لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علاقة المدرسة النقدية بفلسفة القرآن
حاولت صوغ البنى المقومة للثورة الفلسفية النظرية والعملية في المدرسة النقدية بما يشبه المعادلات الهندسية وتوبولوجية الفضاءين النظري والعملي بهدف فهم فلسفة النظر وفلسفة العمل في الفلسفة القديمة والوسيطة في فكر ابن تيمية النظري وفكر ابن خلدون العملي حتى وإن لم أرسم هذه الأشكال.
ولم تكن هذه المحاولة معنية بهما لذاتهما بل لأني انطلق من فرضية تميز فكرهما بكونه تحرر من أثر الفلسفة القديمة والوسيطة التي كانت تحول دون فهم موقف القرآن النقدي وبديله الموجب لفهم مشروعه الاستراتيجي في الوصل بين الرؤية الكونية للإنسانية وشروط تحقيق الحريتين الروحية والسياسية.
ويمكن الآن أن أقول إن انقلابين حصلا في نظرية الإنسان وفي نظرية الاجتماع كما ورثتها الفلسفة والكلام من فلسفة أرسطو وأفلاطون: كيف انتقل الفكر عندهما من تقديم علم النفس على علم الاجتماع إلى عكسه ومن تقديم الاقتصاد المنزلي على الاقتصاد السياسي إلى عكسه؟
وعكس التقديم الأفلاطوني الأرسطي في الحالتين له علاقة
بالعناصر الصفات المقومة لكيان الإنسان
وبالأحياز المقومة لقيام الجماعة مضمونيا (المجتمع المدني)
وبالسلطات المقومة لقيامها شكليا (المجتمع السياسي)
وبالعناصر المقومة لما سميته بالمعادلة الوجودية
وبوحدة الإنسانية أصلها جميعا
فماذا أعني بقلب العلاقة بين الاجتماع والنفس وبين الاقتصاد السياسي والاقتصاد المنزلي إذا قارنا ما كان سائدا من ارث أفلاطون وأرسطو بما بنى عليه ابن خلدون فلسفته في التاريخ والسياسة والعلاقة بين الطبيعة (ممثلة بالعمران البدوي) والثقافة (ممثلة بالعمران الحضري) في تكوينية موضوع علمه؟
فأما تقديم الاجتماع على النفس فهو بين من تقديم الاقتصاد السياسي والدولة على الاقتصاد المنزلي والأسرة نموذجين لتصور السياسي عامة. ولنورد النص:
“اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش. فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي”(المقدمة اا.1).
وقد قسم ابن خلدون نحل العيش إلى مرحلتين بدويتين (الرعي والفلح) ومرحلتين حضاريتين (التجارة والصناعة) يوحد بينها أمر خفي: ليس الطبيعي ولا الثقافي هو المحدد بل طبيعة العلاقة بين العلاقتين العمودية بين البشر والطبيعة والأفقية بين البشر كبشر.
والكلام على نحل العيش يبدو من حيث المضمون مقصورا على الذوق بمعنى الغذاء خاصة لكن كلام ابن خلدون لاحقا وخاصة في تحديد أثر الترف القاتل للحضارة يضيف العنصر الجنسي (ندرة الاول وتسيب الثاني) ومن حيث الشكل وصله بالتقدم الثقافي الناقل بين نحل العيش.
وشرط هذا التقدم الناقل بين نحل العيش تكون الدولة المبنية على عقدين كلاهما مضاعف رغم أن ابن خلدون اقتصر على ثنائية العقل معتبرا الديني واحدا مع تأسيس على وظيفة الدولة: الوازع الأجنبي في الحماية الداخلية والخارجية دون ذكر الرعاية لأنها كانت تابعة للمجتمع المدني.
ولنورد نص العقود الخمسة التي تنطلق من الحالة الطبيعية أو العصبية المفضية إلى الهرج إلى الجماعة التي تتحرر بالعصبية المتعاقدة مع الجماعة للحماية الداخلية والخارجية شرطين في تجاوز الحالة الطبيعية الحائلة دون التعاون والتبادل والتعاوض العادل.
“في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره: اعلم انه قد تقم لنا في غير موضع أن الاجتماع البشر ضروري وهو معنى المارن الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه. وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والاخرة لعلم الشارع بالمصالح والعاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.
لا بد أن أشرح علة المناظرة بين العقدين العقلي والديني. ذلك أن اعتبار الملكية عقدا عقليا يقتصر على المصالح الدنيوية لكنه زائف بالمقارنة مع العقلي الاول لاقتصاره على مصالح الحاكم يناظره دينيا الاقتصار على المصالح الأخروية ويعامل الدنيوية مثله: الخلافة اسما والملكية فعلا.
وينهي ابن خلدون نصه بعبارة بديعة: “إلا أن الملوك المسلمين يجرون منها (من حكم الملوك أو العقد العلقي الثاني) على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين اجتماعية طبيعية وأشاء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولا ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم” (نفس المصدر).
وهو ما يعني أن الحكم في كل الدول جامع للعقود الأربعة العقليين والدينيين مع الشروط الاجتماعية الطبيعية من شوكة وعصبية واخلاق وعقل ودين. لا يوجد حكم مقصور على العقل أو الدين بل هو مزيج دائما.
اختلاف اساليب الحكم لا يغير أمرين: طبيعة الحكم (الشوكة والشرعية) ووظيفته الوزع في الحماية الداخلية والخارجية ومحاولة ألا يكون طرفا في النزاعات المتعلقة بسبب الصراعات الاقتصادية والثقافية. فهذه وظائف المجتمع المدني لا السياسي في نظرية ابن خلدون العمرانية.
كل من له دراية بفلسفة افلاطون وأرسطو يعلم ان بنية النفس ذات الثلاث قوى (العقل والغضب والشهوة) هي نموذج الدولة عند الأول وبنية الأسرة هي نموذجها عند الثاني وإذن فالنموذج في تصورهما طبيعي وليس تاريخيا ومن ثم فهو ثابت حتى وإن تعددت الأنظمة السياسية لديهما.
ونفس الأمر يقال عن الثورة في النظر عند ابن تيمية: التحرر من نظرية المعرفة المطابقة تنفي إمكانية العلم المحيط مع التمييز رين نوعين من المعرفة: الكلية والبرهانية في علوم المقدرات الذهنية والجزئية والإحصائية الاستقرائية في علوم الموجودات الخارجية لأنها مزيج من الذهنية والعينية.
والأمر هنا أيضا ذو صلة بما بين العلاقتين العمودية (مع الطبيعة) والأفقية مع البشر: فهذه العلاقة ليست محيطة بل هي متضايفة مع ما يحصل بين العلاقتين من ثمرة في الإنتاجين المدي والرمزي أي في إنتاج ما يسد الحاجات المادية أو الاقتصاد وما يسد الحاجات الروحية أو الثقافة.
فتكون الثورة ببعديها نقلة من توهم الإحاطة بالطبيعة والتاريخ ما حقيقتهما في ذاتهما إلى السيطرة النظرية والعملية على علاقة الإنسان بمحيطه الطبيعي (العمران البشري) والتاريخي (الاجتماع الإنساني) في صلة بالذوق بمستوييه وبالمعرفة بمستوييها خاصيتي الإنسان الجوهريتين.
وهذه الثورة لا يمكن فهم قطيعتها مع الفلسفة اليونانية وقراءاتها الوسيطة من دون اعتبارها تغيرا في فلسفة النظر وفلسفة العمل اللتين يقول بها القرآن الكريم إذا حرر من تحريف فهومه التي نتجت عن علم الكلام والميتافيزيقا اللذين كانا سائدين قبل نزوله وخلال قراءته بتصوراتهما.
.