لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علاقة الأمة بالدولة
وضعت نظرية العلاقة بين الذوق والمعرفة بمستوييهما كليهما بوصفهما فعلين في علاقة مباشرة بالتبادل والتواصل في العلاقتين العمودية والافقية.
والعلاقة العمودية هي بين البشر والطبيعة والعلاقة الأفقية هي بين البشر والتاريخ وكلتاهما فيها تبادل وتواصل مباشرين بكيانهما أو بتوسط رموزهما.
كما وضعت نظرية الرمزين: رمز التبادل وهو العملة وسميته رمز الفعل ورمز التواصل هو الكلمة وسميته فعل الرمز. وما أدرسه الآن هو علاقة النظريتين.
فبين أن رمز الفعل هو رمز التبادل وأن فعل الرمز هو رمز التواصل. سأعتبر كل تبادل متعلقا بالقيم بنوعيها الذوقي والمعرفي في مستوييهما الأول والثاني.
وكل تواصل متعلق بالدلالات بنوعيها الذوقي والمعرفي في مستوييهما. والقصد بمستويي التبادل والتواصل ما يناسب مستويي الذوق والمعرفة. ولأوضح.
والتوضيح في مستوى الذوق أيسر: فالقيم الاقتصادية نوعان استعمالي وتبادلي. والاستعمالي يناسب مستوى الذوق الاول والتبادلي مستواه الثاني.
أما في مستوى المعرفة فعسير: فالدلالة مثل القيمة ذات مستويين. استعمالي (علاقة مباشرة بين اسم ومسمى) وتبادلي (علاقة غير مباشرة مفهوم وما صدق).
مستوى التبادل الاول للقيم والتواصل الأول للدلالات متناظران ومستوى التبادل الثاني للقيم والتواصل الثاني للدلالات متناظران. فما هذا التناظر؟
في المستوى الأول من تبادل القيم الاستعمالية تكون العلاقة مباشرة بالأشياء كسد للحاجة: وهذه القيمة تتحدد كعلاقة مباشرة بين الحي وشروط قيامه.
وفي المستوى الأول من التواصل الاستعمالي تكون العلاقة مباشرة بدلالة عينية كإشارة لمسماها بلمسها: وهي دلالة معرفية مشروطة في التبادل المباشر.
وهذا يعني أن التبادل المباشر له مستويان: بين الحي ومحيطه ثم بين الحي والحي وقد أصبحا مالكين لما ينتج عن التبادل بين الحي ومحيطه بالتبادل.
وإذن فالتبادل بين الحي والحي يشترط أن تكون الحاجة واحدة وملكية ما يسدها موزعة بين الأحياء فيؤدي ذلك إلى التعاون والتبادل بين الأحياء.
وإذن فشرط التبادل بين البشر التعاون على تحصيل ما يسد الحاجات في العلاقة بينهم وبين الطبيعة بتوزيع العمل بينهم والتعاوض العيني بالمقايضة.
وغاية تبادل القيم المباشر بين البشر هذا التعاوض العيني أو المقايضة ومثله التواصل المباشر. فحضور ما يسد الحاجات الواحدة للبشر يتحد التواصل فيه.
ووحدة التواصل فيه هي وحدة التسمية للحاجة ولما يسدها في تلك الجماعة: فيكون التبادلان بين البشر والطبيعة وبينهم فيما بينهم أصلا لتواصلين.
أو بصورة أدق لمعرفتين: واحدة هي التواصل بين البشر والطبيعة فتكون المعرفة هي البحث عن المسمى باسمه أو العكس أي من الدال إلى المدلول أو العكس.
وكما يتوقف التبادل العيني عند غاية هي عدم كفاية المقايضة فيه فإن التواصل العيني يتوقف عند غاية هي عدم كفاية بين الاسم والمسمى العينيين.
عندئذ يبدأ المستوى الثاني من التبادل والتواصل: يتم ابداع الواسطة الرمزية بين أعيان الحاجات وأعيان ما يسدها وذلك هو رمز الفعل أو العملة.
وهو ما يعني أن التبادل بين البشر حول التبادل بينهم وبين الطبيعة بمقتضى الحاجات وسدها لم يبق في مستوى الأعيان والقيمة الاستعمالية.
ويكون مشفوعا بالتواصل بينهم حول التبادل بينهم وبين الطبيعية بمقتضى علاقاتها برموزها لم يبق في مستوى الأعيان والدلالة الاستعمالية.
فتجاوز القيمة الاستعمالية والمقايضة العينية أنتج العلمة المجردة وتجاوز الدلالة الاستعمالية والعلاقة العينية أنتج الكلمة المجردة: نقلة نوعية.
وهذه النقلة النوعية أنتجت القيمة التبادلية فيما يستجيب للذوق وهو مستواه الثاني بعد القيمة الاستعمالية فيما يستجيب لمستواه الاول.
وهي نقلة أنتجت كذلك ما يناظر مستوى الذوق الثاني في المعرفة: انتقلت الدلالة العينية للتواصل العملي إلى الدلالة المجردة للتواصل النظري.
من المقايضة بين أعيان ما يسد الحاجة إلى وساطة العملة التي بها تقيم كل حاجة وساد لها انتقلت الاقتصاد مستوى الذوق الاول إلى مستواه الثاني.
فصارت القيم الاقتصادية التي تسد حاجات الذوق نوعين: استعمالية وتبادلية. ومثلها الدلالات المعرفية التي تسد حاجات العلم نوعين: عملية ونظرية.
وهكذا فقد وصلت بين نظرية علاقة الذوق بالمعرفة في مستوييهما الأول أي ما يصل الإنسان بالطبيعة تبادليا وما يصله بغيره تواصليا حول التبادل
بينها وبين نظرية الرمزين الاسميين: رمز التبادل أو العملة ورمز التواصل أو الكلمة في مستوييهما أي التعاوض والتواصل العينيين والمجردين.
فنحصل على نوعين من القيم المادية أو الاقتصادية عينية ومجردة ونوعين من الدلالات الرمزية أو المعرفية عينية ومجردة: مستويا الذوق والمعرفة.
والتناظر تام بين مستويي الذوق ومستويي المعرفة: فمستوى الذوق والمعرفة الأول يتعلق بالعيني من شروط قيامه كحي حاجته غذائية وجنسية شرطي حياته.
ومستوى الذوق والمعرفة الثاني يتعلق بالمجرد من شروط قيامه حكي حاجته تتجاوز الحاجة الغذائية والجنسية المباشرة إلى رموزهما المتجاوزين للحاجة.
وذلك هو مصدر الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية في الاقتصاد ومصدر الفرق بين الدلالة العملية والدلالة النظرية في المعرفة.
فينتقل التبادل من أعيان الحاجات وما يسدها إلى قيمهما الاقتصادية. وينتقل التواصل من أعيان الدوال وما تدل عليه إلى قيمهما المعرفية.
وحصيلة النقلة الأولى هي مفهوم العملة. وحصيلة النقلة الثانية هي الكلمة. والعملة مفهومة. لكن الكلمة ليست بينة الدلالة: فقد يفهم منها اللفظة.
اللفظة علامة تشير إلى الكلمة: الكلمة هي المفهوم الذي لا يشير إلى شيء عيني بل إلى ما صدق تنضوي تحته الاعيان المتصفة بمقومات يحددها المفهوم.
بعبارة أخرى: الكلمة في الدلالات المعرفية والعملة في القيم الاقتصادية هما أرقى عناصر التجريد في التواصل والتبادل بنوعيهما أفقيا وعموديا.
وما يذهل متدبر القرآن الكريم يجد مضمونه مؤلفا من الذوق والمعرفة بمستوييهما ويؤسس عليهما علاقة الأنسان بالعالم وعلى رمزيهما: الكلمة والعملة.
لكنه يضيف مستويين آخرين واصل للمستويات الاربعة. فالمستويان اللذان درسناهما يتعلقان بالوجود الدنيوي. لكن القرآن يتجاوزهما إلى مثالين اعليين.
والمثالان هما معنى علاقة الذوق بما بعده ومعنى علاقة المعرفة بما بعدها: فالمعنى الاول هو مفهوم التسخير من الطبيعة إلى التاريخ والثاني عكسه.
المعنى الاول كيف تعطي الطبيعة للإنسان شروط حياته وبقائه: الذوق؟
والمعنى الثاني كيف يمكن للإنسان أن يأخذ من الطبيعة ما يقيمه: العلم؟
أما الأصل فهو علاقة الله بالإنسان: فجواب السؤالين هذين هو ما يدين به الإنسان إلى ربه تلقيا (الذوق) وبثا (العلم): فتكون المستويات خمسة.
كنت دائما متحيرا من لغة القرآن الاقتصادية والمعرفية. لماذا يستعمل القرآن استعارات وكنايات اقتصادية ومعرفية للكلام على علاقة الإنسان به؟
الآن عرفت الجواب: لا يستعمل لغة اقتصادية ومعرفية بل ما بعد لغة اقتصادية وما بعد لغة معرفية تذكر الإنسان بشروط الأهلية للاستخلاف في الدنيا.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها