وقد بينا أن فاعلية الذوق تتعين في رمز الفعل التبادلي أو العملة التي هي أداة كل تبادل ممكن بين البشر لثمرة تبادلهم مع الطبيعة وبينا أن فاعلية المعرفة تتعين في فعل الرمز التواصلي أو الكلمة التي هي أداة كل تواصل ممكن بين البشر لثمرة تواصلهم مع الطبيعة.
وإذن فالعلاقتان العمودية بين البشر والطبيعة والافقية بين البشر كفعلين كلتاهما تبادل بين البشر وبينهم وبين الطبيعة وتواصل بينهم وبينها ومن ثم التواصل والتبادل متلازمان في المستوى العمودي بين البشر والطبيعة (علاقة عضوية ذوقية) وبين البشر والتاريخ (علاقة رمزية معرفية).
فيكون المطلوب الآن دراسة التبادل والتواصل القيميين (الذوق وغايته القيمية) والتبادل والتواصل الدلاليين (المعرفة وإداوتها الدلالية). وهما إذن قلب المعادلة الوجودية بين القطبين الله والإنسان مباشرة (الاستخلاف) وبصورة غير مباشرة بتوسط ذوق الطبيعية والتاريخ ومعرفتهما.
ولنا شاهد من هذا التبادل والتواصل القيميين والتبادل والتواصل الدلاليين في عالم الطبيعة والتاريخ الشاهدين في الحضارة وهما لا يذاقان فعليا ورمزيا ولا يعرفان علميا وأدبيا إلا في ضوء غائب مثالي يفترضه الإنسان ويبدع صورا مثالية منهما مقدرين ذهنيا هما نموذجا علم الإنسان وعمله.
والقرآن الكريم بهذا المعنى هو دراما مثالية للتبادل والتواصل تحدد مثالا أعلى لما ينبغي أن يكون عليه أفعال الخليفة النسبية ذوقا ومعرفة بمعايير افعال المستخلف المطلقة ذوقا ومعرفة. إنه نموذج سياسي مثالي للذوق المحدد للغايات ونموذج رياضي للمعرفة المحددة للأدوات شرطين لأهلية الخلافة.
وبهذا المعنى فهو يشرح لنا معنى كون الله يخلق رياضيا ويشرع سياسيا للوجود للكل فيكون الخلق رياضيا مطلقا والأمر سياسيا مطلقا ويذكر الخليفة بمعنى الخلافة احتذاء بالنموذج في عمله ونظره ليبدع شروط قيامه المادية (مستعمر في الارض) بقيم الاستخلاف (مستخلف فيها).
ولنأخذ الآن نظرية القيمة: فالقيمة المادية ذات دلالتين كما بينا استعمالية للقيم المادية في المستوى الأول من الذوق وتبادلية في المستوى الثاني من الذوق: والاول أساس العلاقة العمودية مع الطبيعة والثانية أساس الأفقية مع التاريخ. لكن القيم المادية يناظرها مستويان من القيم الروحية.
وهي ليست استعمالية وليست تبادلية بالمقارنة مع مستويي القيمة الاقتصادية: وهذه يمكن وصفها بالقيم الروحية التي لا تسد حاجة بدنية ولا تقبل التبادل مثل الشرف والكرامة والحرية. فهذه قيم ذوقية مثل الاقتصادية لكنها بمعنى الذوق الروحي لا الذوق المادي. ولا تخلو حضارة من النوعين بمستوييهما.
وتتمايز الحضارات بعتبة التمييز بينهما أي التمييز بين القيم المادية استعمالية وتبادلية والقيم الروحية التي لا تستعمل ولا تتبادل لأنها لا تسد حادة مادية بل هي عين قيام الروح التي لا تستعمل ولا تتبادل وإلا فقدت رتبية الغايات لذاتها أي المطلقة إلى الغايات لغيرها أو النسبية.
فمن كان بلا شرف وليس كريما ولا حرا يمكن أن يصبح هو بدوره قيمة مادية قابلة للاستعمال والتبادل وهي حال العبيد الذين يعبدون العباد بدل رب العباد. فيكون التعلق بالمطلق هو المميز بين نوعي القيم المادية والروحية. والأهلية الاستخلافية تقاس بهذا التمييز على الأقل في القرآن.
وما قلناه عن القيم يقال مثله عن الدلالات. القيم تتبع الذوق في هذه المستويات الأربعة المتفرعه عن اهلية الاستخلاف أصلا لها جميعا ماديها ورحيها. والدلالات تتبع وسائل تحقيقها وحفظها المعرفية لا الذوقية وهي كذلك ذات أربعة فروع مادي وروحي وأصلها واحد مع القيم: أهلية الاستخلاف.
