لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله علاقة الأمة بالدولة
فلنتكلم على ما بعد المستوى الثاني من الذوق ومن المعرفة وأصل المستويات الأربعة أو العلاقة المباشرة بين قطبي المعادلة الوجودية أساس درس للقرآن.
فما بعد المستوى الثاني من الذوق (المستوى الثالث) ومن المعرفة (المستوى الرابع) هما معنى الذوق ومعنى المعرفة يؤصلان للتبادل والتواصل بنوعيهما.
فـ”المابعد” الأول يجيب عن سؤال كيف: تكون القيم التبادلية مختلفة عن القيم الاستعمالية في الاقتصاد؟
ما الذي يجعل ما يسد الحاجة الرمزية أهم؟
و”المابعد” الثاني يجيب عن سؤال: كيف تكون الدلالات النظرية مختلفة عن الدلالات العملية في المعرفة؟
وما الذي يجعل ما يسد الحاجة النظرية أهم؟
كلنا يعلم أن ما بعد الرياضيات صار علما لما استعمل الرياضيات نفسها كما بعد لغة رياضية موضوعها الرياضيات. كلام القرآن كله ما بعدي بهذا المعنى.
والقصد أنه يستعمل لغة الاقتصاد ولغة المعرفة وخاصة رمزيها الاسميين العملة والكلمة كلغة ما بعدية لتحديد قوانينهما الأكسيولوجية والابستمولوجية.
بعبارة وجيزة: المستويان اللذان أضافهما القرآن نظرية القيم ونظرية العلوم الحائلتين دون تحريفهما لئلا يكونا مخلدين في الارض وحائلين دون الاستخلاف.
فبفضل هذين المابعدين يمكن أن يشرئب الإنسان ما يشده نسبية صفاته إلى إطلاق صفات الله أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود: أي إلى حقيقته.
فالوعي بانشداد النسبي الإنساني إلى المطلق الإلهي هو معنى الوعي بالاستخلاف وهو حقيقة الإنسان مؤمنا كان أو نكص إلى المستوى الثاني فألحد.
إلى حد المستوى الثاني رغم عسره قابل للفهم إذا أقبل القارئ على متابعة الاستدلال بصبر ومواظبة. لكن ما يتلو يحتاج لبصيرة تتجاوز المنطق العادي.
رددت مرة على مقال كتبه فيلسوف الاقتصاد الماركسي العربي حاول فيه تفسير التاريخ ماضيه ومستقبله بنظرية القيمتين الاستعمالية والتبادلية.
وكان ردي مبنيا على حدوس وليس على نظرية حول نظرية القيم المتجاوزة لحصرها في القيمتين بمعناها الاقتصادي. لم تنضج حينها محاولاتي التنظيرية.
اعتمد ردي على التمييز بين القيمتين الاقتصاديتين وعلة كونهما بهذه الصفة؟
ما الذي يجعل الاقتصاد بعكس الطبيعة يقدم التبادلي على الاستعمالي؟
لم أكن قد وضعت نظرية العلاقة بين الذوق والمعرفة وإلا لسألت نفس السؤال عن الدلالة مقارنة بالقيمة: لماذا تقدم الدلالة النظرية على العملية؟
تخلف حضارة أصلا أو نكوصا هو عدم التعرض لهذين السؤالين وعدم الترقي إلى ما يجعلهما مطروحين في الفكر الفلسفي وعيا بهما في القرآن الكريم.
فدلالات القرآن ليست من المستوى الأول ولا من الثاني بل هي من المستوى الثالث والرابع أي دلالات ما عبد الأول والثاني وصلا يشد إلى الأصل.
والأصل هو الانشداد والمتواصل المتبادل بين القطبين: فما وراء الوعي بالطبيعي والوعي بالتاريخي وشروطهما يشد الإنسان إلى معنى التواصل والتبادل.
كيف لي أن أطلب قيمة الطبيعي وحقيقته ودلالة التاريخي وحقيقته من دون ماوراء لهما كليهما وصلتي بهما ذوقا ومعرفة يحدد معناهما والوعي بهما؟
والجواب الذي يبدو بديهيا للتاريخ (الحضارة)الذي نعتبر الإنسان ماوراء له يقاس عليه الجواب الغامض للطبيعة (العالم)التي نعتبر الله ما وراء لها.
والتاريخ جزء من العالم. وما وراء التاريخ متواصل مع ما وراء الطبيعة فتكون العلاقة بين التاريخ والطبيعة هي العلاقة بين الله والإنسان: تواصل.
رددت على فيلسوف الاقتصاد الماركسي بأن ازدواج القيمة في الاقتصاد يحتاج إلى تفسير لتراتب القيم: فسالت عن علة تقديم التبادلي على الاستعمالي.
والعلة هي ضمير التمييز بين مستويي الذوق: الذوق الغذائي دون الذوق الجمالي ولا بد من تعليل هذا التراتب الذي يعد تناقضه مع الحياة بينا نفسه.
ففي الصحراء لما تضمأ تكون قطرة من الماء أفضل مليون مرة من كل ذهب العالم؟
فلماذا يعد الذهب ذا قيمة تبادلية كبرى وهو عديم الفائدة استعماليا؟
ففي الصحراء لما تضمأ تكون قطرة من الماء أفضل مليون مرة من كل ذهب العالم. فلماذا يعد الذهب ذا قيمة تبادلية كبرى وهو عديم الفائدة استعماليا؟
وللحقيقة فإن الغزالي طرح السؤال الذي لم أكن حينا قادرا على وصله بسؤالي هذا لأن النظرية لم تنضح بعد: التفاصل بين العلوم يحتاج لتعليل أولا.
فالعلم الحسي دون العقلي منزلة ويحتاج هذا التفاضل لتفسير. ومحاولة تفسيره تفتح الباب لفرضية الغزالي: إذا كان العقل يفضل الحس فلعل له ما يفضه.
وقياسا عليه إذا كانت قيمة التبادل تفضل قيمة الاستعمال فلا بد للتفاضل من تفسير. وهذا يفتح باب السؤال: أليس لقيمة التبادل قيمة تفضلها بمعناها.
وهذا هو أساس ردي على فيلسوفنا الماركسي في فهم التاريخ بنظرية القيم الاقتصادية: علة التفاضل بين القيم ثم ما يسمو من القيم على التبادل؟
وكان الجواب:
قيم التواصل مقدمة على قيم التبادل ومن ثم ففعل الرمز مقدم على رمز الفعل: لو لم يكن الناس ناطقين لاستحال أن يتعاونوا ويتبادلوا.
هذا أولا أما:
فإن القيم تنقسم إلى نوعين: ما يقبل البيع والشراء مثل القيم الاقتصادية وما لا يقبلها وإلا فكل شيء يصبح اقتصاديا كما يتوهمون.