غايات الثورتين بين الحلم و الخيال
1-ألسنا نحلم عندما اعتبرنا في الجزء السابق الغاية من الثورة بمنطلقيها (التونسي ضد الاستبداد والفساد والسعودي ضد الاستضعاف والاستتباع) هي: دولة المسلمين الواحدة التي تقود الأمة وتوحدها حتى تستطيع تحقيق شروط الحماية والرعاية؟
2-ألسنا نبالغ في الحلم لما اعتبرنا ذلك قابلا للتحقق بقيادة سنة العرب وفسرنا ما يحدث ضدها بكونه دليلا على أن الأعداء يعتبرون ذلك محتملا لذلك يركزون عليها وخاصة على ما بقي من عرى الوحدة بين أقطارها؟
عوامل الترجيح
3-وحتى لا يظن هذان الحلمان-بالمعنى الإيجابي- مجرد تضخم ذاتي لدى بعض العرب المؤمنين بالرسالة ألا ينبغي الانطلاق من تعيين عوامل الترجيح التي تجعلنا نعتبر ذلك معبرا عن حقيقة موضوعية ؟
4-فحظوظ نجاح أي مشروع تكمن في عوامل ترجيح غلبته على المشروعات المحيطة به والتي تقدم نفسها بديلا منه فتدخل من ثم في صراع معه بسبب التمانع : لا يمكن للمشروعين أن يتجاورا في نفس المكان ويتساوقا في نفس الزمان.
5-ففي نفس الأحياز-المكان وثمرته والزمان وثمرته والحصانة الروحية-تكون القوى المتجاورة (المكان) والمتساوقة (الزمان) في صراع على السيادة والقيادة ومن ثم فالنزاع عليهما هما جوهر المعركة في الإقليم.
6- والصراع على السيادة والقيادة يطلب الوحدة التي تكون مطلقة بالتمانع أو نسبية بالتصانع. والتمانع هو مبدأ سياسة الوجود المطلقة: فلا شريك مع الله. وهذا النموذج لا ينطبق إلا عليه.
7-لكن سياسة ما دون الوجود- أي بعد القيادة الإلهية- كل شيء فيه متقاسم بين القوى الطامحة. فالمبدأ هو الزوجية وليس الوحدانية. وهذا حكم السياسة داخليا وخارجيا.
عوائق تحقيق الغايات
8-وهنا يكمن العائق الأكبر في تحقيق دولة الإسلام الواحدة التي تحقق الحماية والرعاية في الداخل والخارج. ما يزال مبدأ الحكم فيها التمانع ولم تدرك النخب أن ذلك مقصور على الله وحده.
9-فكل قطر عربي وجل اقطار المسلمين يحكمها التمانع داخليا (صراع على الحكم بمعادلة صفرية) وكذلك فيما بين الشعوب الإسلامية (نفس المنطق). وإذن فالمبدأ المخلص هو حصر الوحدانية في الله وحده وعلاج الشأن الإنساني بالتعددية.
10-وهذا ما فهمته الحركة التي انطلقت من بلد القيروان إذ جعلت الحل في الديموقراطية. وهذا ما فهمته الحركة التي انطلقت من بلد الحرمين إذ جعلت الحل في القوة العربية المتحدة : تعدديتان شارطتان لحل نفس المشكل أي مشكل الدولة القادرة على الرعاية والحماية.
11-وإذن فيمكن أن نقول إن العرب مرشحون لأداء دور نواة الوحدة التي تستأنف دولة الإسلام بهذين المبدأ المتحرر من الوحدانية بالانتقال إلى التعددية السياسية. لكن المقومات ليست مقصورة على هذا المبدأ الصوري.
