علاج أزمة النداء من أوكد الواجبات الثورية والوطنية

1-كيف نفهم أزمة النداء؟ ولم اعتبرها خطرا على الثورة وعلى تونس؟ وما الموقف الواجب لتحويل أزمته إلى فرصة لحل أزمة أعمق عمرها قرن تقريبا: أزمة حركة التحرير النابعة من حركة الإصلاح : أي حزب الدستور.
2-ما يجري في النداء ليس إلا من أعراض الأزمة التي مرت بها الحركة الوطنية التي هي حركة تحرير نبعت عن حركة الإصلاح منذ بداية القرن الماضي.
3-وهذا العرض له ما يناظره في حركة الإسلام السياسي إذ إن تفجر الفرع البورقيبي من حركة التحرير يناظره تفجر فرع الثعالبي منها: وجها الأزمة.
4-فمثلما انقسم توجه البورقيبية الانفصالي عن حركة التاريخ الاسلامي إلى معتدل ومتطرف انقسم توجه الثعالبية الاتصالي بحركة التاريخ الإسلامي إلى معتدل ومتطرف.
5-المشكل هو انشطار شطري حركة التحرير الدستورية: فنشأ وسط البورقيبية ويسارها ووسط الثعالبية ويمينها. والأزمة هي بين الوسط والتطرف في الحالتين. والحسم عسير في الحالتين كذلك.
6-فالأزمة في الثعالبية أو حركة التحرير المتصلة مع التاريخ الذاتي للأمة بعضها يبني الإصلاح بمنطق الإصلاح والتجديد وبعضها الآخر يتصوره مجرد إعادة للماضي كما كان في الماضي.
7-والأزمة في البورقيبية أو حركة التحرير المنفصلة عن التاريخ الذاتي للأمة بعضها يدعي الاصلاح الجذري والآخر يعادي مرجعية الأمة الحضارية بإطلاق.
8-والبعضان المتطرفان من فرعي حركة التحرير النابعة عن حركة الإصلاح يمثلان اليوم صدام حضارات داخلي في تونس التي هي عينة من الربيع العربي. والصدام الحضاري الخارجي يؤجج هذا الصراع الداخلي بمساندته للمعادين للهوية ومحاربته المحافظين عليها.
9-والتوسطان من البورقيبية والثعالبية أي الدستوري من البورقيبة والدستوري من الثعالبية يمكن أن يتصالحا فيؤسسا لعلاج سياسي دون صدام حضارات: وحصول هذه المصالحة شرط العودة إلى السلم المدنية بعد ما يقرب من قرن من الحرب الأهلية التي تتوالى عليها الحرارة والبرودة.
10-والحائل دون الحل الذي نحتاج إليه الآن لتجاوز هذه الحرب هو أزمة النداء: فالحركة الإسلامية تمايز فيها الشقان الوسطي والمتطرف في حين أن الحركة العلمانية تعيش مرحلة التمييز حاليا: وهذه هي أزمة النداء.
11-لكن حزب النداء لم يميز بعد بصورة حاسمة بين الدستوري بورقيبيا واليساري الاستئصالي بخلاف النهضة التي ميزت بين الدستوري ثعالبيا والإسلامي الاستئصالي.
12-والتمييز في الحالتين حصل تقريبا بنفس الطريقة أي عندما حكمت النهضة كما حصلت أزمة النداء بين شقيه عندما حكم. لكن النهضة أقدمت على التمييز والنداء لم يزل مترددا.
13-على النداء حسم أزمته الحالية بالفرز بين بورقيبية إصلاحية قابلة للصلح مع ثعالبية إصلاحية لعزل التطرف العلماني كما عزل التطرف الإسلامي.
14-من واجب حركة الإصلاح الإسلامية مساعدة حركة الإصلاح العلمانية في تجاوز أزمتها حتى تتمكن تونس من تحقيق هدف حركة الإصلاح: نهضة الأمة.
15-والعلاج هو: فكما تسعى حركة الإصلاح الإسلامية للتحرر من الانحطاط الذاتي الذي اتصفت به نخبها فعلى حركة الإصلاح العلمانية السعي للتحرر من الانحطاط الاستعماري الذي تتصف به نخبها.
16-تلك هي علل قبولي المشاركة في العمل السياسي والحكومي في بداية الثورة: كنت اعتبر نفسي قادرا على الوصل والتجسير بين فرعي حركة التحرير الثعالبية والبورقيبية.
17-لكني اكتشفت أن حركة النهضة لم تقبل بعد التعامل مع الوضع بمنطق العفو عند المقدرة. فساعد سلوك قياداتها على تكون النداء بشكله الحالـي لكأنهم تصوروا الثورة قد حققت الحسم النهائي واعتقدوا أن حكمهم سيدوم.
18-ذلك أن قيادات النهضة لم يكونوا مدركين أن ما سرع سقوط ابن علي ليس فعل الثورة الحاسم إذ كان بوسع ابن علي أن يقاوم أكثر -كما يحدث في سوريا مثلا-بل هو خطة المافية الحاكمة لإجهاض الثورة والتخلص في آن من منافس بدأ يتحرر من اليسار وربما يفكر في نوع من المصالحة مع الإسلاميين ليثبت حكمه.
19- كان هدف التسريع في سقوط رأس النظام تيسير وأد الثورة وتيسير استرداد المافية الاستئصالية وعلى رأسها قيادات الاتحاد سلطانهم على الدولة بأسرع وقت (في تونس). وقد قدمت محاضرة في ذلك في نادي الجاحظ بعد أقل من شهر من الثورة. ونشر منها تلخيص بتحرر سيدة فاضلة.
20- ونفس الاستراتيجية اتبعتها مافية مصر الحاكمة والعسكر . وإذن فخطة الاستئصاليين في تونس لا تختلف عن الخطة التي سرعت سقوط مبارك لاحقا: والهدف هو منع الثورة من الذهاب إلى غايتها وإغراقها في إكراهات الحكم والتنافس عليه مع ما نتج عنه من تفتت الصف الثوري.
21-لكن تدارك قيادات النهضة موقفهم- رغم تأخره وحصوله من موقع العجز لا من موقع القدرة- هو الذي مثل ظرف ظهور أزمة النداء بين شقي العلمانية بعد وصولهم إلى الحكم وتصورهم أن فرصة سيطرة اليسار الاستئصالي باتت ممكنة.
22-وتغاذي صفي التطرف-الإسلاموي والعلمانوي- يمثل مناخ الصدام المسيطر حاليا. ولا علاقة له بالثورة: فالإسلامي المتطرف يريد إعادة الماضي كما مضى والعلماني المتطرف يريد القطع المطلق مع الماضي الذاتي.
23-وتغاذي التوسطيين الدستوري البورقيبي والدستوري الثعالبي أي الثعالبية الإصلاحية والبورقيبية الإصلاحية يمكن أن يغير مناخ الصدام بعزل متطرفي الأصوليتين الدينية والعلمانية: وعندئذ يمكن تأسيس الجمهورية الثانية.
24-ما أقوله على العينة التونسية يصح على كل أقطار الوطن العربي ودار الإسلام. وهو الجواب عن سؤال: كيف تخرج الإمة من الصدام الحضاري المفتعل والمؤجج من الاستعمار لتؤسس للتنافس السياسي السوي؟
25-فإذا تحققت هذه النقلة بات بوسع أقطار الثورة المتحدة في ما بينها أن تلغي أثر جغرافية الاستعمار وتاريخه الحائلين دون قوتي الأمة المادية والروحية فتؤسس لمواطنتين قطرية وقومية كما أسست أوروبا مواطنتين قومية وقارية.
26-فتكون بذلك قد اسست النواة القاطرة لبقية الأقطار العربية في معركة التنمية المادية والحضارية قطبا جاذبا للتعاون بين الدول الإسلامية للاستئناف.
27-ولولا إيماني بهذه الاستراتيجية لما خصصت الكثير من وقتي على حساب عملي لعلاج هذه القضايا الشائكة التي لن تحل من دون علاج نظري دقيق وخلقي راق.
28-والاستراتيجية التي يتبعها العلمانيون المتطرفون لأسقاط العلمانيين الوسطيين في حزب النداء لا تختلف عن التي يتبعها الإسلاميون المتطرفون لإسقاط الوسطيين في أي حزب إسلامي. هدفان بينان للعلماني المتطرف مناظران لهدفي الإسلامي المتطرف: فهذا يريد السيطرة على الدعوة وأدواتها ليصبح ممثلا للإسلام وذاك يريد السيطرة على الحزب لافتكاك الدولة وجعلها أداة لحربه على هوية الأمة وتحقيق ما يتصوره حداثة وتقدما.
29-والسبسي ليس غافلا عن ذلك ولعله أكثر شيء يخشاه على ما يتصوره انجازا قد يكون ساعده على الوصول إلى الحكم لكنه قد يؤول به إلى نهاية سيئة: من هنا تحريك إبنه لمنع السيطرة على الحزب حتى لا تقع الدولة في يد من سيذهب بتونس مذهب السيسي وبشار وحفتر.
30-ولولا حاجتهم حاليا للاستظلال بالسبسي إلى أن يتحقيق الهدف الأول أي السيطرة على الحزب لأزاحوه من الآن خاصة وقد بدأوا حملة إزاحته بمحاولة بيان العجز الناتج عن السن خاصة. وكون ذلك بدأ صراحة في فرنسا يعني أن لهم مرشحا يريدون له تزكية فرنسية.
31-وبين أن الخبث يجعلهم حاليا يهادنون النهضة للسيطرة على حزب النداء لاستكمال خطتهم مع سيطرتهم على الاتحاد وتحالفهم مع رجال الأعمال هدفهم السيطرة على الدولة.
