علاقة الشعب بالجيش أو معضلة ثورة التحرر في الإقليم

ه

أحيانا أتساءل: هل المتكلمون في ما يجري مدركون فعلا لأمرين لا معنى من دونهما للكلام في الفلسفة السياسية كلاما نظريا فضلا عن الكلام العملي المتعلق بممارسة القيادة في الحكم أو في المعارضة؟:

  1. هشاشة ما يسمى بالدول في الإقليم بذاتها وهي هشاشة عامة من حيث الطبيعة في كل الدول وخاصة من حيث الكيف والكم في دولنا.
  2. ما يضاعف هذه الهشاشة بسبب التدخلات التي تنوي تحقيق سايكس بيكو ثانية لتفتيت الدول الكبرى في الاقليم.
    ولكن قبل الظن بكلامي في الأمر ظن السوء واعتباره ينتسب إلى التشكيك في إخلاص الحركات الجماهيرية وفي قدرتها على التصدي للأمرين فإني أعلم جيدا أن الكثير سيعتبره رجعيا لما فيه من تخويف من الحركات الجماعية في مثل هذه الحالات وأريد أن أسأل:
  3. إذا كانت هذه الحركات لا تثق في الحكم وهذا مفهوم بسبب التجارب المعلومة فكيف نفهم عدم ثقتها في المعارضة كذلك؟
  4. وإذا كانت “قع” تعني الجميع حكما ومعارضة ولم تجتمع كلمة الجماهير فمن أين سيأتي الحل إذا أزلنا الموجود قبل تحدد المنشود؟
    كلنا يعلم أن السودان مهدد بالتفكك وأن الجزائر مهددة كذلك به وبما هو أكثر منه لأنها تعتبر في نظر إسرائيل وفرنسا عدوا لدودا لا بد من الإطاحة به لما لديه من طموحات تجعله في المدى المنظور وخاصة إذا نجحت ثورته بأخف الاضرار بداية نهاية استعمار فرنسا للقارة واستفراد إسرائيل بالردع.
    فإذا كان الحراك يعتبر جيش الجزائر خائنا وإذا كانت المعارضة خائنة أو ضعيفة وكان كل من عمل في الدولة الجزائرية مدة 60 سنة خائنا فكيف نصدق أن المتظاهرين كلهم أطهار وليس لهم بنحو ما دور في الخيانة والفساد؟ ورأي أننا أمام أحد أمرين:
    • فإما أن الجزائريين يعزمون أمرهم على مراقبة تطبيق الدستور وترك الشعب يختار من يحكمه
    • أو فستكون النهاية فوضى عارمة لن تتوقف وقد تكون أكثر سوادا من العشرية السوداء.
    كثرة المزايدات والمطالبة بمنطق الكل وإلا بلاش سيؤدي إلى تفرق الحراك وتهديد وحدة الجزائر. وكثرة التشدد من الجيش في دعوى تطبيق الدستور بفهم يلغي الاجتهادات التي تمكن من طمأنة الحراك أيضا خطر على الجزائر. فيمكن مع المحافظة على الدستور تغيير الحكومة وتغيير الإشراف على أدوات العنف الشرعي في البلاد (الأمن والجيش والمخابرات).
    فهذا يزيل التوجس ويجعل الشباب يطمئن إلى وعود قائد الجيش والجيش لأن البقية منفذة وليس لها سلطان حقيقي. لا يهم أن يكون الرئيس المؤقت مشكوكـا فيه فهو لا حول له ولا قوة. المهم أن يقوم الجيش يما يطمئن الشباب ويحد من التوجس حتى تمر العملية بسلام وهي خطوة أساسية نحو الديموقراطية.
    فكلنا يعلم أن التحول من الاستبداد والفساد إلى الديموقراطية والإصلاح ثقافة بطيئة التحقيق ومديدته وليس التغيير مجرد إرادة. فإرساء هذه الثقافة يتطلب الكثير من الوقت والصبر والاخلاص. وأظن أن في الجزائر الكثير من الرجال والنساء الذين لهم الكفاءة والإخلاص لتحقيق ذلك مع حماية ما يهدده الأعداء بتمتين الدولة التي هي هشة جدا في العالم كله وعندنا على وجه الخصوص.
    المطلوب الوصول إلى حل تفاوضي مع الجيش وقياداته وعدم تصور الجزائر قد أصبحت دولة ديموقراطية ومستقرة بثقافة هي من المنشود وليست بعد من الموجود. فإذا تعامل الناس وكأنهم في ثقافة ديموقراطية عريقة فهم يهددون نسيح الجزائر. وستصبح السياسة فيها مثلها مثل تونس. فقد أصبح فيها 217 حزبا اغلبها مخترق بقوى أجنبيه تموله لتهديم البلاد.
    وفي كل الأحوال فإن من يخطئ في تقدير ما أحاول بيانه سيكون هو الخائن وليس من يتهمهم بالخيانة لأنه سيجعل السياسة التي هي أعسر عمل إنساني على الإطلاق عبثا ومغامرة فتتوالد الأحزاب كالفطر ثم ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني التي جلها توابع لمموليهم ومن ثم فأغلبهم جواسيس على أوطانهم. فالحذر واجب دون تخوين.
    وأخيرا فما كنت لأتكلم بهذه الصراحة لولا علتين:
  5. أولا فما سيتمخض على ما يجري في الجزائر مصيري لنا جميعا ومثله ما يجري في بقية أقطار الإقليم من الماء إلى الماء. وذلك على الأقل في استراتيجية من يستهدفنا كأمة يعد لها سايكس بيكو ثانية تشمل المشرق والمغرب.
  6. وما أتوقعه من استراتيجية إسرائيل وفرنسا وحتى إيران وروسيا اعتبره يضع كل جزائري وكل تونسي على الأقل أما رهان دولي وليس جزائري فحسب. كلهم يريدون بنا شرا فالحذر الحذر.
    شرعت البارحة في الكلام على طبيعة العلاقة بين الجيوش والشعوب وخاصة في بلادنا. وهي في الحقيقة علاقة غير طبيعية لأن الجيوش صارت ممثلة لحزب وليست ممثلة لإرادة دولة. والحزب الذي تمثله سرعان ما يصبح خاضعا لمافية داخلية تابعة لمافية خارجية. والحقيقة الأعمق هي أن بلادنا ليس فيها دولة بل هي ما تزال محميات لها ظاهر الدولة بسبب عدم وجود سلطة شرعية بحق.

فالجيش في الدول أداة للحماية الخارجية أساسا. ويناظرها الأمن للحماية الداخلية. وهما أداتا تنفيذ القانون الداخلي (الأمن) والخارجي (الجيش). وكلاهما يأتمر بأداتين أخريين هما القضاء للأمن الداخلي والدبلوماسية للدفاع الخارجي. لكن ذلك هو الغاية عند السلط الشرعية أعني سلطتي التشريع والتنفيذ والسلطة الأصلية التي هي الشعب المتابع والمراقب والمحاسب بمقتضى نظامه الدستوري وقيمه.
وعلامة هذه المعاني هي اتفاق القوى السياسية التي تمثل إرادة الشعب-وهي صنفان حاكمة ومعارضة والأولى تحكم بالفعل والثاني بالقوة بمعنى أنها تراقبها وتستعد لتكون بديلا منها إن هي فشلت في مهمتي الدولة أي الحماية والرعاية- اتفاقها على حياد هذه الأجهزة الخمسة. وهي على النحو التالي:
الحماية الداخلية:
• القضاء
• والأمن داخليا مع استعلاماتها وإعلامها حتى تكون عملا على علم بما يجري في الداخل.
الحماية الخارجية:
• والدبلوماسية
• والدفاع خارجيا مع استعلاماتها واعلامها حتى تكون عملا على علم بما يجري ضدها في الخارج مع الاختراق الممكن.
• وإدارة الخدمات العامة التي هي من وظائف الدولة خدمة للمواطن وللدولة من أجل حقيق وظائفها الخمسة المذكورة.
وحياد هذه الاجهزة يجعلها مع الإدارة الخدمية شبه أعضاء كيان الدولة وبها تعمل كما يعمل الإنسان بأعضائه. فتكون في خدمة الجميع كما تكون أعضاء البدن في خدمة صاحبه. فالدولة هي كيان الجماعة من حيث هي جماعة وأدواتها هي أدوات الجماعة وليست أدوات حزب حاكم أو معارض. وأعلم أن ذلك هو المثال الأعلى وأنه يعسر تحقيق هذا الحياة للوظائف الخمس التي ذكرتها-القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع ومعهما الاستعلامات والإعلام والإدارة الخدمية-لكنها غاية منشودة.
والسؤال هو:
• كيف فقدنا هذه المبادئ العامة التي من أجلها تنشأ الدول والمؤسسات والقوانين؟
• وكيف يمكن لنا أن ندعي أننا مسلمون وبشر ونلغي أهم المبادئ التي وضعها القرآن وحاول الجيل الأول من المسلمين تطبيقها حرفيا ثم بالتدريج صارت كلها في خبر كان؟
ذلك هو السر في ما يجري في الربيع ويعتبر أهم إنجاز لشعوبنا ما يجعله ثورة حقيقية وليست مؤامرة عبرية كما تدعي الثورة المضادة التي هي المؤامرة العبرية بحق. فما يجري فيه على مرارته وكلفة مخاضه دليل على أن شعوبنا بدأت تسترد قيمها الأساسية لأنها لا تريد شيئا آخر غير تطبيق هذه المبادئ: أن تصبح هذه الأدوات أدوات الدولة وليس أدوات حزب مهيمن إما بقوته الذاتية أو بسند خارجي أو بهما معا بحيث يصبح الجيش مليشيا وليس جيشا ممثلا لإرادة شعب.
وعندما تصبح أدوات شوكة الدولة أدوات شوكة حزب (أو قبيلة) فهي تتحول إلى مافيا ويصبح قانون التداول فيها قانونا بايولوجيا وليس سياسيا بمعنى أن التداول يكون إما بالموت الطبيعي للمستبد أو بالاغتيال والانقلاب والكل عديم الشرعية. وهذا هو منطق العصبيات المفضية للهرج بلغة ابن خلدون. وحينئذ يصبح الشارع لتأييد المافيات وليس للتعبير عن إرادة الشعب.
وهذه المسألة ليست خاصة بنا فهي عامة. فذلك هو عينه ما حصل في انتخاب ترومب بفضل التدخل الروسي الذي لا شك فيه هو من هذا الجنس بمعنى أن ترومب لم يكن مرشحا ينتظر الحصول على شرعية حقيقية من الشعب الأمريكي بل كان مرشحا مافية تنتظر الوصول إلى الحكم ومكافأة من ساعدها على حساب مصلحة الشعب.
وهذا ثابت في نجاح انقلاب السيسي وقبل ذلك في نجاح كل الانقلابات العسكرية والقبلية العربية دون استثناء بما في ذلك الانقلاب على بومدين لصلاح ما حاول تحقيقه للشعب الجزائري رغم أنه هو بدوره جاء بانقلاب. ومن ثم فالامتحان هو: هل انقلاب الجيش على بوتفليقة هو لتحقيق إرادة الشعب أم لتوظيفها؟
وأنا أفهم جيدا توجس الشعب الجزائري والشباب منه خاصة. ولست ضد هذا التوجس بل ضد المطالبة بالسلب قبل الإيجاب. وأعني بالسلب “قع” وأعني بالإيجاب “البديل” منها. فمن يريد أن يبني منزلا مثلا ناهيك عمن يريد أن يعيد بناء دولة لا بد له من تهديم المبدل منه وهذا أمر لا شك فيه وهو السلب. لكن قبل ذلك لا بد أن يعد خطة البيت وكلفتها وموادها. ولا أطلب شيئا آخر. فنحن أمام معادلة عسيرة الحل:

  1. شارع لا يثق في نخبة الحاكمين.
  2. شارع لا يثق في نخبة المعارضين.
  3. جيش ليس له شرعية الثقة الشعبية.
  4. لكن وجوده ضروري لحماية الجزائر على الأقل من الأعداء الظاهرين.
  5. جيش لا ندري لسلطة أي دولة وأي شعب هو تابع بعد ن صار هو الدولة وليس أداتها.
    وهذه المعادلة ليست خاصة بالجزائر بل هي عامة في كل أقطار اقليمنا. وقد أفهم أن يكون الأمر كذلك في البداية لأن الجيش كان هو أداة شعب يقاوم الاحتلال فلم يكن الجيش بديلا من الدولة لأن الدولة لم تكن موجودة بل كانت دولة الاستعمار هي التي تدير البلاد. لكن ما حدث هو أن هذا الجيش بعد الاستقلال بقي هو الدولة. ولما صار هو الدولة صار بصورة أدق دولة الحزب الذي تزعم حركة التحرير وأصبح البقية وكأنهم رعايا ذلك الحزب وخاصة منذ أن استبدت به مافية فاسدة ولم يعدد ممثلا لإرادة الشعب المقاوم. وظل الأمر كذلك حتى فسد وصار مستبدا بيد مافية سيطرت عليه.
    وتلك حال جيوش الإقليم كلها رغم أن جيش الجزائر كان هو المقاوم بخلاف جيوش العرب الأخرى التي لم تقاوم الاستعمار بل كونتها أنظمة نصبها الاستعمار. فصارت هذه الجيوش لا تحكم نفسها بل تحكمها المافية الـخفية التي نصبها الاستعمار فنصبته ليحميها من الشعب وليس من الأعداء. فالمافيات الحاكمة هي التي توظفها وتوظف ظرفيات الشعب لكي تستبد بأمره. وإذا أخذنا مثال الجيش المصري فقد أصبح أكبر دليل على ما أقول وخاصة منذ أن اخترقته المخابرات الإسرائيلية والأمريكية فصار يأتمر بأوامر أفسد من فيه ضد مصلحة شعبه. وبعبارة وجيزة: فالعلاج المعقول اليوم في الجزائر والسودان وحتى في تونس هو أن يكون لعودة الشعب للفعل الموجب تحقيق أمرين:
  6. الاعتراف المتبادل بين كل القوى السياسية دون تخويل أو اقصاء حتى يكون الجميع متساويين في التعبير عن رؤيتهم للمصلحة العامة فلا يدعي أحد أنه الممثل الوحيد للشعب بل التمثيل الشرعي هو ما يختاره الشعب بمقتضى التداول السلمي على الحكم بين القوى السياسية التي يقبل بها الشعب.
  7. أن يفرضوا حياد أدوات الدولة الخمس: القضاء والأمن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا بأدوات عملهما أي الاستخبارات والأعلام ومع هذه الاربعة الإدارة الخدماتية فجمع هذه المؤسسات أدوات الدولة ذات الشرعية ولا ينبغي أن تكون أدوات حزب أو قبيلة فضلا عن أن تصبح هي الدولة.
    وأريد أن اختم بثلاثة أمثلة يفهمها الجزائريون أكثر من غيرهم من أهل المغرب الكبير لأنهم كانوا طرفا في بعضها ولأنها فرنسية وتتعلق بقضيتنا. فالجنرال دو جول نجى فرنسا ثلاث مرات وبالجيش دائما من حيث هو أداة الشرعية وليس ممثلها. وهي أمثلة يفهمها الأجيال الثلاثة المشاركة حاليا في الحراك:
  8. في الحرب العالمية الثانية.
  9. وفي انقلاب العسكر في الجزائر.
  10. وفي ماي 68.

ففي الحرب العالمية الثانية استعمل الجنرال الجيش الفرنسي في المستعمرات ضد الجيش الفرنسي الذي استسلم لهتلر.
وفي انقلاب الجيش الفرنسي في الجزائر بعد 58 استعمل الجيش الفرنسي في فرنسا.
وفي ماي 68 استعمل الجيش الفرنسي في ألمانيا سندا للثبات أمام اهتزاز الشارع ضد سياسته.
ولكن في كل هذه الحالات كان سر النجاح اجتماع أمرين:
شعب يؤمن بكونه هو صاحب الشرعية.
يعطيها لقائد لا يشك في صدقه وأمانته.
فهل يعقل أن تكون الجزائر قد خلت من قائد له هذه الصفات؟ وما يسعدني على الأقل هو أن العامل الأول موجود وهو أن الشعب تبين حقا أنه يؤمن بأنه هو صاحب الشرعية. وتلك هي دلالة الثورة التي تسعى لاسترداد هذه الشرعية في الاقليم كله. لكن لا بد من أن يكون من بينه من يكون قادرا على قيادة هذه الثورة بالصورة التي تجعل الجزائر حاصلة على شرط النجاح: اجتماع الشرعية والشوكة في الدولة وليس في الأحزاب حتى تتحرر من المافيات الداخلية والخارجية.
إذا كنت قد حذرت من شارع بدون قيادة فلا يعني ذلك أني أرفض دور الشارع بل هو بشارة على أن الشعب بدأ يسترد سلطانه الذي هو أصل كل سلطان دونه. لكن السلطان بحاجة لعقل واستراتيجية ولا يمكن أن يبقى قوة فاقدة لمجراها نحو مرساها. فقوة الشعب من دون قيادة تشبه سيل الماء في حالة الطوفان أو لهيب النار في حالة الحرائق وإذا لم يؤطرا فإنهما يصبحان هدامين.
وذلك هو دور العقل السياسي والاستراتيجية اللذين يحتاجان لقيادات من جنس ما وصفت في ما قام به الجنرال دو جول لصالح شعبه في المرات الثلاث التي حصلت. وهي أمثلة يعلمها كل الأجيال المشاركة حاليا في الحراك الجزائري وقد يكون السودانيون يعلمونها. وكان يمكن أن أضرب أمثلة من تاريخنا لكن للفائدة عدلت عن ذلك لتجنب ما قد يغفل عنه من لم يطبق المبادئ العامة على تاريخنا فيظن أن ما حدث في الصدر كان معجزات ولم يكن عملا على علم في شعب كان هو صاحب السيادة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي