس فيه جماعة واحدة بل هو مؤلف من جماعات متجاورة في المكان ومتوالية في الزمان ومن ثم فهذا الذي وصفناه في الجماعة بمنظور الوضع الساكن ينبغي أن ينظر إليه في ذاته أولا وفي علاقاته بمن حوله في المكان وبمن قبله وبعده في الزمان بمنظور متحرك برؤية تتجاوز أحوال النفس. وما يحول دون تجاوز الرؤى التي تغلب أحوال النفس في التحليل هو سيطرة الرؤية الجدلية التي تعتبر كل شيء مبارزة بين طرفين متنافيين فيبحث المحلل عن طرفين ما وعادة ما يكون المقابلة بين القيادات في بلدين متعاديين ثم يبني تحليلاته وكأن الامر يتعلق بمبارزة بينهما كما يجري في بلاد العرب. فيرد كل شيء إلى علاقة صدام أو غرام بين قائدين مستبدين يجعلان العمل محكوما بأحوال نفسيهما فيغيران كل شيء من الكون إلى العدم أو من العدم إلى الكون دون أن يكون له قوانين تحكمه أو سنن تضبطه أو لكأن القائدين ليهما عصا سحرية والقدرة على الإيجاد بـ”كن” والاعدام بـ”لاتكن” وفي الحقيقة فإن من يشار إليهم باسم القائد في هذه الحالة لا يقود شيئا لأن القيادة إذا لم تكن عملا على علم فهي تخبط وليست قيادة. ومن ثم فالقيادة إذا كانت قيادة بحق فهي لا تعتمد على أحوال النفس بل على نفس المكونات التي بينا أنها تتجلى خاصة في العمل المنتج لشيء سواء كان ماديا أو رمزيا. ولا يمكن أن يقع أي إنتاج سواء كان اقتصاديا أو ثقافيا من دون أن يتكون من خمس عوامل وخاصة في السياسة: 1. لا بد من فكرة 2. ومن مستثمر لتطبيقها 3. ومن ممول لتحقيقها 4. ومن عملية الإنجاز الفعلي للمنتج المادي أو الرمزي 5. ومن مستهلكين للمنتج وطالبيه لسد حاجة فعلية للمنتج. فإذا طبقنا ذلك على السياسة كان الامر كالتالي: 1. لا بد من رؤية 2. واستراتيجية سياسية تستنتج منها تطبيقا ما 3. وقوة سياسية لها القدرة على تحقيقها بالمال والأعمال 4. وفريق منها يعمل على إنجاز المنتج المنتظر من تلك السياسة 5. وشعب ينتظر ذلك المنتج السياسي باعتباره تحقيقا لمصالحه بفضله. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المنتج السياسي داخليا أو خارجيا. وفي الحقيقة لا شيء في السياسة يمكن أن يكون داخليا دون أثر خارجي أو خارجيا دون أثر داخلي ومن ثم فالأمر كله تفاضل مؤقت بين الوجهين لأن ما هو داخلي عندك خارجي عند خصمك وما هو خارجي عندك داخلي عند خصمك. وقد يتوهم الكثير أن ذلك خاص بمرحلة العولمة من تاريخ الإنسانية لكنه في الحقيقة ملازم لهذا التاريخ في كل مراحله التي هي معولمة دائما وبمعنيين: معولمة في المكان بين الأجوار المتعاصرين ومعولمة في الزمان داخليا بين أجيال نفس الجماعة وبين الجماعات المتوالية فأبعاد العمل الخمسة كونية. فلا خصوصي في الحضارات إلا الفلكلور بقدر ما لكن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود كلها مقومات كونية تتوارثها الأمم والحضارات زمانيا الأقرب فالأقرب وتتبادلها مكانيا الاقرب فالأقرب وخاصة بمناسبة الحروب لأن كل خصم يريد أن يفيد مما يعتبر خصمه قد تفوق عليه به. وحتى بصرف النظر عما يترتب على التنافس بين الأمم فإن ما تختلف به الإرادات والعلوم والقدرات والحيويات والوجودات مضموني وليس شكليا بمعنى أن الامم قد تختلف بحسب المراحل في المضامين لكن طلبها من حيث شكله ومنهجه إنساني بالجوهر: كلنا نريد ونعلم ونقدر ونحيا ونوجد بنفس الأجهزة الكيانية. وكلنا نتعلم من بعضنا البعض دون الوقوف عند الحدود الحضارية لأي منا ما هو مكتسب في كيف نريد وكيف نعلم وكيف نقدر وكيف نحيا وكيف نوجد والمشترك غير المكتسب تابع لكياننا العضوي والروحي بمعنى أن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود مرسومة فيهما بالطبيعة والفطرة. ولولا هذين المبدأين لاستحال على أي منا أن يفهم سلوك غيره فضلا عن أن يحلله فيستنتج منه علله وما يتوقعه من مآله ومآل العلاقة معه وذلك خاصة في الاستراتيجيات سواء التعاونية أو التحاربية بين الأمم. ومنهما نستنتج ما سنحاول بيانه في الجواب عن سؤال: ما موضوع ما يسمى بالعلوم السياسية؟ وأول عناصر هذا السؤال يتعلق بالجمع المبهم في “العلوم السياسية”. فلا شك أن كل علم يعد نقطة لقاء لكل العلوم بنحو ما سواء في الطبيعيات أو خاصة في الإنسانيات. لكن ذلك لا ينبغي أن يبقى مبهما لأن نقطة اللقاء التي تلتقي فيها العلوم المسهمة في مسائله هي موضوعه ولا بد من تحديدها. ومرة أخرى يمكن اعتبار ثورة أبن خلدون في تأسيس علمه مثالا جيدا لبيان ذلك: فمن ينفتح المقدمة يجدها وكأنها نقطة لقاء كل العلوم. لكنه مع ذلك حدد موضوعه بدقة صارمة فلم يسمي علمه علوم كذا بل سماه علم كذا رغم أن كذا هو نقطة لقاء تلك العلوم المتدخلة في درسه للظاهرة كذا موضوع علمه. ولأن الظاهرة التي يدرسها علمه والتي هي نقطة لقاء Point de concours أو “دوار” Rond-point هي في موضوعه ذات مستويين فقد سمى علمها بعلم العمران البشرية والاجتماع الإنساني: مستوى سد الجماعة لحاجاتها المادية وسدها لحاجاتها الروحية. فيكون “الواحد” هو سد الحاجات والمتعدد أصناف الحاجات. وعلى نفس المنوال يصبح سؤالنا: ما الواحد في دراسة الظاهرات السياسية قياسا على الواحد في درس الظاهرات العمرانية والاجتماعية. وبصورة أدق كيف ننقل التعدد في “علوم” إلى علم بتوحيد الموضوع وإن تعددت مجالاته كما فعل ابن خلدون فبين وحدة العلم ووحدة الموضوع رغم ازدواج مجالات تطبيقه. وحدة الموضوع عند ابن خلدون هو “سد الحاجات” وتعدد مجالاته هو الحاجات بصنفيها المادي والروحي. ولما كان المادي والروحي الذي تسد حاجاته هو عين كيان الإنسان فإن الموضوع يصبح “العمل على علم الذي تقوم به الجماعة لتحقيق شروط قيام الإنسان ببعدي كيانه المادي والروح”. هذا هو موضوع علمه. هدفي من هذه المحاولة التي اعترف بأنها شديدة العسر هو تعريف علم السياسي بنفس الطريقة: فالموضوع عمل ما (ما هو؟) على علم (ما هو) لسد حاجات (ما هي؟) يكون العامل فيه هو الدولة التي تمثل إرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها إما تمثيلا فعليا وشرعيا أو تمثيلا شكلي وغير شرعي. خمسة أسئلة إذا أجبنا عنها تمكنا من القيام بما يناظر ما قام به ابن خلدون في تعريف علمه: 1. ما العمل الذي هو موضوع علم السياسية؟ 2. كيف يكون علم؟ 3. لسد أي نوع من الحاجات؟ 4. من الفاعل؟ 5. وكيف تتدخل مقومات الإنسان في فعله. ذلك هو التعريف الجامع المانع. وكما يعلم كل من له دراية بمقدمة ابن خلدون فهو حصر العلوم التي تلتقي في علاج موضوع علمه بوصفه نقطة لقائها فسمى: 1. في الباب الأول علم تفاعل العاملين الطبيعي (الجغرافيا والمناخ) والثقافي (توقع المستقبل بخصوص شروط الحياة وما يتهددها) وأثرهما في فاعل العمران كبشر والاجتماع كإنسان. 2. ثم في الباب الثاني حدد مفهوما جديدا سماه “نحل العيش” التي هي حصيلة التفاعل بين العاملين الطبيعي والثقافي الذي حدده في الباب الأول ليصف به شكلها في مراحل البداية للعمران والاجتماع. وسمى ذلك العمران البدوي ويعرف بغلبة العامل الطبيعي على العامل الثقافي في تحقيق شروط قيام الإنسان. وفي الباب الثالث يدرس مفهوم الدولة وكيفية نشأتها وحياتها ومقومات فعلها التي يرجعها إلى شروط الشوكة وشروط الشرعية. والشوكة تمثلها العصبية والشرعية تمثلها شروط خروج العصبية من كونها مفضية إلى الهرج إلى كونها محققة لما يحفظ الدولة أعني وظائفها التي من أهمها الأمن والعدل. وبذلك تتحقق شروط النوع الثاني من العمران أو العمران الحضري وفيه تتغير “نحل العيش” فيصبح الثقافي متقدما على الطبيعي في سد حاجات الإنسان أي إن ما يحتاج إليه الإنسان هو الذي ينتجه ولا يعتمد فيه على الإنتاج الطبيعي. وينتج عن ذلك أن الطبيعة تصبح تابعة للثقافة والبدوي للحضري. وتكون التبعية أولا في الانتاج الذي يسد الحاجات المادية المباشرة أو التقنيات والصناعات وفي الجملة الاقتصاد وذلك هو موضوع الباب الخامس وهو يفترض أن الانتاج يصبح عملا على علم لكنه علم تقني وليس علما نظريا وهو انساق خبروية وتجريبية وليس بعد علما أنساقه نظرية التعليل والتحليل. والباب السادس والأخير هو الذي يتعلق بسد الحاجات الروحية وفيه العلوم النظرية الطبيعية والإنسانية ونظرية التربية واللغة ثم نظرية الذوق وخاصة ما يتعلق منها بالفنون التي مادتها اللسان أعني الشعر. وهذه العلوم تعكس الاتجاه فيصبح من الثقافي إلى الطبيعي بعد أن كان من الطبيعي إلى الثقافي. فنعود من السادس إلى الخامس أو من العلوم إلى الاقتصاد فيصبح على علم ومنهما إلى المدينة التي تعتمد عليهما ومنها إلى الدولة التي تتعقلن ومنها إلى العمران البدوي الذي يستتبع ومنه إلى العلاقة بين الطبيعة والثقافة التي تجعل الإنسان أكثر تأثيرا في الطبيعة رغم كون البداية كانت العكس.