المقومات المادية لتحقيق غايات الثورتين
12-فما المقومات المادية التي تمكن من تحقيق ذلك؟ ما الأحياز المقومة لكيان موحد له مقومات الوحدة المتنوعة والتي يبدو الظرف التاريخي يدفعها دفعا لتنتقل من القوة إلى الفعل لأن الرهان وجودي والتحدي ليس له إلا هذا الحل؟
13-الجواب-ضمن الأمة الإسلامية-يتمثل في أن الشعب الذي ترجح حظوظه للقيام بهذا الدور هو العرب. فكيف ذلك وهل الحركتان اللتان حدثتا في الوطن العربي لدى سنته تنحوان إليه؟
14-ولا يعني رجحان دورالعرب سنتهم استثناء أدوار شعوب الأمة الآخرين إذ كما قلنا فإن القيادة في السياسة بخلافها في الوجود تكون تعددية لا وحدانية. لكن المزاج يحتاج دائما إلى قوة موحدة أو عنصر غالب يحقق التوحيد.
15-لذلك فمسار توحيد الأمة بشكليه -عن طريق الدول وعن طريق حركات المقاومة-يمكن أن يكون متعددا مع رجحان دور أحد الشعوب ليكون رأس القيادة: فهل العرب لهم حاليا شروط القيادتين للدول ولحركات المقاومة من أجل هذه الغايات؟
دور العرب في حركات المقاومة
16-ولنبدأ بحركات المقاومة. فالراجح الآن لديها على الأقل في الخطاب هو عملية التوحيد أو على الأقل فكرة التوحيد. وهذه الحركات يغلب عليها القيادة العربية تقريبا في العالم كله.
17-ففي جنوب شرقي آسيا وفي آسيا وفي بقايا الاتحاد السوفياتي وفي البلقان وفي افريقيا وخاصة في الوطن العربي العامل الغالب في قيادة المقاومة من العرب السنة.
التمانع الخاطئ بين المقاومات و الدول
18-لكن هذه الحركات ما تزال حركات يحكمها منطق التمانع أي إنها تعتقد أنه عليها أن تعلن الحرب كذلك على الدول ولا تتصور أنه يمكن أن يتوازى مساران يهدفان إلى نفس الغاية: تحقيق شروط التطور بالتعلم من الغرب والتحرر منه بمقاومة الهيمنة والاستكبار.
19-كما أن الدول القطرية ما تزال محكومة بمبدأ التمانع لأنها لا تسعى للجمع بين مواطنتين القطرية والعربية أو الإسلامية ولذلك فهي لا تمثل بعد مسارا توحيديا يحد من عنف المسار الأول بالتقليل من جاذبيته التي يستمدها من فكرة الوحدة وما يترتب عليها من مجد.
أنواع التمانع غير المشروع و توفير العرب إمكانية الخروج من المأزق
20-وبذلك فنحن أمام خمسة أنواع من التمانع غير المشروع:1-بين الحركات 2-بين الأنظمة 3-بين الحركات والأنظمة 3-بين شعوب الإسلام 5-وأخيرا بين الإسلامي والعربي. كلها تدار بالمعادلة الصفرية. لا بد من القضاء على الآخر.
21-ومع ذلك يبقى رجحان العربي في ذلك كله لأنه هو الحائز على أفضل الحظوظ بشرط التخلي عن التمانع: في الحركات وفي الأنظمة وبين الشعوب وبين الأمة والعروبة. والعلة وزن العرب المادي (هم الأغنى) ووزنهم الروحي (ولغتهم لغة القرآن والحرمان في أرضهم وجل التراث الإسلامي بلسانهم).
22-وهذان الوزنان المادي والروحي ينتجان إذن من مقومات موضوعية علينا بيانها وذكر ما ينقصها من مقومات ذاتية هي التي تعطل مفعولها وتعلل تأخر العرب في أداء دورهم البديهي لو كان للنخب العربية الطموح للمجد والتحرر من العيش الذليل.
المقومات الذاتية الناقصة الحائلة دون العرب ودورهم
23-لذلك سأبدأ بالمقومات الذاتية الناقصة لأن المقومات الموضوعية هي دون شك معلومة للجميع. فهي حيز المكان (اكبر مساحة وأفضلها جيوسراتيجيا) وثمرته (الثروة المادية الهائلة) وحيز الزمان (سادوا تاريخ الإسلام ولو رمزيا أكثر من كل الشعوب الأخرى) وثمرته (ثقافة الإسلام بلغتهم هي الأكبر والأهم) وأصل الأحيار أو رسالة الإسلام أي القرآن والسنة.
24-فلنفرض -محض خيال-أن النخب العربية بأصنافها الخمسة آمنت على أساس هذه المقومات بدورلها في تحقيق قطب العالم الخامس وقيادة الأمة الإسلامية للاستئناف. صحيح أن هذا بعيد المنال ويكاد يكون حلما.
25-لكن أوروبا استأنفت دورها الكوني بعد أن يئست من بقاء الدور لما خسرت مستعمراتها وصارت مستعمرَة. ما يتناساه الناس هو أن نخبتي الرمز حققتا هذه الوحدة أعني المربين والمثقفين.
26-دول أوروبا استردت وحدة مضمون تربيتها وثقافتها بالتدريج. والملعوم أن التوحيد التربوي والثقافي أكثر بطءا من التوحيد الاقتصادي والسياسي وهو شرط يعد إليه عندما تصبح الظروف التاريخية مضطرة إليه.
27-ذلك ما حصل لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: أدرك الاقتصاديون والسياسيون أن أوروبا ستخرج من التاريخ إذا هي لم تتجاوز القطرية بنحو ما فوجدت الطريق ممهدا ثقافيا وتربويا مع ضرورات الوضع.
28-والعرب والمسلمون وضعهم الحالي في المنطقة بمنطق عالم العولمة يكادون يخرجون من التاريخ وقد يحصل ذلك حتما إذا لم يتداركوا أمرهم. سيعودوا إلى الاستعمار المباشر إذا بقوا بدون حماية ورعاية ذاتيتين بحل مماثل للحل الأوروبي.
29-وهذا يعني أن النقص الذاتي الذي نتكلم عليه هو نقص تعاني منه النخب الخمسة: المربين والمثقفين والسياسيين والاقتصاديين ورجال الفكر الاساسي(الديني والفلسفي). ذلك هو نقص المقومات الذاتية المقصودة.
تحقيق المقومات الموضوعية و غايات الثورتين
30-أما المقومات الموضوعية أي المكان وثمرته المادية والزمان وثمرته الثقافية والحصانة الروحية التي هي الإسلام فهي جميعها متوفرة للعرب خاصة أكثر من توفرها لبقية شعوب الأمة .
31-لكن هذه المقومات ليست ملكية إلا بالقوة لأن الحوز ليس بأيدي العرب بسبب تبعية الدول القطرية في الحماية والرعاية. وإذن فالانتقال من الملكية الاسمية إلى الملكية الفعلية الجامعة بين الحق والحوز مشروط بالتحرر من التبعية. وتلك هي الثورة.
32-والجمع بين الملكية والحوز هو تحقيق أهداف الثورة أي التخلص من الاستبداد والفساد (بدايته من بلد القيروان) والتخلص من الاستضعاف والاستتباع (بدايته من بلد الحرمين).
33-وتلك هي غاية الغايات لأن شرط الشروط: فكيف تكون الدولة القادرة على الحماية والرعاية بقيم القرآن الكريم في العلاقات الداخلية والخارجية لتحقق الأهداف التي من أجلها قامت الثورتان ضد الاستبداد والفساد وضد الاستضعاف والاستتباع؟
دوافع التفاؤل و شروط تحقيق موضوعه
34-وما يدفع للتفاؤل أمران: أولا فالثورة على الاستبداد والفساد أو ثورة الحرية والكرامة اكتشفت عائق التبعية الناتجة عن عجز الدولة عن الرعاية. ثانيا واكتشفت الثورة على الاستضعاف والاستتباع أو ثورة الاستقلال والشهامة عائق التبعية الناتجعة عن عجز الدولة عن الحماية.
35-اكتشف أغنياء العرب أنهم تابعون في حماية أركان الديار رغم ما لديهم من الاعمار واكشف فقراؤهم أنهم تابعون في تغذية أبناءهم الصغار رغم استغنائهم عمن يحمي الديار: فتبين أن دولهم قلادة بلا سيادة في الحالتين.
36-والأهم أن التبعية بصفنيها حماية ورعاية تشير سلبا إلى أصل المشكل وإيجابا إلى أصل حله: فعجز النخب ذاتيا لنقل مقومات القدرة الممكنة من القوة إلى الفعل هو أصل المشكل وعلاجه هو أصل الحل.
37-ويكفي أن يكون للأمراء والاقتصاديين والمربين والمثقفين وأصحاب الفكر المؤسس دينيا وفلسفيا أن يكون لهم طموح مثل من عليهم أن يخجلوا منهم إذا قاسوا أنفسهم بهم من حيث الانجاز.
38-فعليهم أن يخجلوا ممن يتصورونهم نموذجهم بالأقوال وهم دونهم بالأفعال: فمن ماضينا ومن حاضر الغرب ليس لهم إلا الأسماء. فلا هم مثل بناء مجدنا ولا مثل بناة مجد الغرب.
39-أو عليهم أن يعترفوا بأنهم ليسوا أمراء وليسوا إقتصاديين وليسوا مربين وليسوا مثقفين وليسوا أصحاب فكر مؤسس بل كاريكاتورات منهم لا غير.
40-فأي معنى لأمير عديم الطموح الكوني ومثله اقتصادي يرضى بدور الوسيط أو مربي يمضغ كليشات أو مثقف لا دور له في الإبداع أو مفكر جذري يكتفي بالعيش عيش الأنعام ولا عظيم فيهم إلا جمع القروش وتكبير الكروش.
41-ألمانيا بناها أمراء واقتصاديون ومربون ومثقفون ذوو طموح وفكر جذري يحلق في فضاء الكونية ومثلها أمريكا والصين واليابان. فما دهى كل العرب وجل المسلمين؟
42-ذلك هو الخذلان الذي ينبغي الانطلاق منه لتحرير الأمة من رواسب الانحطاطين اللذين تكلمنا فيهما سابقا وعالجنا تنافيهما مع الإسلام في جزء المحاولة الثالث أمس.
مفهوم الدولة الصالحة القادرة و العائق الثاني لتحقيقها
43-والآن ما مفهوم الدولة الصالحة القادرة على الحماية والرعاية داخليا وخارجيا بحجم يقتضيه منطق العصر وهو اليوم حجم العمالقة في غاب العولمة الذي لا يمكن أن ينمو فيه إلا من كان بمقاسه؟
44-وأول ملاحظة هي أن هذه الدولة ليست قابلة للتحقيق بفكرة الخلافة التي لم تتطور لتطابق منطق العصر الذي أساسه مفهوم للاجتهاد والجهاد لا يكفي فيه الفقه والقتال. فدولة كهذه ليس لها من دولة الإسلام إلا الاسم الخاوي.
45-وحركات المقاومة باسم الخلافة إذا بقيت كالتي تتكلم باسمها وتكاد لا تعيش إلا حيث تزيل الشروط التي يقتضيها تحقيق دولة الإسلام فإن أقصى ما تؤول إليه هو إمارات حرب تلغي شروط بناء الدولة الأصيلة والحديثة فضلا عن شروط الحماية والرعاية بمنطق العصر.
46-وبذلك نكتشف العائق الثاني بعد القطرية التي هي العائق الأول. وهذا العائق هو كذلك عائق التمانع بين أمراء الحرب الذين يسعون إلى تكوين إمارات ستكون توابع أو ستظل في اقتتال أبدي كما حدث في افغانستان ويحدث في الهلال.
47-لا يمكن بناء دولة الإسلام التي تحقق شرطي الحماية والرعاية بحركات بدائية من جنس حركة طالبان أو الشباب في الصومال أو بوكو حرام إلخ…فمثل هذه الأفعال لا تحقق دولة الإسلام بل تبعد المسلمين عنها وتجيش العالم ضد الاستئناف.
48-لكن لا يمكن كذلك عدم اعتبار هذا العامل لأنه يعبر عن حاجة حقيقية وإن بصورة بدائية: فمن حيث الغاية يمكن القول إن حركات المقاومة متقدمة على الأنظمة. لكن المشكل هو الفكر والوسائل.
49-وحتى الغاية فإنها لا ينبغي أن تكون إعادة الخلافة كما كانت بمنطق عصرها بل إعادة ما يضاهيها بمنطق العصر الحالي أي ما يمكن المسلمين من شروط الحماية والرعاية اللتين تقتضيان شروط التربية والثقافة المبدعتين للدفاع والاقتصاد أداتيهما.
50-ولا يمكن تحقيق هذه الشروط إلا بدولة أصيلة وحديثة تستطيع تنظيم الاجتها د النظري والجهاد العملي شرطي الرعاية والحماية. وهكذا فقد وصلنا الآن إلى مرحلة تحديد مقومات الدولة التي يحتاجها المسلمون مقوماتها التي جمعناها تحت عنوانين: الحماية والرعاية الذاتيتين بشروط العصر.
شروط تحقيق مقومات الدولة الصالحة القادرة على الحماية و الرعاية
51-والمنطلق إلى هذه الغاية التي اكتشفت الحركتان من بلد القيروان وبلد الحرمين أنها شرط تحقيق ما تسعيان إليه يعني أن التمانعات الخمسة بدأت تزول بحق على الأقل لأن الحركة الأولى تسعى إلى التعددية في الداخل (بين القوى السياسية) والثانية إليها في الخارج (بين العرب).
52-بات من الواجب تجاوز الوحدانية في كل قطر والوحدانية بين الأقطار العربية ومن ثم فالتعددية السياسية في القطر وبين الأقطار هي شرط الشروط : أصبح بالوسع تجميع القوى في الداخل وفي الخارج لعلاج قضايانا باستراتيجية أساسها التخطيط العقلي لتحقيق الغايات المشتركة.
53-ومعنى ذلك أن العرب في وضع تاريخي داخليا وخارجيا -هم المستهدفون الأول في المنطقة-وضع أنضجهم لقبول التعددية السياسية في القطر الواحد وبين الأقطار. هذا الحل قد آن أوانه لبناء دولة تحمي المواطن والأمة وترعاهما باقتدار ذاتي.
54-ويبقى مع ذلك التمانع وعلة الحرب الأهلية سائدا بين نماذج تحقيق ذلك أعني علة التنافي بين حركات المقاومة الإسلامية الغالية والأنظمة القطرية الغالية : وهذه هي الحرب الأهلية العربية المساوقة لمحاولات الصمود أمام الحروب المعلنة ضدهم في الإقليم والعالم.
55-وما لم نصل إلى حل يحقق نفس الغاية باسلوب يحد من غلو حركات المقاومة لئلا تتنافى مع الأنظمة بصورة تؤدي إلى الحرب الأهلية وغلو الأنظمة بنفس الصورة فإن كل شروط الحماية والرعاية تبقى بعيدة المنال بالنسبة إلينا.
56-ولن نتكلم في هذا الغرض الآن لأنه ينتسب إلى الجزء الخامس والأخير من مسألتنا : الجزء المتعلق بالاستراتيجية التي ينبغي اتباعها لتحقيق شروط استئناف الأمة دورها بقيادة عربية. نكتفي بالإشارة إليه ثم نشرع في الكلام على مقومات الدولة.
57-وفي الحقيقة فنحن قد تكلمنا عليها سلبا: فالغلوان ليس لهما من علة إلا ما مجموعه هو عينه مجموع سلوب الدولة التي نريد وصفها. فجرائم الدولة غير الشرعية (دولة السيسي وبشار نموذجا) يناظرها ردود ما تدعي محاربته (حركة داعش والقاعدة نموذجا).
58-وعبارتا الانحطاطين: أولاهما داعش التحديث باسم كاريكاتور الحداثة أو الانحطاط المستورد. والثانية داعش التأصيل باسم كاريكاتور الأصالة أو الانحطاط الذاتي. كلتاهما كاريكاتور مما يقتضيه الاستئناف.
تجاوز التمانع من منطلق إسلامي لتحقيق الدولة الصالحة القادرة
59-فالدولة التي نصفها بكونها أصيلة وحديثة هي التي ستحررنا من الغلوين فتمكننا من شروط الحماية والرعاية الذاتيتين بالمحافظة على الفروق لأنها تجاوزت التمانع الداخلي (سلطة الشعب بتوسط قواه السياسية المعبرة عن إرادته) والخارجي (سلطة الأمة بتوسط قواها السياسية المعبرة عن إرادتها).
60-وهذا هو المبدا الإسلامي الجوهري الذي يأتي من كون القرآن رسالة كونية خاتمة: فالوحدة لله وحده والتعدد والتنوع يعتبرهما القرآن الكريم آية وهي شاملة لكل الموجودات وخاصة أرقاها.
مؤسسات و وظائف الدولة الصالحة القادرة
61-لذلك فالدولة بدايتها وغايتها إرادة الجماعة إيجادا ومراقبة ووظيفتاها الحماية والرعاية بأدوات الحكم الاحدى عشرة التي نصف بإيجاز في محاولتنا. والبداية والغاية هي مصدر الحكم ومرجعه أي إرادة الشعب بصيغ متروكة لاجتهادها.
62-فالأصل هو إرادة الشعب التي يتم التعبير عنها بـالانتخاب أو البيعة بلدرجات وكيفيات مختلفة وذات النتيجة القابلة للتغيير بمقتضى النتائج. والمراقبة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإعلام الحر وحق المعارضة.
63-ووظيفة الحماية تكون داخلية بـالقضاء والأمن. وتكون خارجية بـالدبلوماسية والدفاع. لكن أصل هذه الوظائف الأربعة أصلها جميعا هو جهاز الاستعلام السياسي لمعرفة شأن هذه الوظائف العام ومراقبتها بمعيار أدائها لوظائفها.
64-ووظيفة الرعاية تكون تكوينا للإنسان بـالتربية والمجتمع. وتكون تموينا للإنسان روحيا وبدنيا بـالثقافة والاقتصاد. لكن أصل هذه الوظائف أصلها جميعا هو جهاز الاستعلام العلمي (البحث العلمي) لتمكين وظائف الدولة كلها حماية ورعاية من الأدوات والمناهج.
65-أما الوظيفة الحادية عشرة والتي بها تنتظم كل الوظائف فهي الحكم الذي ليس هو إلا إدارة تلك الوظائف العشر. والإدارة تكون بالتشريع والتنفيذ والتعديل وتنفيدا لتكييف أداء الوظائف العشرة بمعيار العدل والأمانة (النساء 57).
66-والملاحظ أني لم أضع القضاء العادي مع التشريع والتنفيذ بل استبدلته بما سميته التعديل. ذلك أن القضاء بخلاف الفكرة السائدة ليس سلطة سياسية بل هوسلطة فنية: يطبق تشريعا لم يضعها هو ويقضي بأحكام لا ينفذها هو.
