علاقة المدرسة النقدية بفلسفة القرآن – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علاقة المدرسة النقدية بفلسفة القرآن

الفصل الثاني من البحث في علاقة المدرسة النقدية بفلسفة القرآن تقتضي أن نفهم علة نظرية الدلالة في أي نظام رمزي سواء تعلق بالمعاني أو بالقيم. والأول تابع للمعرفة بما هي مبدع للأدوات التي تحقق الغايات التي يبدعها الذوق: فكل جماعة تنتج غاياتها القيمية بالذوق وأدوات دلالاتها بالمعرفة.

دور الذوق في إنتاج الغايات ومعانيها ودور المعرفة في إنتاج الأدوات ودلالاتها هو المدخل البديل الذي افترضه أكثر توضيحا للعلاقة بين الفعلي والرمزي في الحضارة الإنسانية. ومعنى ذلك أن الفعلي الأساسي عضوي غذائيا وجنسيا وصلا بين الطبيعي في الأحياز المحيطة بالإنسان واحياز كيانه.

والأحياز المحيطة جغرافية وتاريخية وتفاعلهما من الاول إلى الثاني هو المستوى الرمزي الذي يتوسط بين العلاقتين كأبداع جمالي ومعرفي هو التراث ومن الثاني إلى الأول هو المستوى الرمزي الذي يتوسط بين العلاقتين كإبداع مادي ومعرفي هو الثروة. وتلك هي فروع المرجعية الموحدة لكيان الجماعة.

والأحياز الذاتية للإنسان هي كيانه العضوي الروحي. فهو بدنيا جزء من الحياة والطبيعة وهو روحيا عودة الكيان العضوي على ذاته وعيا بها وبحاجاتها غاية وبإبداع شروط سدها أداة. وما يبدعها لسد الحاجات الغذائية والجنسية هو غاية كل معرفة حتى عندما تكون ما بعديه في النظر والعمل.

والحضارات التي تغفل عن ذلك يصبح وجودها في خطر لأنها تتوقف عن إبداع الغايات فتبقى في أدنى مستويات ما يسميه ابن خلدون “النحلة في العيش” وعن إبداع الادوات فتبقى في أدنى مستويات الإبداع في أسباب سد الحاجات التي تفتضيها غايات النحلة في العيش.

ولنأخذ مثال الزراعة: فمنذ آلاف السنة ما يزال الشرق نحلة عيشه بدائية غاية وهو يحصلها بأدوات بدائية. فلا النقل في المكان ولا نظام الزمان ولا أدوات استمداد شروط عيشه من الطبيعة تقدمت لأنه لم يبدع غايات جديدة فيها فضلا عن جمود الأدوات التي تسدها غذاء وجنسا ودواء وكنا.

وهذا كله مناف لثقافة القرآن: فهو يعرف الإنسان بكونه مستعمرا في الارض أي مطالب بتعميرها وخليفة أي إنه مطالب بالتعامل معها بقيم الاستخلاف الذي يتأسس على مبدئين: أولهما الاخوة بين البشر والتعامل بالتعاون والتبادل والتعاوض العادل وظيفة أولى للتربية والحكم.

وهذا المنظور يلغي سخافات ادعياء الحداثة لأنه يبين أن ما يحتجون به لاستبعاد الإسلام عن السياسة هو عين ما يطلبه القرآن: فمن قرأ منهم سورة النساء إذا نزيها ويطلب المعرفة فهو الوصل المتين بين الملكية وعلاقة المرأة بالرجل وبين السلطة والجماعة بشرطي القيام العضوي (الغذاء والجنس).

ولذلك فهي علوم وهمية تتكلم فيما لا يعلم بالطبع لأنه من الغيب الذي صارت تقيسه على ما تسميه الشاهد بمعنى أنها ترد المجهول إلى معلوم عامي جعل القرآن الذي هو ماوراء الذوق والمعرفة مجرد حكم شعبية لمثرثرين يسمون أنفسهم علماء وهم لم يشموا رائحة المعرفة.

ذلك أن المعرفة التي لا تبدع شروط سد الحاجات الأولية للقيام العضوي والروحي لا يمكن أن يعتد بها إذ هي تخل بمقوم الإنسان الأول أي المستعمر في الارض ولما يعجز عن تعميرها يصبح تابعا لها وتابعا لمن يسد الحاجات فيكون عابدا لسادها وليس عابدا لربه وربها: شعوب متسولة.

وحينئذ يصبح أكلها أكل الأنعام وجنسها جنس الحيوانات وعلمها تخريف عجائز وذوقها وأخلاقها وحريتها وكرامتها كلها تابعة لمن يستبد بذوقها وعقلها فتكون ما يسميه الزاعمون بأنهم راسخون في العلم عامة: وحتى يبقى لهم عليهم سلطان لا بد من أغرافهم فيما يؤدي إليه تحريف القرآن.

وأهم تحريف بعد الغاء الحريتين هو الخلط بين نوعي الفقر: المادي الناتج عن عدم الإبداع لشروط تعمير الارض والفقر الوجودي الذي هو عين كيان الإنسان بوصفه الوعي بنسبية إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده وعيا هو في آن شعور دائما بالاشرئباب إلى المطلق والاستكمال الخلقي.

وعندما يقع الخلط بين مفهومي الفقر المادي والروحي يصبح الإنسان فاقدا لمعاني الإنسانية بلغة ابن خلدون أي إنه عالة على غيره في سد حاجاته المادية والروحية فيفقد حقيقة العبادة التي تصبح تعويضية وليس إيجابية: تدين الفقراء ماديا مناف تماما لمفهوم الإنسان القرآني.

والفروض الأربعة إذن غير ممكنة من دون التمكن من سد الحاجات الضرورية للقيام بها وكلها مكلفة. وإذن فالتعمير شرط الخلافة. ولا تعمير من دون إبداع الأدوات ولا أبداع للأدوات من دون إبداع العلم بقوانين الطبيعة والتاريخ شرطي العلاقتين العمودية بالطبيعة والافقية بين البشر.

ولهذه العلة فلا يصح على من جمد ذوقه فلم يبدع الغايات ومات عقله فلم يبدع الأدوات أن يكون إنسانا لأنه يرفض “الكبد” لعيشه ويكتفي أقل جهد لجمع ما تنتجه الطبيعة (أو لبيع ما تنتجه الطبيعة كحال من يظنون أنفسهم أغنياء من بين العرب): يعيشون ببيع ما لم ينتجوه بعقلهم ويدهم.

وكل ذلك مناف حتى للفهم السطحي للقرآن: خلق في كبد. لكن المسلم الحالي عامة والعربي خاصة لا يعرفون الكبد لا البدني ولا الفكري بل يكتفون بمد اليد (من ليس لهم بترول حاليا والجميع سيصبح كذلك) فيكونوا عبيدا لمن يسعفهم: الأغنياء يستولون الحماية والفقراء يستولون الرعاية.

وفي هذه الحالة فلا يكاد مسلم أن يكون قادرا على شروط الحرية والكرامة: فكل بلاد المسلمين محميات وجل نخب المسلمين ببغاوات وخاصة حكامهم وطبالي حكامهم. لذلك فلا عجب إذا كان المسلمون اليوم أقل شعوب الأرض توفيرا لشروط الاحترام فيذلهم أكثر شعوب الارض دناءة.

وطبعا فستجد من يتصور أن ذلك يعني تقديم العناية الحياة الدنيا على الحياة الآخرة وتقديم علمها على علمها لكن ذلك من سخافات من جعلوا المسلمين فاقدين للدنيا والآخر في آن: ذلك أن من توهم الفقر المادي طريقا إلى التدين لا يفهم التدين على حقيقته: فهو العمل في الدنيا بقيم القرآن.

ولا يمكن أن يشرئب الإنسان إلى الآخرة من يغرق في مطالب الدنيا بسبب قعوده عن العمل الممكن من السلطان عليها. لا تصدقوا أكاذيب المتصوفة: فهم يعيشون على إيهام الناس بأن قيم الآخرة غير قيم العمل في الدنيا بأخلاق القرآن. أما سخافات العلوم اللدنية فلا يصدقها إلا “بوسعدية”.

لو كان كلامهم صادقا لما بنى الرسول دولته بالعمل الدنيوي بأخلاق القرآن: فهو اجتهد نظريا وجاهد عمليا ولم يصدق الكرامات والخرافات التي ينوم بها من يعتقدون أنهم أولياء يلغون الحريتين: فهم وسطاء أغرقوا المسلمين في كراماتهم المخادعة وثرثراتهم التي يظنونها عميقة وهي مبتذلات الفلسفة.

الفقر الوجودي لا يحتاج لهم فهو جوهر الاشرئباب الملازم لكل إنسان تحرر من الغرق في مطالب الدنيا ولم يتحرر منها فيطفوا ليرى آيات الله في الآفاق والانفس بصورة تجعله سيدا على الدينا مشرئبا لما يتعالى عليها ومحققا لما يعد مطية الوصول إلى أخلاق القرآن.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي