لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهعلاقة الأمة بالدولة
وصلنا الآن إلى الفصل الأخير من علاقة الامة بالدولة وفيه ندرس “ما بعد المعرفة أو معنى علاقة مستوييها الأول والثاني في صلة بالعلاقة المباشرة بين قطبي المعادلة والوجودية أي بين الله والإنسان” كما درسنا في الفصل الرابع ما بعد الذوق أو علاقة مستوييه الأول والثاني بنفس العلاقة.
مرة أخرى أذكر بمعنى العلاقة المباشرة بين قطبي المعادلة الوجودية. فهذه المعادلة تتألف من قطبين هما الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ والتواصل بين القطبين يكون إما بتوسط الطبيعة والتاريخ أو مباشرة دون وساطتهما. والتواصل بتوسطهما ذوقية ومعرفية ولهما ما بعد هو العلاقة المباشرة.
والحاجة إلى نظرية المعادلة الوجودية التي لا يمكن أن ينقصها أحد القطبين من دون نقصانها من الثاني للتضايف بينهما هي التي تساعد على تحديد معنى ما بعد الذوق وما بعد المعرفة أو الوصول إلى ما وراء التواصل بتوسط الطبيعة أو العلاقة العمودية والتاريخ أو العلاقة الأفقية.
فالعلاقة العمودية هي علاقة الإنسان بالطبيعة فيه (بدنه) وخارجه (الأحياز) وهما شرطا قيامه وبقائه. والعلاقة الأفقية هي علاقة الإنسان بالإنسان تواصلا حول العلاقة العمودية وحول ذاتها. وكلتا العلاقتين بحاجة إلى الذوق محدد الغايات والمعرفة محددة الادوات في وجود الإنسان.
والأمة هي اجتماع البشر لعلاج العلاقتين العمودية والأفقية بمرجعية مشتركة مدارها المعادلة الوجودية وعيا بذاتها يكون تعينه الفردي إيمانا بها وعملا صالحا وتعينه الجمعي التواصي بالحق (في تواصلهم) والتواصي بالصبر (في تعاملهم بعضهم مع البعض) والدولة هي النظام القيمي الضامن لهذا الوعي.
ويمكن لكيان الأمة وكيان الدولة أن يفترقا بعد تكونهما المتلازم: ومعنى ذلك أن نشأة الأمم ودولها متلازمة تلازم نمو البدن والوعي بالذات من الخلية الجمعية الادنى أو الأسرة إلى الدولة. فالفرد أمة والأسرة أمة إلخ. من الوسائط الجمعية إلى الدولة الامة أعني وحدة أحياز الجماعة ماديا وصوريا.
لكن الأمة بعد اكتمال تشكلها يمكن أن يبدأ عقدها في الانفراط كالغزل إذ يتحلل الوعي بالذات فتتشضى الوحدة التي يمثلها تعينه النظامي أو الدولة الحامية والراعية للأمة ووحدتها المتمثلة في وحدة أحيازها الخمسة:
مكانها
وزمانها
وفعل 1في 2
و2في1
ووحدة المرجعية أو الهوية الواعية بذاتها
وفعل 1 في 2 هو ديمومة التواصل الأفقي لمدة في بوحدة المكان وثمرته التراث وفعل 2 في 1 هو التواصل العمودي لمدة بوحدة الزمان وثمرته الثروة. فيكون التراث والثروة حيزين مركبين من ديمومة العلاقتين العمودية (بين الإنسان والطبيعة) والأفقية (بين الإنسان والإنسان) في نفس المكان والزمان.
وذلك يعني أن المكان يصبح جغرافيا حضارية والزمان يصبح تاريخا حضاريا يوحد بينهما التراث والثروة والمرجعية التي هي وعي الجماعة بالمعادلة الوجودية الذي لا يتكون من دون النظام الموحد الذي هو الدولة لكنه يمكن أن يبقى من دونها بعد تكونه فتكون أمة بصدد التحلل. وقد تستأنف وحدتها.
والهدف من هذه المحاولات هو فهم تكون الامم وتحللها وشروط الاستئناف استنادا إلى تشخيص دقيق لعلل التحلل وشروط علاجه بعد معرفة أدوائها. فكل فتاتة تحصل من تحلل الامة تبدأ جغرافيا ثم تحاول تحقيق الانفصال عن التاريخ المشترك بين الفتات بسبب نزاعات على الثروة والتراث فتفقد وحدة المرجعية.
والأمة الإسلامية وصل تفتتها إلى هذه المرحلة: لم يبق صامدا فيها إلى وحدة المرجعية التي بدأ الأعداء وعملاؤهم يحاربونها لعلمهم أنها خط الدفاع الأخير الذي يمكن بصموده أن يستعيد وحدة الأمة فتستأنف دورها. وهي لا يمكن أن تستأنف دورها من دون استعادة السعي إلى وحدتها.
إذ هي به تكون وكأنها تستأنف تكوينيتها من جديد: وهذه التكوينية من جديدة بخلاف التكوينية الأولى لا تنطلق من الأدنى إلى الأعلى بل من الأعلى إلى الادنى: أي إن المرجعية سابقة عن فروعها التي نريد استعادة لحمتها الحيزية: جغرافيتها وتاريخها وتراثها وثروتها التي تطابق مرجعيتها.
وهذه الحصيلة النظرية التي نحاول شرحها هي عينها حصيلة النظرية الاستراتيجية التي وضعها كلاوسفيتز مع تعليل أعمق: ذلك أن النصر في الحروب يتحقق عندما ييأس المغلوب فيتوقف عن المقاومة أو يستسلم بعد انهزام جيشه وفقدان معين إعادة تكوينه باحتلال العدو لمعين المقاومة المادي.
لكننا في تعليق سابق بينا أن مثلث كلاوسفيتز لا يكفي لفهم النصر والهزيمة. ذلك أن الجيش ليس قوة مادية بثروته وعتاده فحسب بل هو كذلك قوة روحية بتراثه وعديده والأصل في القوة المادية والروحية والعتاد والعديد هو ما تستمده الجماعة من مرجعيتها: المسلم عزيز ولا يستسلم أبدا.
يمكن للجيش أن يخسر عتاده لكن إيمانه يحول دون وفقدان معنوياته. ويمكن للعدو أن يحتل الأرض لكنه لن يستطيع احتلال الروح ولهذه العلة فالعوامل خمسة وليست ثلاثة: قوة الدفاع مضاعفة ومعين المقاومة مضاعفة وأصلها جميعا الحصانة الروحية التي تسند المناعة المادية: المرجعية.
فالدفاع في الإسلام يسمى جهاد الدفع وهو فرض عين ومعنى ذلك أن قوة الدفاع ليست مجرد جيش محترف بل هي الأمة كلها ذكورها وإناثها. وهو ليس ارض المعركة بل كل جغرافية الأمة وليس جغرافيتها فحسب بل كل تاريخها الذي يسكن في الأذهان ويقوم في الأعيان فيحرك حي الوجدان.
فيكون حضور الجماعة في الأذهان شبه بديل روحي من الدولة في الأعيان إلى حين عودتها إن كانت قد تفككت أو إلى حين تكوينها إن كانت بصدده مثل الجماعة التي هي صورتها. لذلك فعلينا أن نحدد الوصل بين الجماعة من حيث هي كيان الدولة العضوي والدولة من حيث وعي هذا الكيان بذاته ناظما لوجودها.
وشروط الوجود هي مستويات الذوق ومستويات المعرفة التي تمثل نسيج التواصل غير المباشر بتوسط الأحياز مكانا وزمانا أو جغرافيا (الطبيعة) وتاريخا (صيرورة تكون الامة والدولة): والذوق (الغذاء والجنس) والمعرفة (الإدراك الحسي والإدراك العقلي) وبمستوييهما العضوي والرمزي هما هذا النسيج.
ولنأخذ مثال الذوق في مستواه العضوي: فهو غذاء وجنس. والأول علاقة عمودية بين الإنسان والطبيعة والثاني علاقة أفقية بين الإنسان والإنسان. وكلاهما طبيعي مضمونا وثقافي شكلا. كل البشر يغتذون ويتلامسون لكن الاغتذاء والتلامس مختلف ثقافيا حتى في نفس الحضارة بين الاجيال المتوالية.
وكذلك الشأن في مستواه الرمزي: فالغذاء العضوي له ترجمة رمزية هي سر تطور اساسه العضوي والجنس العضوي له ترجمة رمزية هي سر تطور أساسه العضوي. وكلاهما إبداع جمالي يترجم عن الوعي بالعضوي ذوقيا ويتلازم مع إبداع معرفي عقليا لفهم العلاقة بين العضوي والجمالي.
وما قلناه عن الغذاء يقال مثله عن الجنس. فالعضوي والجمالي فيه كوني مضمونا وثقافي شكلا. كل الحضارات تدرك من الجنس بعديه العضوي والجمالي لكن تطور العلاقة بينهما ثقافي وهو متغير حتى في نفس الثقافة بتغير الاجيال رغم أن ذلك من التاريخ المديد لا القصير لبطء تغير العادات.
وكما بينا مستويات الذوق محدد الغايات فلنشرع في بيان مستويات المعرفة محددة للأدوات. والغايات هنا نوعان كما هناك: غايات العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة ذوقيا وغايات العلاقة العمودية بين الإنسان والإنسان أداتيا. وفي الكلام على علاقات عمودية بين الإنسان والإنسان غرابة.
ومن دون فهم هذه الظاهرة يمتنع أن نفهم الانتقال التبادل بين الإنسان والطبيعة يتحول إلى تبادل بين البشر بفضل الاقتصاد: سد الحاجات الغذائية والجنسية علاقة مع المحيط الطبيعي والعضوي من الذات. وهو حل يجمع بين العلاقتين العمودية والأفقية بفضل دور فعل الرمز(الكلمة) ورمز الفعل “العملة”.
فينتج من ثم أن للأمة لاحمين عضويين الغذاء والجنس وهما في مستواهما الاول وصلتا عضوي الإنسان بالمحيط الطبيعي في حيزه المكاني. لكنهما في مستواهما الرمزي هما مضمون الترجمة الجمالية بالكلمة والمالية بالعملة فيصبحا موضوع تواصل وتبادل ينقلان من العلاقة العمودية إلى العلاقة الافقية.
فيتغير مضمون الطبيعي ليصبح ذا شكل ثقافي ويتغير مضمون الثقافي ليصبح ذا شكل طبيعي لأن التلازم بين الذوقي في الغذاء والجنس غائيا والمعرفي للذوقي والجنسي أداتيا ينحو إلى ما يلائم المحافظة على الطبيعي فيهما حتى يؤديا دورهما فلا يبعدهما الثقافي عنه ليعطلهما.
وبهذا نستطيع أن نحدد مستويات المعرفي أداتيا بالتناظر مع مستويات الذوقي غائيا. فملثما أن الذوقي الغائي له مستويان كلاهما مضاعف وأصل لفروع المستويين الأربعة فإن للمعرفي الأداتي مستويين كلاهما مضاعف وأصل لفروع المستويين الاربعة.
مستويا الذوق المضاعفان وأصلهما هي: الأكل والجنس الفعليين الأكل والجنس الرمزيان أو فن المائدة وفن السرير ثم الأصل هو ما وراء الذوق أو طبيعة العلاقة بين الطبيعة والثقافة أي صيرورة العلاقة العمودية أفقية (الاقتصاد) وصيرورة العلاقة الأفقية عمودية (الثقافة).
تلك هي الغايات في كل جماعة: خمس غايات: الغذاء والجنس الفعليان وفن المائدة وفن السرير الرمزيان ثم علاقة الطبيعة بالثقافة أو التبادل والتواصل بين المحيط والإنسان وبين الإنسان والإنسان فردا وجماعة بفضل الاقتصاد (مضمون الحضارة) والثقافة (شكل الحضارة).
وهذه هي الغايات التي يدور حولها كلام القرآن على مضمون الحياة في الدنيا والآخرة. أما كلام القرآن على شكل الحياة وأدوات تحقيق المضمون فهو أدواتها العلمية (النظر وفلسفة الطبيعة) والعملية (العمل وفلسفة التاريخ) وتطبيقاتها السياسية تربية وحكما.
وفلسفة الطبيعة مضاعفة: العلم النظري ببعدي موضوعه الأحياز الخارجية (الكسمولوجيا) والأحياز الداخلية (الانثروبولوجيا) والعلم العملي ببعدي موضوعه: السياسة والأخلاق. وأصل هذه العلوم الأدوات كلها هو ما بعد الأخلاق أو ما بعد العلاقة بين الطبيعة والثقافة سواء بصيغته الدينية أو الفلسفية.