67-والتعديل قضاء سياسي يعبر عن إرادة الأمة: إنه نظام تعديل الحكم المغني عن العنف أعني كل طرق تغيير الحكم عند حصول الأزمات لتجنب العنف. وهذا هو القضاء الأسمى أي نظام مراقبة الشعب للحكم ومراجعته.
68-ويكون التعديل إما بالانتخابات أو بالاستفتاءات المعدلة لتركيبته بإرادته الحرة في ضوء تجربة المباشرين خارج الآجال المعتادة للتغيير الأغلبيات. وكلمة “خارج الآجال” بديهية لأننا نتكلم على نظام المراجعة التعديلي لا نظام المراقبة المعتاد: المراقبة دائمة وتحكم في آجال يحددها الدستور أو نظام الحكم. لكن التعديل يكون طارئا لحل أزمة.
69-وهذا يعني أمرين: الأول يخص المنتخب الذي يحكم (بخلاف الذي يراس الدولة وهو سلطة رمزية لوحدة الدولة ويمكن أن تكون وراثية : مثل القول إن الخلافة من قريش) والثاني إرادة الناخب.
70-فالذي يحكم بالفعل (رئيس الحكومة) لا رمزيا (رئيس الدولة) لا يمكن أن يكون لمدة غير محددة. والناخب لا يمكن أن يغير إرادته في كل وقت إلا عند اللجوء للتعديل. كلاهما ثابت لمدة معينة هي دورة الحكم المعينة.
71-وذلك هو معنى نظام انتخاب وتداول على السلطة بمقتضى متابعة الإرادة الشعبية الحرة لمن تنوبهم للقيام بواجب الحماية والرعاية لمدة معينة. لكن التعديل لعلاج الظرفيات الطارئة هو سلطة وغالبا ما تكون كيفياته مقننة في الدستور.
العلاقة بين الشكل المقترح للدولة و قيم القرآن الكريم
72-والآن ما الذي يثبت أن هذا الشكل من الحكم هو ما يطابق قيم القرآن الكريم فندعي أنه هو نظام الحكم الذي يقبل الوصف بالإسلامي؟ المطابقة التي تمكن من هذا الحكم تتعلق بأمرين : بطبيعة النظام وبكونيته. ولنبدأ بالكونية قبل الطبيعة.
73-فكونية النظام الذي يضعه الإسلام تتبين من الآية الأولى من سورة النساء. وفي هذه السورة نجد نظام الجماعة بكل شروط الحماية والرعايةمحدد مضمونـا وشكلا: نظام الملكية ونظام الأسرة ونظام الحكم للحماية الرعاية داخليا ودوليا ومعاييرهما القانونية والخلقية.
74-أما طبيعة النظام فتحددها الآية 38 من الشورى. وهي تتألف من خمسة عناصر: حدان الأول ديني (الاستجابة للرب) والأخير دنيوي (الإنفاق من الرزوق) وبينهما تحديد طبيعة الحكم من ثلاثة عناصر طبيعة الحكم المؤلفة من عنصرين مكوناته وأسلوبه.
75-فمكونات الحكم هي “أمر+هم أي أمر الجماعة” وأسلوب الحكم هو “شورى بين+هم أي بين الجماعة فتكون طبيعته الجمع بين المكونات والأسلوب أي: أمر الجماعية=راس بوبليكا=جمهورية. شورى الجماعة=ديمو قراسيا= إذن طبيعة الـحكم هو نظام يعبر عن إرادة الجماعة بالتشاور بينها.
76-وبذلك يكون حكم الجماعة بالتشاور بينها يكون موضوعه الرئيس هو إدارة شروط الحياة (الرزق) بمعايير متعالية (الاستجابة للرب) لتجنب ما يترتب على التنافس عليه في الداخل والخارج من صراع. ويكون هذا الحكم تطبيقا للعدل بأمانة كما تحدد الآية 57 من النساء.
كونية شكل الدولة المقترح
77-وبيان المطابقة مع الإسلام ليس ضروريا إلا للمؤمنين من المواطنين. أما البقية فيكفيهم ما اثبنتاه بالعقل. ومزيد الإثبات للمؤمنين لا يضر غيرهم وينفع غالبية المواطنين في دولة الإسلام.
78-والقصد بالكونية معنيان : شمول الجميع والاتصاف بالصفات المقومة. فالصفات التي يتصف بها نظام الحكم يعني أن مقومات النظام السياسي هي مقوماته من حيث هو سياسي عامة بمقتضى العقل. والإسلام كما هو معلوم يتوجه لجميع البشر( النساء 1).
79-والقصد بطبيعة نظام الحكم وظيفته التي يؤديها في تحقيق ما لأجله يكون الحكم أي تحقيق الحماية الداخلية والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية للفرد والجماعة. والمقصود باسلوبه نوع تعبيره عن الإرادة الجماعية : الشورى.
80-ومن ثم فتأييد القرآن لهذين الخاصيتين هو من ثمرات كونه الدين الخاتم فعلا لأنه يخاطب الإنسان عامة (النساء 1) خطابا لا يفصل بين نظام حياته الروحية وغاياتها (بداية الشورى 38) ونظام حياته المادية (غاية الشورى 38) وأدواتها (السياسة) المناسب لقيم كيانه العضوي وكيانه الخلقي (الوسط بين بداية الشورى 38 وغايتها).
81-وهذا النظام لا بد أن يكون مؤلفا من مستويين : أولهما هو المستوى الرمزي ويمثله رئيس الدولة وقد كان في أغلب مراحل تاريخنا يسمى خليفة وثانيهما هو المستوى الفعلي ويمثله صاحب سلطة الدولة الفعلية وقد كان يسمى في أغلب مراحل تاريخنا بالوزير أو السلطان.
82-وهذا النظام شبيه بالنظام البريطاني مع فارقين أولهما يتعلق بنظام الانتخاب الناتج عن التطور الذي نقل الأنظمة من كون السلطان منتخبا من أهل الشوكة (الحامية عادة) ورئيس الحكومةمنتخبا من الشعب (رئيس الحكومة).
83-والثاني يتعلق بنظام التداول. فمن المفروض ألا تكون السلطنة وراثية-وهي في الحقيقة لا يمكن أن تكون وراثية إلا في حدود امتداد مفعول الشوكة. فهي تبقى ما بقيت الشوكة بيد عصبية السلطان. وهذا تغليب للشوكة على شرعية الانتخاب بنحو ما لكنه يبقى اختيار أصحاب الشوكة حتى في حالة الوراثة.
84-والمعلوم أن نظام الانتخاب حتى في الأنظمة الديموقراطية لم يكن في البداية عاما لكل أفراد الشعب ولا يزال لأصحاب الشوكة فيه الدور الرئيس (اللوبيات والمال السياسي وما يجري وراء الكواليس). ثم إنه قد مر بمراحل : كان مقصورا على أصحاب الثروة ثم صار مقصورا على الرجال ثم عم فشمل النساء. لكنه ما زال يستثني المهاجرين.
85-لذلك فينبغي أن نتحرر من أوهام من يريدون التغيير المطلق والحيني ولا يؤمنون بضرورة التدرج الذي يأخذ بعين الاعتبار تغير الذهنيات والثقافة السياسية للجماعة كما يحصل في أي مجتمع نخبه ذات مزاج سوي وحكمة سياسية متروية. فيمكن الجمع بين الملكية والديموقراطية إذ يكون الملك رئيسا رمزيا للدولة ويكون الحكم بالتداول بين القوى السياسية سواء كانت أحزابا أو أي شكل آخر من أشكال تنظيمها.
طبيعة المعركة ورهاناتها – الجزء الرابع – أبو يعرب المرزوقي