لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلاقة المدرسة النقدية بفلسفة القرآن
لما قلت إن الشرق توقف في إبداع “نحلة العيش” استجابة لمطلب الذوق المحدد للغايات وتوقف إبداع المعرفة استجابة لهذه الغايات بإبداع الادوات لم أقل إن الشرق أصبح شرقين بعد تغير موازين القوة في العالم وشرع في النهوض: شرق أخذ أمر الإبداع بشروطه وشرق تصور استيراد ثمراته بديلا.
والأول هو الشرق الأقصى وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية والصين والثاني هو الشرق الأدنى الذي كان من المفروض أن يكون نهوضه أيسر لأن توقف الإبداع فيه لم يدم طويلا أو لأن جمود ذوقه ومعرفته دون جمود ذوق الشرق الاقصى ومعرفته. ومع ذلك فهو اكتفي باستيراد مظاهر الحداثة ابداعا لشروطها.
وعلة جمعي بين التنظير والتطبيق على حالة شرقنا هي وصول الكثير من أدعياء التحديث إلى نتيجة مفادها أن العلة هي ثقافة الإسلام وليس خللا في التعامل مع ثورتيه اللتني هما جوهر الرسالة القرآنية: الحرية الروحية التي تتأسس عليها تربيتها والحرية السياسية التي يتأسس عليها حكمه.
ولست أنسب ذلك إلى نفسي لأن الكلام فيهما هو ما أنسبه إلى المدرسة النقدية وخاصة إلى أكبر فيلسوفين عربين في النظر (ابن تيمية) وفي العمل (ابن خلدون) وما ورائهما: والأمر جلي وصريح عند الثاني لأنه متعلق بفلسفة العمل والتاريخ في حين أنه عند الأول خفي لتعلقه بفلسفة النظر والطبيعة.
كما أني لا أنسب هذه النقلة الكيفية في الفكر الفلسفي النظري والعملي إلى محاولات التحرر من هيمنة الفكر اليوناني أداة لقراءة القرآن لأنه على الاقل بخصوص ابن خلدون فإن أحد أكبر أعلام فلاسفة النهوض في الإبداعين الفلسفي والشعري وعلاقتهما بالذوق سبقني إليها: اقبال.
لكن اقبال لم يبين علل مثل هذا الحكم وأصحاب النقلتين نفساهما لم يضعا فلسفيا أسسهما وتكوينيتهما: فكلامهما بقي يعمل في الغالب بأدوات نظرية وثيقة الصلة بالفلسفة اليونانية وإن بدلالات ومعان أحدثاها لا تقبل الرد إليها فظلت خفية المصدر الذي يعلل الإبداع الضمني فيهما.
وكان السعي لاخراج هذه الدلالات والمعاني الخفية من دوافعي بحثي في فكرهما فضلا عن الهم النظري العام الناتج عن مسألة كونية تتعدى ثورة الفيلسوفين التي هي إرهاصاتها: كيف انتقلت الفلسفة من أسلوبها اليوناني القديم الذي سيطر على جدلها مع الدين منذ الغزو المقدوني إلى اسلوبها الحديث؟
وبصورة أدق كيف تغيرت فلسفة النظر وفلسفة العمل بصورة جعلت المنظور القرآني يصبح التأسيس المابعدي لكل إبداع علمي وفلسفي في فلسفة الطبيعة (الصوغ الرياضي) وفلسفة التاريخ (الصوغ السياسي) بوصفهما مؤسسين للإبداع النظري والعملي: أساس علم الطبيعة إبداع رياضي وأساس علم التاريخ إبداع سياسي.
ونظرية المعرفة إبداع رياضي لا يحيط بالموضوعات الخارجية بل يبدع نماذج لتصورها خلال التعامل معها ونظرية العمل إبداع سياسي لا يحيط بالغايات الخارجية بل يبدع نماذج لتصورها خلال التعامل معها. والتعامل الاول لعلم الضروري من شرائع الطبيعة والتعامل الثاني لوضع الاختياري من شرائع التاريخ.
وما هو ضروري في شرائع التاريخ يتبع الطبيعي أو هو دور الطبيعي فيه وهو ليس من وضع السياسة. أما الاختياري منها فهو ثمرة الإبداع الذوقي بمستوييه محددا للغايات والإبداع المعرفي بمستوييه محدد للأدوات. والمعرفي ليس العلمي بل هو أوسع لأنه يتضمن الإبداع الفني كله وخاصة الأدبي.
وقد أطلقت نفس الاسم على قوانين الطبيعة وقوانين السياسة فسميتهما “شرائع” رغم تمييز بين علم شرائع الطبيعة ووضع شرائع السياسة الاختيارية. والعلة مضاعفة: فقوانين الطبيعة في ذاتها لا يعلمها إلى خالقها. ما نضعه لها من شرائع وإن لم يكن اختياريا فهو من الممكن الضروري المؤقت.
ومعنى ذلك أن قوانين الطبيعة لو كانت مطلقة كما يتوهم الكثير لما وقع تقدم فيها ولما تغيرت ولما كانت من باراديجمات مختلفة بحسب تقدم المعرفة والتعامل مع الطبيعة. فهي إذن شرائع من وضع الإنسان ولكن أكثر من شرائع السياسة ثباتا لأنها تحتكم إلى ما تدركه من نظام أعم من نظام الجماعة.
هي النظام الذي تبدعه المعرفة بنوعيها الرياضي والفني (الفنون الجميلة) انطلاقا من رؤية للعالم والوجود موضوع الجدل بين الدين والفلسفة تقاربا وتباعدا والتقارب هو الذي سيطر على الفلسفة الحديثة بخلاف ما يتوهم أدعياء الحداثة في حين أن التباعد هو الذي كان مسيطرا على القديمة والوسيطة.
ذلك أن الفلسفة الحديثة تخلصت من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة أي من العلم المحيط وتخلصت من النظر البدائي الذي لا يعتبره هو بدوه من البويسيس مثل العمل وليس نفاذا مطلقا لحقائق الأشياء: فكل ما يعمله الإنسان مهما بلغ من التجريد يبقى مشدودا لإبداع أدوات ما يحدده الذوق من غايات.
كم يكتفي بمظاهر العمران سيعتبر كل بلاد العرب وخاصة ذات الثروة البترولية منها أحدث من الحداثة. لكن ذلك كله مستورد. لا شيء شروط إبداعه الذوقي غايات ولا من شروط إبداعه المعرفي أدوات يوجد حقا في بلاد العرب وهذا هو العائق الأساسي لاستئناف الأمة دورها.
فعندما تأخذ النتائج دون مقدماتها لا يكون ما لديك علما بل خبرا عن علم. وعندما تأخذ الغايات دون ما أوصل إليها ذوقيا ودون ما يحققه معرفيا (بالعلم والادب) فأنت تخلط بين مظاهر الحضارة والحضارة. صحيح أن اليابان وكوريا والصين والهند كلهم بدأوا بالمحاكاة. لكن ليس للنتائج بل للمقدمات.
يكفي أن تقارن بين ثقافة العمل في الشرق الأقصى وثقافته في الشرق الادنى وخاصة بين العرب الذين يتوهمون بيع الثروات الطبيعية والآثار التاريخية ثروة مع غياب تام للإنتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) والاقتصار على قشورهما ودور الوسيط التجاري في فضلات الغرب.
وهذا يجعل الحضارة المستوردة عائقا يقتل النظر والعمل في المجتمعات العربية خاصة: ذلك أن الذوق المستورد غايات يوجب استيراد المعرفة الاستعمالية وليس الابداعية. وحتى نفهم القصد بالمعرفة الاستعمالية فهي من جنس تعلم سياقة السيارة والطيارة وليس إنتاجهما بأسلوب مميز.
لا أنوي الكلام على ثورة ابن تيمية في النظر ونظرية الدلالة اللسانية والعلمية أو نظرية الإحالة إلى الموضوعات أو الموجودات فقد تكلمت في ذلك في غير موضع. لكن تغيير النظرية هذا من شرطه التخلص من نظرية العلم اليونانية التي انبنت على وهم شفافية الوجود والمطابقة بين العلم وموضوعه.
فمجرد وصفه علم المقدرات الذهنية بكونه الوحيد الذي تكون حقائقه كونية وضرورية وبرهانية ونفي هذه الصفات الثلاث عن علم الموجودات العينية مع القول بأن هذا لا متناهي وغير قابل للمطابقة مع موضوعه مجرد ذلك دليل على ثورة لم يستفد منها المسلمون بسبب الانحطاط.
ذلك أن وصف علوم المقدرات الذهنية بهذه الصفات يعني أنها تحقق المطابقة مع موضوعها لأنها إبداع للموضوع ولعلمه في آن وليس علما لموضوع خارجي: تبدع الموضوع وتبدع علمه فتكون المطابقة محددة بخلقين مضوعي وعلمي بخلاف علوم الموجودات الخارجية.
ففي هذه العلوم يكون العالم محاولا صوغ ما يدركه من الموضوع الخارجي -وهي قليل ونسبي-بالقياس إلى نماذج مما أبدعه هو موضوعا وعلما متصورا أن وراء الموجود الخارجي شارعا يبدعه ويبدع قوانينه في الغيب فيفترض ما يمكن أن يكون في تصوره لمبدعه: الطبيعة وراءها رياضي مثل المقدرات الذهنية.
ولا يتصورن أحد أن هذه الرؤية من أوهامي. فالخليل بن احمد فسر وضعه للنحو العربي بهذه الطريقة: قال العربية عندي بيت افترضت له بنية وضعها المهندس الذي بناها وحاولت تخيل البنية التي تصورها المهندس ليبني البيت فوضعت النحو استنادا إلى هذه الفرضية.
ماذا تخيل؟
أولا فصل بين تواليف الحروف للمعجم وهي نظرية رياضية عالية طبق عليها تواليف المواد الصوتية فصلها عن تواليف مدد الحركات للشعر وهي رياضية من جنس الموسيقى. وإذن فهو قد طبق حرفيا مفهوم كل شيء خلقناه بمقدار. والمقدار هنا طبق على الحرف والحركة في اللسان.
وهو ما يعني أنه كان واعيا بأمرين: أن علمه فرضي وليس مطابقا بمعنى أنه يضع نموذجا فرضيا لما يتصوره قانون موضوعه فيكون-في هذه الحالة-ما بعد لغة من وضعه وموضوعه اللغة العربية التي ليست من وضعه لكنه افترض أنها من وضع مهندس بنى بيتا هو اللغة العربية.
وهذا هو موقف أي عالم لأي موضوع خارجي ليس من إبداعه. فلا بد أن يفترض أن له مبدعا وأن ما دار في ذهنه هو ما يتخيله فيحاكيه ليكون علما يبدعه هو وكأنه في ذهن المهندس الذي بناه. وما في الدين والفلسفة هو من هذا الجنس بالنسبة إلى الوجود كله فيكون تخيلا للقوانين التي وضعها الخالق المطلق.
وكانت الفلسفة القديمة والوسيطة القائلة بالمطابقة تتصور أن ما تعلمه ليس فرضية حول علم الخالق بل هو نفس علم الخالق: المطابقة تعني الإحاطة. لكن الدين كان يميز بين العلمين وينفي الإحاطة على علم الإنسان ومن ثم فهو أول من رفض نظرية المعرفة المطابقة ثم لحقت به الفلسفة الحديثة.
وسأعود لمحاولة الخليل بن احمد علل تجمدها فلم تتقدم للظن بأن ما افترضه كان حقيقة نهائية رغم أنه نفى عن علمه الإطلاق ولم يدع أن ذلك هو حقيقة اللغة العربية رغم أن اللغات بخلاف الموجودات الطبيعية يمكن اعتبارها من خلق الجماعة التي تتكلمها وليست من خلق الخالق المطلق.