فالدلالة مثل القيمة لها مستويان:
عيني مباشر وهي دلالة الإدراك الحسي.
ومجرد غير مباشر وهو العام المجرد من العيني المباشر بالاستقراء.
لكن المستويين مثل المستويين الأولين من القيمة يتعلقان بتواصلين مباشرين وغير مباشرين مع الطبيعة والتاريخ وكأنهما مثال ذاتهما.
فهذان الدلالتان مثل القيمتين الاقتصاديتين الاستعمالية والتبدالية ويحتاجان إلى دلالتين اخريين ليستا من جنسهما بل هما مقدرات ذهنية يبدعها الإنسان وكأنه خالق وآمر يبدع الموضوع ويشرع له في نوعي الإبداع الرياضي والسياسي مثالين اعليين للطبيعة والتاريخ: علم وسياسة مثاليين.
فتصبح المعرفة الحسية والعقلية المجردة منها قابلتين لأن تصبحا مؤسستين للعلم والسياسية الفعليين اللذين يمكنان الإنسان من سد حاجات قيامه المادي (العلاقة مع الطبيعة بتوسط العلاقة مع مابعدها الله) وقيامه الروحي (العلاقة مع التاريخ بتوسط العلاقة مع مابعده: الإنسان): المعادلة الوجودية.
المعرفة الخالصة نوعان: الإبداع النظري الخالص وهو رياضي والإبداع الفني الخالص وهو أدبي والأول خيال هدفه العلم وقيده المنطق (موجبه وسالبه) والثاني خيال هدفه العمل وقيده الأخلاق (موجبها وسالبها). قد يفهم القارئ معنى الإيجاب والسلف في الأخلاق لكنه لا يفهمه في المنطق.
ويستطيع فهم ذلك بمجرد أن يعلم ان المنطق هو اخلاق العلم الخالص. فمثلا نحن نصف من لا يفي بكلمته خلقيا سلبيا وهذا المبدأ في المنطق هو المحافظة على نفس الدلالة في الاستدلال. فالمغالطي يوصف منطقيا اساسا باستعمال الاسماء المشتركة أو بعدم الوفاء بكلمته في الاستدلال.
الرياضي هو الذي يتقدم نسقيا بالمحافظة على الدلالات التي أعطاها للحدود البسيطة ولقواعد تأليفها في بناء نسقه العلمي الخالص. وهو مبدع للحدود وللقواعد. وإبداع الحدود خلق وإبداع القواعد أمر. فيكون الرياضي خالقا لموضوعه ومشرعا له في نسقه التبديهي: المنطق الموجب.
والمبدع الأدبي الخالص مثل الرياضي. لكنه لا يبدع مفهومات بسيطة أو حدود بسيطة وقواعد تأليفها فتكون الحصيلة علم المقدرات الذهنية في النظر بل هو يبدع شخوصا بسيطة أو حدودا بسيطة (بمعنى عناصر أولى وليس بمعن ساذجة لأنها مقعدة) ثم يستمد منها قصة أو رواية أو سردية لا تاريخية: يتوبيا.
النظر الذي يعلم الموجود الخارجي يعتبره حالة عينية من الإمكان الذي يضعه العلم الرياضي الخالص والعمل الذي يعمل الموجود الخارجي يعتبره حالة عينية من الإمكان العملي الذي يضعه العمل السياسي اليتوبي (وهو الأدب: سياسي بمعنى إدارة علاقات بين شخوص من المبدع مع قواعد الدراما بينهم.
وهذان النوعان من العلاقات بين العلم والعمل الخالصين أي اللذين هما مقدرات ذهنية يكون صاحبهما مبدعا لموضوعهما ولعلمهما هما المنعدمان في كل حضارة غرقت في وحل الحاجات المبشرة وفقدت ما سميته علاقة اشرئباب النسبي الإنساني إلى المطلق الإلهي: معنى الاستخلاف.
اعتذرت للقراء عن الاصطلاح غير المعتاد. لكني لم أكتف بالاعتذار فما من مصطلح استعملته لم ابدأ بتعريفه تعريفا جامعا مانعا ييسر للقارئ الحريص على متابعة التفكير متابعة فاعلة لا منفعلة بالانطلاق منها لكونها تقبل العرض برسوم “ديوجرامية” تحقق التناظر بين عناصر الشكل وعناصر المفهوم.
وقد تكرم أحد القراء النابهين فصاغ بعضها وعرض محاولته علي فرحبت بها وشكرته لكنه توقف ربما لأن الرسوم تزايد تعقيدها وآمل أن يجد مساعدي الوقت فيرسمها كلها مع العروض القولية لتكون عروضا هندسية وتوبولجية مع تحريك النسب والعلاقات بين عناصرها.