عبير الملهاة أو المعارك الزائفة والفرص الضائعة

****،

ليس صحيحا أن المؤمن لا يلدغ من نفس الجحر مرتين.
ذلك أني صرت مخيرا بين حكمين:
• فإما أن هذا الحكم غير صحيح
• أو أن قيادات النهضة ليسوا مؤمنين.

ولما كنت لا أشك في إيمانهم على الأقل بمقتضى الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر فإني بدأت أشك في هذه الحكمة القائلة بأن المؤمن لا يلدغ من نفس الجحر مرتين.

ذلك أن نفس اللعبة تتكرر اليوم. فقد جعلتهم استراتيجية اليسار والقوميين والليبراليين حتى من كانوا معهم في الترويكا يعتقدون أن الخطر على الثورة مآتاه الدساترة خلطا متعمدا بين الدساترة والتجمع فلم يحددوا العدو الحقيقي للإسلام وللثورة.

أضاعوا فرصة لن تتكرر. إذ إنهم تركوا المجال للأعداء بأن أبعدوا من كان يمكن أن يكونوا اصدقاء لأنهم اضطهدوا مثل الإسلاميين في عهد ابن علي وكانوا متحرجين من ايام بورقيبة الأخيرة. وكان لي بينهم الكثير من الأصدقاء وحتى من نسورهم مثل المرحوم محمد الصياح فضلا عن أفاضلهم أعني المزاليين.

وظل الأمر كذلك حتى انقرض أعيان الدساترة ووجهاؤهم ولم يبق منهم إلا “البوزقليف” الذي يمكن أن يصطفوا وراء عبير الزغراطة والصبابة لأنهم لم يجدوا من يدعوهم إلى ما يحررهم من الخلط بينهم وبين التجمعيين.

فعبير لا علاقة لها ببورقيبة والدساترة. وعندما أصبحت قوادة وزغراته ومنتفعة من نظام ابن علي كان النظام البورقيبي والبورقيبيين قد أصبحوا منبوذين نبذ الإسلاميين وأكثر بمن فيهم وزير ابن على الأول بعد البكوش وأصبح الملعب خاليا لليساريين والقوميين الذين كانوا ولا يزالون يناصبون العداء لبورقيبة وللإسلام.

واليوم يزعمون أن الليبراليين واليساريين والقوميين أصدقاء وحلفاء ويحكمون تحت سلطانهم أذلاء كأنهم لا يمثلون الأغلبية ذات الشرعية الانتخابية-في حين الحكومة الفعلي كل “سلاطينها” من جماعة صفر فاصل.

لكنهم منشغلون بعبير التي لا وزن لها فجعلوها زعيمة لأن الذين يوظفونها يستغلونها لعلمهم أن المعركة الداخلية في النهضة قد تجعل البعض يستفيد من المبالغة في حجمها بإظهار دورهم في مقاومة حربها على رئيس الحركة واتهامها لإسلاميي تونس بكونهم اخوان.

وأعتقد أن قيادات النهضة “استحلوا” اللعبة لأن ذلك يخدم معركتهم الداخلية بحجة “لو كنا كما يصفنا من يريد تعويضنا لكان الأعداء ركزوا على من يسعون لتعويضنا بدلا منا”.

وهي حجة للجيعان.
فالعدو الذكي يعطيك هذه الورقة حتى يقضي بك على سر قوتك الفعلية بجعلها تقع في معركة زائفة. فليس صحيح القول “لو لم نكن خطرا عليهم لأهملونا وانشغلوا بغيرنا”. يشغلوكم بالمعركة الزائفة ليلهوكم عن المعركة الحقيقية.
وهي حيلة معروفة ليس لهم وحدهم بل لمن يريد أن يلهيهم عن المعركة الحقيقية الجارية على قدم وساق وهم نيام.

فما يعده لهم دمية قرطاج الذي لم يعن بالنصر على كورونا ولا بما يجري على حدودنا بل هو خارق مع ديوانه واعوانه يعدون العدة لأسقاط النظام وفرض سلطان مستعمليه على تونس لبنانا ثانية تتاسهما إيران وفرنسا بحلف مثل حلف حزب الله وحزب “نسخة” دوجول الكاريكاتورية.

المشروع الآن مر إلى الإنجاز وتكوين حزب “إرادة الشعب”.

عبير لو أهملت لما بقيت: فعنترياته تهريج ولا وزن لها إلا كمشروع اغتيال يخطط له أعداء الثورة. فموظفوها مستعدون للتضحية بها كما فعلوا بمن صاروا زعيمين -وهما دون وزن الريشة سياسيا وفكريا وحتى خلقيا- فاغتالوهما حتى يطيحوا بحكم الترويكا.

تلك هي وظيفة عبير: تهريج وتلهية. واعتقد أن قيادات النهضة لهم ضلع في تضخيم دورها حتى يواصلوا مناورات مؤداها النهائي هو انتاج ألد أعداء الإسلام والثورة والتشبث بزعامة مبنية على عادة العرب في تسمية الهزائم انتصارات:

  1. بدءا بهزيمة اختيار التحالف مع الشاهد. فهم الذين بعثوه من عدم لما اراد السبسي انهاء مستقبله السياسي. وكل فتات النداء وكل الفاشلين انتخابيا قد يتجمعون في غفلة منهم بسبب معركتهم مع عبير.

  2. وسيكون ذلك بقيادة أفسد منظمة نقابية عرفها تاريخ توظيف منظمات العمال في العالم ضد مصالحهم أعني المحافظة على موارد الرزق والمؤسسات الاقتصادية التي يعلمون فيها.

  3. ثم جاء البديل من الشاهد باقتراح منه في رئاسة الحكومة في حين أنه لا وجود له في التمثيل الشعبي ليس حكما قبليا بل أنه تقدم إلى الصندوق ورفضه الشعب نيابيا ورئاسيا.

  4. ثم حزب البراميل المتفجرة الذي لمجرد حلفه مع بشار وحفتر والسيسي لو تمكن لكانت مقابر ليبيا ومحارق مصر وكيمياوي سوريا قد كان لها ما يجانسها في تونس.

  5. حزب البسكلات الذي ينتظر في الدورة ما تمنيه به فرنسا إذا فشلت مراهنتها على الفخفاخ بعد انفراط عقد حزب الشاهد.

وكل هؤلاء يزيد الماء لطاحونة زعيمهم الباطني ومضفي الشرعية الوهمية عليهم أعني قعيد قرطاج الذي ألغى دور تونس في الإقليم وفي العالم لأن مستعمليه ينتظرون منه تجهيز أداة افتكاك السلطة بما كان يقوله قادة اتحاد اللصوص: “نذبحهم بسكاكينهم”.

والقصد بالدستور الأحمق الذي كتبه من يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامى ومن لا يزالون مستشارين لرئيس الحركة وخاصة من فتحوا التعدد الحزبي بلا حد وفرضوا الابقاء على القانون الانتخابي لأن بقاءه كان بابتزاز الحزيبين المشاركين للنهضة في الترويكا لعلمهما أن بقاءهم مشروط به.

وإني فعلا لشديد العجب من نداء الدكتور مصطفى من جعفر. فأنا أعرفه جيدا وأعلم أنه لا تنقصه الفطنة ليعلم حقيقة ما يجري لكنه يستعمل الدبلوماسية وهو ليس غافلا عن من يدعوه ليقود المصالحة الوطنية وجمع التوانسة.

وما يدعو إليه الدكتور ابن جعفر في طلبه من الرئيس المساهمة في تجاوز المأزق فيه دبلوماسية تسكت عن دراية بانه هو المستفيد الأول مما يحدث. فسكوته ليس لغفلة بل لتواطؤ.

والدليل أنه شرع في بناء اجهزة “عهده” الذي يحلم به في مشروعه وهو يفكر في دورتين على الأقل إذا لم يتحول إلى آية الله: “حزب إرادة الشعب” هو الجهاز الذي اكتفى فيه إعادة الترتيب بين الإرادة والشعب تقديما للمتأخر وتأخيرا للمتقدم.

ومواصلة النهضة المعركة مع عبير بدلا من اهمالها وبدلا من محاولة التدارك بجمع ما يمكن جمعه من الدساترة ومن اختيار استراتيجية استعادة قاعدتها بالخروج من مشاركة ذليلة في حكم صار فيه وزراؤها شواش يستأذنون سي عبو وسي الفخفاخ وأي قهرمانة في قرطاج.

حكم ليس لها منه غير تحمل خيباته ومسح أرجلهم فيها لتعليل أي فشل كما حصل في العقد الماضي دون أن يعترف لها أحد بفضلها حتى لو تصورنا أن لها فضلا يتعدى ما يوهم به بعضهم نفسه بأنه المنقذ مما لا يمكن انقاذه.

وما هم إلا مجرد متفرجين على الاحداث كالمشدوهين حتى وإن اتهموا بالإثراء منه كذبا وبهتانا أو على الأقل خارج دائرة ضيقة لا تتعدى بعض الترضيات الهامشية.

فبلد نصف اقتصاده بيد المافية علنا (الموازي) والنصف الثاني بيد مؤسسات تعتبر تابعة للدولة في الظاهر وهي أيضا بيد المافية الخفية لا يمكن انقاذه بكذبة محاربة الفساد.

فأفسد شيء في تونس هو مؤسسات الدولة من راسها لساسها.
فما اكتشف أخيرا في الدبلوماسية من سفارات وهمية ليس أمرا شاذا فكل المؤسسات لها نظائر وهمية.

فكل شركات الدولة وكل دواوين الوزارات وديوان رئيس الوزراء وديوان رئيس الدولة توظف أضعاف ما تحتاج إليه فضلا عن نظام التقاعد الخاص بهم والذي يضاعف ميزانية التصرف والميزانية الاجتماعية بصورة تجعل ما “تحطبه عائشة لا يكفي لتجفيف ثيابها”.

منذ اليوم الثاني لوفاة المرحوم السبسي كتبت في الأمر وبينت أن اللعبة تغيرت تماما وأن رأس النهضة مطلوبة من الجميع وكنت واثقا من أن سعيد وبعدي ايديولوجية جماعة الشيوعية والشيعية هدفها التحالف مع حزب فرنسا ورمزه كان الشاهد للإطاحة بالثورة وبالإسلام السياسي لأن فرنسا تأكدت أنها قد تخسر تونس وخاصة بعد بداية تدخل تركيا في اللعبة.

وختاما إذا واصلت قيادة النهضة لعبة القط والفأر مع عبير بسبب مشكلها الداخلية وبهدف المحافظة على كرسي المجلس والتغافل عما يعد لها ممن ذكرت فإنها ستبقى معلقة في كلمة قد لا تتأخر من القروي بالتطميع أو بالتخويف.

وحينها ستخسر المجلس وما بقي لها من قاعدتها التي لم يبق منها إلى ثلثها الذي قد يلجأ إلى الائتلاف وحينها سيرون إلى ما يؤدي اليه الكذب الذي يشبه عادة العرب في تسمية الهزائم مجرد “نكسات” ويعملوها طيحة بتكربيسة.

عذرا ألف مرة. قد أكون أبالغ في توقع النكبات. لكني ألاحظ أني ما توقعت منها إلا ما أيدته الأحداث: فتأييد انقلاب الشاهد على السبسي وعمل كل شيء لإسقاط مورو وكل شيء لتصعيد سعيد.

وقبل ذلك كله عمل كل شيء لاهمال المصالحة بمنطق العفو عند المقدرة وثم تبنيها صاغرين كل ذلك توقعته وحذرت منه لكن “ستين نمالة طبت الغار” حتى وصل خيرة قيادات النهضة إلى اليأس فاستقالوا.

وكما قال أرسطو: السياسة هي إدراك السوانح أو تحين الفرص. وكل ما يأتي بعد وقته لا فائدة منه. ومن لا يدرك وقت الفرصة لا تنتظر منه أن يتوقع المآسي. فإذا لم تسارع النهضة وتتدارك أمرها فهي مقبلة على أكثر مما مر به إسلاميو الجزائر في العشرية السوداء.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي