خمسة مشاهد حدثت في تونس من لم يعها ولم يفهمها فميؤوس منه في السعي لإنقاذ تونس مما يعده لها المتربصون بتجربتها الديموقراطية وبوحدتها الوطنية وذلك من خلال ما يتجلى من سلوك رئيس الدولة أعني “راس القرطلة”. فلكل بلد عربي “بلحته”:
المشهد الأول هو اللقاء الذي تقدم على فشل محاولة تشكيل حكومة الجملي بطريقة من يطالب بحكومة الرئيس بديلا من حكومة مجلس النواب. وهو مشهد أضفى على بقية المشاهد التواطؤ البين لرئيس الدولة مع أصحاب “حكومة الرئيس”.
المشهد الثاني هو اللقاء الذي تلا تشكيل الحكومة الثانية بوصفها حكومة الرئيس بوزير أول وليس برئيس حكومة. إنه اجتماع أول مجلس حكومة الرئيس في قصر قرطاج والخطبة العصماء التي تكلم فيها بوصفه صاحب كل السلط ومحدد برامجها.
المشهد الثالث هو الحملة على مجلس النواب في الجنوب التونسي والتحريض على النواب والدعاية لمشروع الرئيس. وهو المشهد الأكثر دلالة على العته المستحكم في ما يجري في تونس التي وصل وضعها السياسي إلى الدرك الأسفل لما أصاب راسها.
مشهد الجمع بين ظاهرتين مختلفتين تماما ولا تقبلان علاجا من نفس الطبيعة. لكن الرئيس جمع بينهما في مشهد واحد كوميدي كاريكاتوري حقا كما هو بين من الخطبة البهماء المصاحبة. إنه اجتماع مجلس الأمن الذي خصص لإشكالية كورونا (والمفروض أن يكون الحضور الطاغي فيه الاطباء وعلماء الاجتماع) ومعها اشكالية العملية الإرهابية الأخيرة.
المشهد الخامس هو عدم الوصل بين العلمية الإرهابية التي كان من المفروض أن تكون قد تقدم علاجها في علاقة بما سكت عنه من معلومات حول جذوره في كما تجلى بعضها في قصة الوردانين (والمفروض أن يكون الحضور الطاغي فيه الأمنين الداخلي ببعديه أي العدل والأمن والدبلوماسية والدفاع).
وقد وقع الخلط بينهما إذا اكتفينا بما أذيع من الخطبة البهماء ربما للتغطية على هذه العلاقة.
وإذن فهي كلها مشاهد تؤيد ما سبق أن شرحته في كلامي على معنى “الكوميديا الكاريكاتورية”.
فهي ليست عبارة فنية عن ذم الرذائل فالإبداع الشعري بمعناه اليوناني ليست هجاء للشرور ضديدة للتراجيديا بوصفها مدحا للفضائل.
فالكوميديا الكاريكاتورية الجارية في تونس ليست عبارة فنية تهجو الرذائل بالمعنى الأرسطي بل هي الرذائل عينها.
إنها تعين فعلي للرذائل نراها تسيطر على المسرح السياسي والمعرفي والاقتصادي والفني والرؤيوي: كل شيء صار كاريكاتور وخاصة في راس الدولة. ولعل أبرز دلالة هذا الكاريكاتور هو الأعلام التونسي.
فالكاريكاتور له شيء من خاصية الجناس مع الكرونيكور: تكرار الكاف وسياسة طاح الكاف على ظله: غطي غطي واكذب اكذب.
كل ما اردت أن أتابع بلاتوهات الكروينكورات وجدت نسخة من الكوميديا الكاريكاتورية التي هي عكس أمين لغاية ما بلغته الاستهانة بالشعب المسكين.
وقد استعملت تعريف أرسطو لتعريف الكوميديا والتراجيديا في هذا المناسبة لبيان ما يباهي بعض المتعالمين من الساخرين من ابن رشد يثبت أنهم ينتسبون إلى هذا الكاريكاتور منسحبا على جامعيي عقاب الزمان.
فهم يتهمون ابن رشد بالغباء ترديدا غبيا لما قاله المرحوم عبد الرحمن بدوي في تعليقه على شرحه-لكنهم زادوا عليه فتصوروا ابن رشد هو الذي ترجم الكوميديا بالهجاء والتراجيديا بالمدح.
وهو ما يعني أنهم لم يفتحوا حتى مجرد الفتح كتاب الشعر فكانوا في الشعر ليسوا أفضل من الرئيس في القانون إذ يكررون محفوظات تكرار من هم “صم بكم عمي فهم لا يعقلون”: عرض محفوظات ميتة ليست مبنية على فهم ولا تحقيق أو تدقيق.
فما المشترك بين هذه المشاهد الخمسة؟
إنه علامات العته والحمق.
ذلك أن من لا يميز بين الاقوال والافعال لا يمكن ألا يكون مريض الخيال وضحية الانفعال إلى درجة عدم الوعي بالحال والمقام والمقال.
إذ كيف يعقل أن تكون المشاهد الخمسة قابلة للتناول والعلاج بنفس المقال والأسلوب بقول “خرنان” معطوب؟
ولنأخذ المشاهد الخمسة ولنحلل ما تقتضيه من علاج سواء أخذنها بوصفها دليل حسن نية أو سوء نية.
فلو كان المشهد الأول دليل حسن نية هدفه اخراج المحاولة الأولى لتشكيل الحكومة بصورة تمكن تونس من الشروع في علاج وضعها المتردي لكانت الدعوة قد جمعت كل الكتل أو على الأقل جلها والدعوة إلى وحدة وطنية.
وإذن فالمشهد الأول كما يعبر عنه تجنب العلاج الاول دال على سوء النية وإنه لكذلك لكان الأولى عدم اظهارها بهذه البلاهة التي تجعل حتى المغفلين في السياسة يفهمون أن التعطيل المتقدم على المحاولة كان للرئيس فيه ضلع.
لم يعد بالوسع التفكير في حسن النية في المشهد الثاني.
لكن هو الحمق الذي يفضح أن سوء النية ليس من الرئيس بل هو خاضع لما يتجاوزه.
فقد أثبت الاجتماع أن رئيس الحكومة وزير اول بدليل محاولة الرئيس نفي ذلك.
لو كان الأمر غير ذلك لما احتاج للتركيز عليه. واثبت الاجتماع أن تعيين من ليس منتخبا ومن ليس له حزب ومن ترشح للرئاسة وكانت النتيجة صفر فاصل لكنه عينه دون أن يعلل اختياره ما فيعطي مصداقية لتأويل “هاتف” ماكرون ليلة التعيين.
ولنمر إلى المشهد الثالث.
فالرجل كان في خدمة برلمانات ابن علي وهو لا يجهل أنها ناتجة عن عملية كاريكاتورية للديموقراطية المزيفة بشهادة سلفه المرحوم السبسي.
لم تكن الانتخابات حرة ولا نزيهة ولا ممثلة ومع ذلك لم نسمعه قال فيها ذما بل كان ما قاله في قانون الانتخاب مدحا لأنه يسترزق من تعليم النواب.
فإذا به يصف برلمان ما بعد الثورة ودستور الجمهورية الثانية بأسوأ مما يتصف به برلمان ابن علي ودستور الأولى بعد ما أُدخل عليه من تشويهات كان من مؤيديها بدليل أنه كتب في ذلك و”علم” نوابه.
وهما أمران لا يمكن أن ينكرهما لأن بعض الوثائق منشورة في صحف العهد.
أما بخصوص المشهدين الرابع والخامس فجمعهما وحده دليل كاف ليس على العته فحسب بل كذلك على عدم الحياء والخجل من فضح الذات. فيمكن للمغالطة أن تنطلي ولكن لانطلائها حدودا من لم يدركها فقذ ظن الآخرين حمقى مثله.
هبنا سلمنا أنه يمكن مغالطة الأحزاب في المشهد الأول.
هبنا سلمنا أنه يمكن مغالطة الحكومة في المشهد الثاني.
هبنا سلمنا أنه يمكن مغالطة الشعب في المشهد الثالث.
لكن هل يمكن أن نسلم بأنه يمكن مغالطة المسؤولين عن الأمنين الداخلي والخارجي في المشهد الرابع؟
وهل يمكن أن نسلم بأنه يمكن مغالطة المسؤولين عن الأمنين الصحيين في علاقة بالكورونا في المشهد الخامس؟
طبعا أعتقد أن أيا من هذه المشاهد لا يمكن أن ينطلي على عاقل. ومن ثم فمن تصور أنها قابلة للمرور مر الكرام فهو لا بد محتقر للشعب ولا يدري أن الشعب قد “فاق” به.
ولم يعد يراه قادرا إلا على ما ستحرمه منه الكورونا من “بوس وتعنيق” ولين يبقى له إلا ما قد تذهب إلى افقاده إياه فتح فيه إذ إن الرذاذ المصاحب للتقعير قد يكون من حوامل العدوى يصعب تجنبه إلا بتقدير.