32-وما تجنبه بورقيبة أمران أولهما استعمال اليسار والاتحاد دون السماح لهما بتجاوز حد معين. والثاني هو رفض تغذية شاهية الجيش والأمن في الحكم لئلا تتغير طبيعة نظام الحكم في الدولة من نظام مدني إلى نظام أمني(ابن علي) وعسكري (رغبة اليسار السيسوي). وبهذا المعنى فإن بورقيبه مهما قيل فيه فهو لم يكن يريد حكما من دون شرعية شعبية.
33-لذلك فرأيي أن واجب حركة النهضة والإسلاميين مساعدة الشق الدستوري في النداء حتى لا يفتك الشق اليساري المتطرف والاستئصالي حزب النداء لخطر ذلك على الثورة وعلى تونس في آن.
34-وهذه المساعدة أردتها حتى قبل نشأة النداء عندما ناديت بالمصالحة بين الثورة والدستوريين من التجمع (والتجمع ليس هو إلا سيطرة مافية ابن علي واليسار الاستئصالي على حزب بورقيبة) مناخا للمحاسبة لتوقعي أن عدمها سيلجيء الدساترة إلى ما تجنبه بورقيبة.
35-فما تجنبه بورقيبة هو انتقال اليسار من رديف وأداة للحزب الدستوري إلى العكس مع ما يقتضيه من الاستناد إلى جهازي الأمن (في عهد ابن علي) أولا ثم العسكر ثانيا (في عهد اليسار السيسوي) وبذلك يمكن تفسير كل الصدامات التي حصلت بينه وبين الاتحاد.
36-لما كان السبسي غير غافل عن هذه الاستراتيجية وكان أعلم الناس باستحالة التغلب على الإسلاميين من دون حرب أهلية أخطر مما يجري في ليبيا فهو قابل لأن يكون حليفا لشروط المحافظة على سلمية الثورة.
37-وما يدعوه إلى الحلف مع الإسلاميين سببان : ذاتي وحزبي. فذاتيا: لا يريد السبسي أن يكون عهده عهد وقوع تونس في حرب أهلية. وحزبيا: يريد السبسي تجنب ما تجنبه بورقيبة بعد أن تبين له ما يتضمنه من اخطار يراه الآن بأم عينه في أزمة حزبه وتلويح بعد أعضاء الحزب بالحل السيسوي ومغازلة بشار وحفتر.
38-وهذا يفرض على حزب النهضة أن يكون في مستوى المسؤولية التاريخية. فإذا عجز عن مساعدة الدساترة في سعيهم للمحافظة على حزبهم وتحريره من هيمنة اليسار الاستئصالي فينبغي أن يلجأ للكي: إسقاط الحكومة لفرض الدعوة لانتخابات مبكرة. والحياد في هذه الحالة خيانة لأن الأمر لا يتعلق بمجرد أزمة في حزب بل بمؤامرة على الثورة وعلى تونس ضمن المؤامرة عليه.
39-واسقاط الحكومة يمكن أن يحصل بتحالف مع الدساترة ومع حلفاء النداء في التشكيلة الحالية لأنهم هم أيضا في خطر مثل النداء والنهضة: آفاق والحر كلاهما يخشى اليسار الاستئصالي لاسباب مختلفة لكن المهم أنهم مستعدون للمشاركة في تحرير النداء من الداء.
40-وسقوط الحكومة سيفرض انتخابات جديدة لاستحالة حصول أي اسم على التزكية البرلمانية في حالة وقوع ذلك بحسب خطة المساعدة على تحجيم اليسار الاستئصاليي. فيرجع إلى حجمه الهامشي ويتمكن حزب بورقيبة المتصالح مع الذات مواصلة الدورة الحالية في الحكم بنفس التشكيلة الائتلافية الحالية في الانتخابات.
41-وحينها يمكن أن نتصور حياة سياسية سوية يتداول فيها على الحكم فرعا حركة التحرير والإصلاح مع حلفاء من آفاق وغيره: دساترة الثعالبي ودساترة بورقيبة هما الأساس ومعهما من يحالفهما مصلحيا أو مذهبيا:محافظة وتقدم.
42-فتكون تونس حينئذ ليست بداية الثورة فحسب بل هي بداية حل الأزمات التي قد تفشلها لأنها بذلك ستنقل المعركة من صدام حضاري إلى تنافس سياسي سوي.

43-وحينها يمكن للثورة التي تحررت من الجغرافيا والتاريخ اللذين يفرضهما الاستعمار وعملاؤه أن تحقق التنمية والقوة المادية والقوة الروحية استنادا إلى التحرر من الانحطاطين: الذاتي الذي أفسد قيم الإسلام والاستعماري الذي أفسد قيم الحداثة.


علاج أزمة النداء من أوكد الواجبات الثورية والوطنية – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي