تمهيد:
حددنا في الاجزاء الأربعة السابقة من طبيعة المعركة كشفا موضوعيا لحال الأمة التي نتجت عن الإنحطاطين الذاتي والمستورد. وبينا بالاصطلاح الخلدوني:
أن مادة العمران تجمدت أو تكاد إذ قد توقف الإبداع الرمزي (الثقافة) والمادي (الاقتصاد)
وأن صورة العمران انخرمت فصارت مفقدة للجماعة معاني إنسانيتها فصار بعده الفعلي (السياسة) والمعنوي (التربية) محكومين بالاستبداد والفساد.
وأن واقع الأمة التاريخي صار في قطيعة تامة مع قيم الحصانة الروحية وفلسفتها إذ إن الحركات التي تدعي التأصيل نكصت إلى الجاهلية الذاتية والحركات التي تدعي التحديث نكصت إلى الجاهلية المستوردة
فأصبحت المرجعية الإسلامية وقيمها هدف التهديم النسقي لكلا الصفين بالتشويه القصدي عند التحديثيين ومن يسندهم من القوى الاستعمارية وبالتشويه الغفل عند التأصيليين ومن يسندهم من القوى الاستعمارية التي تستفيد من التشويهين لمنع الاستئناف.
وها قد وصلنا في الجزء الأخير من طبيعة المعركة إلى السؤال الجوهري المتعلق بالعلاج الذي يمكن أن يحدد معالم الطريق سؤال الاستراتيجية السياسية لتحقيق شروط الاستئناف: فـما الاستراتيجية التي تحول الحركتين إلى ثورتين تحققان شروط الاستئناف فتكون فعلا يتغلب على المعيقات التي تحول دون الاستئناف لا رد فعل عليها؟
معركتا الإستئناف
1- ما الاستراتيجية التي تفعل ولا ترد الفعل لتحقيق شروط الاستئناف؟ إنها استراتيجية سياسية هدفها التوحيد بين حركة التحرر (من الاستبداد والفساد) وحركة التحرير (من الاستضعاف والاستتباع) وإزالة أسباب الحرب الأهلية بين الشباب المقاوم في الجبهات والأنظمة المتقاعسة في الصالونات؟
2-فالمعركة إذن ذات مجالين مترابطين كما بينا. ذلك أن أصحاب الحركتيـن اكتشفوا أن مطالب كلا الصفين يشترط مطالب الصف الثاني وهو ما يجعلهما في الحقيقة خائضين لمعركة واحدة: تحرر وتحرير في آن.
3-ومعركة التحرر من الاستبداد والفساد التي بدأت من بلد القيروان وحركة التحرير من الاستضعاف والاستتباع التي بدأت من بلد الحرمين متلازمتان تلازما يجعل نجاح الواحدة مشروطا بنجاح الثانية. ويبقى على حاشيتهما صفان يزايدان عليهما بمفعول الانحطاطين.
التلازم و التعاند بين المعركتين
4-وهذا التلازم والتعاند من جنسين: فهو أولا تلازم وتعاند سببه العلاقة بين الغاية والوسيلة وهو تلازم وتعاند سببه العلاقة بين المانع والممنوع. وسر الإستراتيجية يكمن في الموانع التي تنتج عن هذين العلاقتين وفي علاقتهما احداهما بالآخرى في حالتي التلازم والتعاند.
5-فأما المانع الأول مانع العلاقة بين الغاية والوسيلة فهو الـمانع المحدد للعلاقة بين المحتاجين إلى الحماية والمحتاجين الرعاية وشروط تحقيقهما التي تجعل الأمة ذات سيادة: فلا يمكن لأمة أن تدعي أنها سيدة إذا كانت حمايتها ورعايتها بيد غيرها حتى لو لم يكن عدوا.
6-وأما المانع الثاني مانع العلاقة بين المانع والممنوع فهو علاقة أداتي الاستبداد بالأحياز أي الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين علاقتهما بالقوتين المغنتيتين عن الحاجة إلى الحماية والرعاية: فالاستبداد والفساد في الأقطار العربية كلها هو أداة المحافظة على الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين الحائلين دون شروط القوتين المادية والروحية.
7-وكلا العائقين أو المانعين يضعانا أمام صفين يعارضان تحقيق الحركتين لأهدافهما. فإذا سميناهما ثورتين فإننا أمام ضديدين للثورة داخلي وخارجي متساندين: فالداخلي يحول بالاستبداد والفساد دون التحرر والخارجي يحول بالاستضعاف والاستتباع دون التحرير.
ضديدا الثورتين
8-والمشكل أن صف الفساد والاستبداد الحاكم في البلاد تجعله يدعي الوطنية فيزعم أنه يدافع عن الدولة الوطنية ضد حركة تخريب-الثورة عنده مؤامرة- لاكتشافه أن شروط تحقيق أهدافها متنافية مع وجوده: لا يمكن القضاء على الاستبداد والفساد مع بقاء الدولة القطرية التي هي تابعة بالجوهر وليست دولة إلا بالاسم لفقدانها شروط السيادة أي الحماية والرعاية الذاتيتين.
9-فوجود الصف الذي تحركت الجماهير ضده للمطالبة بالحرية الكرامة وجوده مرهون ببقاء الجغرافيا والتاريخ الحاليين ويعتبر المس بهما مؤامرة. وصف الهامش التحديثي يتشبث بهذا الموقف ويؤيده بل يريد تعميم ما يجري في سوريا ومصر على أقطار الربيع.
10-وكل حجج ما يسمى بمحور الممانعة تتأسس في هذه الفكرة: حركة الربيع العربي مؤامرة استعمارية هدفها تفتيت المفتت وتشتيت المشتت ولذلك يقاومونها. لكن صف الهامش التأصيلي يقوي حججهم فيحول المعركة إلى بين كاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل.
11-واكتشف الرد على الاستضعاف والاستتباع أن مساندة الثورة المضادة وصف التحديث الكاريكاتوري هي في الحقيقة خدمة لتمدد إيران وإسرائيل بدعوى حماية الخريطة والتاريخ. ومثلها الرد غير المناسب على صف التأصيل الكاريكاتوري.
12-وفي الجملة: فالتحرر من الاستبداد والفساد ممتنع بسبب الابتزاز بالرعاية وبالتحديث الكاريكاتوري. والتحرير من الاستضعاف والاستتباع ممتنع بسبب الابتزار بالحماية والحرب على التأصيل الكاريكاتوري.
13-اكشتفت الحركتان أن الابتزاز بالرعاية مضاعف (المساعدة المشروطة بالحرب على التحديث باسم كاريكاتوره) والابتزاز بالحماية لهما نفس العلاج (الحماية المشروطة بالحرب على التأصيل باسم كاريكاتوره): سعي العدو إلى منع مراجعة الجغرافيا والتاريخ اللذين فرضهما هو وعملاؤه.
منطق إستراتيجيا الإستئناف
14-موضوع الاستراتيجية التي نبحث عنها هو إذن: أولا كيف نجعل هذا الاكتشاف يصبح خطة عمل للتكامل بين الحركتين والتصدي المناسب للكاريكاتورين وثانيا كيف نزيل الموانع ذاتيا (في مواقف النخب) وموضوعيا في استراتيجية الفعل لدى الصفين لئلا تتواصل الحرب الأهلية العربية.
15-من حسن الحظ أن الحركة الثانية التي انطلقت من بلد الحرمين وإن بدون قصد كان عملها -عاصفة الحزم- نصف النصر للحركة التي انطلق من بلدا لقيروان لأنها افقدت الثورة المضادة للربيع العربي أهم سند استقوت به عليه : التمويل والإيمان بصواب الخيار الاستراتيجي للثورة المضادة (خيار قطر وتركيا بات الغالب).
16-ومن حسن الحظ أن ما تحتاج إليه الحركة الثانية للحماية يمكن استمداده من الحركة الأولى وما تحتاجه الحركة الثانية للرعاية يمكن استمداده من الحركة الأولى وهو ما يجعل التكامل بينهما بخطط تنموية ودفاعية مفيدة للصفين خطط يحد من الابتزازين وتفقد الكاريكاتورين حججهما لأنهما صورة مشوهة من المطلوب الحقيقي : التحديث والتأصيل.
17-لكن الأعداء سيحاولون منع مساعدة الحركة الأولى للحركة الثانية في الحماية ومساعدة الحركة الثانية للحركة الأولى في الرعاية منعا للخطط التكاملية في التنمية والدافع للحفاظ على الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين.
النتائج الأولى المحددة للإستراتيجيا
18-وإذن فـمدار المعركة واستراتيجية النصر هو هذا التكامل بين الحركتين في مجالي التنمية والدفاع وهو الوحيد الذي يمكن أن يجعلهما ثورتين تزيلان عوائق الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع وهذا التكامل هو الشرط الضروري والكافي للاستئناف.
19-وإذن فالاستراتيجية تتعلق بعمل طويل النفس ومديد لأن ما يعترضه من عقبات عميق وشديد. لذلك فأولى المعوقات تتعلق بما نتج عن الرعاية في حالة ما بدأ من القيروان وما نتج عن الحماية في حالة ما بدأ من الحرمين: كيف التغلب عليهما؟
20-فتونس مثلا شروط إعالتها وتنميتها مرتبطان بأوروبا في حدود 80 في المائة. والخليج مثلا حمايته ودفاعه مرتبطان بأمريكا ربما في حدود أكبر. فكيف التخلص منهما؟
21-والمعلوم أن الداعي للتخلص ليس رفض التعامل الاقتصادي والدفاعي مع الغرب بل هو التحرر من التبعية. فالترابط ليس تعاون الأنداد بل هو تبعية الاستضعاف والاستتباع بأداة حكم الاستبداد والفساد.
تحديد الأعداء و طبيعتهم
22-وبذلك يتحدد العدو الداخلي. فقسمه الأول هو المستفيدون من التبعيتين: التنموية والدفاعية المزيفتين. والقسم الثاني هو من ذكرنا من الصفين الهامشيين الممثلين للانحطاطين: مليشيات إيران وإسرائيل أعني بقايا الباطنية والصليبية والشيوعية والليبرالية والقومية ومن يدعي معارضتهما بتشويه التحديث والتأصيل.
23-والجمع بين قسمي العدو الداخلي يوظف القسم الثاني لمساندة القسم الأول بإدارة شرطي (إسرائيل) العدو الخارجي ونائب شرطيه (إيران) ومليشياتهما ومن يدعي مقاومتنهما بكاريكاتور التأصيل. أما رئيس الكل فهو الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة.
24-وبذلك فقائمة الأعداء تتألف من رئيس (الولايات المتحدة) مع ذراعين: إيران وإسرائيل مع اصحاب المصلحة في الرعاية والحماية التابعتين مع خمسة عصابات تخريب هي المليشيات الخمسة ومع من يقاومهم بكاريكاتور التأصيل لأنه يقوي حججهم.
شروط بلوغ مرحلة الثورتين الحقيقيتين
25-والسؤال: هل الحركة التي انطلقت من بلد القيروان والحركة التي انطلقت من بلد الحرمين لهما القدرة على التحول إلى ثورتين حقيقيتين لتنتصرا أي هل هما مدركتان لهذا الترابط ولمعطيات الوضعية أم هما فزة محدودة ونار هشيم؟
26-لا يمكن الجواب عن هذا السؤال ما لم تتحقق معجزة مضاعفة: أن نحرر الأنظمة وحركات المقاومة من عداوة بينهما تفشل الجميع فلا تخدم إلا الأعداء. والقصد بحركات المقاومة لا يستثني أحدا منها لأن ما يبدو منحرفا في الأدوات ليس منحرفا في الغايات : الهدف هو الاستئناف والخلاف هو كيف يكون محققا لقيم الإسلام والعقل في آن وقادرا على الاستجابة لحاجات العصر.
طبيعة المقاومة
27-سيعاب علي تعديد المجالات التي تشملها الاستراتيجية في حين أن ما يتبادر إلى الأذهان عند الكلام عليها هو الوجه العسكري من المقاومة. لكن ما يدعوني للكتابة في الموضوع هو هذا الفكر الاختزالي الذي لا يفهم طبيعة المعركة فيتصور المقاومة عملية عسكرية.
28-كان ذلك كذلك في عهد المقاومات التي من جنس ما حدث في حروب التحرير التي جرت في القرنين 19 و20. لكن شروط الصمود التي هي أساس المقاومة تغيرت تماما وكذلك طبيعة المواجهة.
29-نالني الشرف فعشت في شبابي بداية حرب التحرير الجزائرية وساهمت فيها بجمع المعونات كما عشت غاية حرب التحرير التونسية وساهمت فيها بالمظاهرات التلمذية.كانت المقاومة واضحة المرجعية وبسيطة الأدوات: فالمرجعية هي الدين الإسلامي والأدوات كانت بسيطة لأن الحياة نفسها كانت بسيطة والعلة هي عدم الحاجة لخدمات الدولة.
30-أما في الحرب الحالية فمرجعية المقاومة متعددة والحرب الأساسية هي الإسلام والشعب لم يعد متحررا من الحاجة إلى خدمات الدولة. وكل ذلك يولد هشاشة الشعب وعسر الصبر وهو ما يعوق المقاومة للعجز عن حماية الشعب وسد حاجاته.
31-ولاكتف بمثال واحد: ففي حرب التحرير التي عشتها كانت الأسر مكتفية في شروط الحياة الاساسية وغنية عن خدمات الدولة في كل أنحاء الحياة الصحفة والغذائية والتعليمية والبنى الأساسية. اليوم يكفي أن تقطع الأنظمة المستبدة والفاسدة الكهرباء والماء وحتى الهواء باستعمال الأسلحة الكيمياوية حتى تصبح المقاومة في مأزق.
32-والقصد أن الاستبداد والفساد والاستضعاف والاستتباع أصبح لهما من وسائل الضغط والابتزاز ما يجعل كلفة المقاومة على الشعب باهظة: ولنا في سوريا مثال لا يكاد يحتمله أي مقاوم رافة بالأطفال الجوعي في مخيم اليرموك مثلا.
النتائج الثانية المحددة للإستراتيجيا
33-وغاية القول إن الاستراتيجية التي نريد وضعها ينبغي أن تأخذ في الحسبان كل هذه العوامل فتكون استراتيجية مقاومة في كل المجالات للحد من الكلفة أولا ولئلا يتحول الأمر إلى إعادة شعوبنا إلى ما قبل التاريخ لأن أنظمة الاستبداد والفساد والمليشيات الخمسة وذراعي الاستعمار والاستعمار كل هؤالاء لا يردعهم رادع خلقي.
34- والمعلوم أنه لا يمكن لثورة أن تنجح من دون حاضنة شعبية فإذا هجر الشعب أو دمر فإنه لن يستطيع حضن الثورة. وقد يصبح ما للأعداء من وسائل الضغط دافعا للشعب إلى تفضيل حاجته الأساسية على حريته وكرامته.
35-وهذا العامل صحيح في الحالتين اللتين بدأت أولاهما من بلد القيروان والتي بدأت ثانيتهما من بلد الحرمين فيعود الربيع العربي للاستبداد والفساد من أجل العيش ويقبل أهل العاصفة الاستضعاف والاستتباع من أجل الأمن.
36-بل إن الأعداء قد يجعلون كلتا الحركتين راضيتين بالتبعيتين عيشا وأمنا لأن أغنياء العرب ليسوا تابعين أمنيا فحسب بل هو تابعون عيشيا كذلك وفقراءهم ليسوا تابعين عيشيا فحسب بل وكذلك أمنيا بسبب الكاريكاتورين من التحديث والتأصيل.
37-عرضنا جل العقبات والمقومات بصورة نسقية مع بيان علاقات الترابط بينها شرطا في نقض غزل الأعداء وعلينا أن نحدد الاستراتيجية التي تستجيب لكل المحددات ما أمكنت الاستجابة بأقل كلفة حتى تكون عملا على علم.
عائقا بلوغ الحركتين مرحلة الثورة
38-وحتى أكون صريحا فمشكل المشاكل يتمثل في مفارقتين عجيبيتين قد تجعل الحركتين تنكصان فلا تحصل ثورة حقيقية طمعا في حكم مهما كان تابعا؟
39-المفارقة العجيبة الأولى: فحكم أغنياء العرب الفاسد والمستبد بحاجة لحماية أجنبية. المفارقة الثانية: وحكم فقرائهم بحاجة لرعاية أجنبية. وهذان المفارقتان تبينان أن الاستبداد والفساد هو مكافأة الاستعمار للحكام حتى يكونوا خدما طيعين.
40-وإذن فالمعادل تتمثل في أن الاستعمار يستغل ثروات العرب وأرضهم يجبرهم على دفع يدفعون أجر عملائه الذين يحققون له مصالحه. الاستبداد والفساد عندنا ليسا عاديين كالاحتكاك في الميكانيكا بل هما أجر العملاء : المثال صالح وكيف يمتص دم أفقر شعب عربي اليمن.
41-فالرعاية التي يقدم منها الاستعمار الفتات لفقراء العرب لا تساعد تنمية الشعوب بل تسكتهم لئلا يتفطنوا لشروط الرعاية المستقلة. والحماية التي يقم منها الاستعمار الفتات لأغنياء العرب لا تساعد حماية الشعوب بل تسكتهم لئلا يتفطنوا لشروط الحماية المستقلة.
42-وإذن فالحماية والرعاية الأجنبيتين لا تحققان ما تدعيانه بل هما أداتا ابتزاز للشعوب حتى تسكت وللعملاء من النخب والحكام حتى يحموا الفساد ويسكتوا المتكلم بالاستبداد.
43-فيتبين أن الاستبداد والفساد الذي تعاني منه الامة ليسا محليين فسحب بل هما دوليان: شبكة مافياوية دولية مستبدة وفاسدة تستغل بلادنا وتحميه بالاستبداد الداخلي والخارجي وتصنع لنا كاريكاتورين من التحديث والتأصيل لتغذية الحرب الأهلية.
حل تجاوز العائق الأول
44-الظاهرة عامة في بلادنا بجميع أقطارها. والاستراتيجية تبدأ بحل هذه المفارقة الأولى: كيف نثور فعليا إذا لم نبدأ فنتخلص من الحماية ( التي هي في الحقيقة لحماية استبداد الحكام وفسادهم) والرعاية ( التي هي في الحقيقة لرعاية استسلام الشعوب ورضاه بالدون)؟
45-لكن الأمل الذي يجعلني متفائلا علته ظرف لكأنه قضاء وقدر أو مكر إلهي يساعد على الاستئناف: فالحامي يريد أن ينوب بديلا منه للفراغ لمنافسين جدد ينافسونه على زعامة العالم والراعي بات عاجزا بسبب هؤلاء المنافسين الجدد الذين يهددون استفراده بالرفاهية.
46-فالغرب عامة وأمريكا خاصة يعتبرون الخطر الداهم من الأقطاب الجديدة لن يسمح لهم إلا بالتنويب في الإقليم حتى يفرغوا لمعركة أخطر. لذلك فهم يطلقون يد إيران وإسرائيل لأداء وظيفة الشرطي ونائبه.
47-وهنا نجد حيوية معارك لم تحسم وعادت لتحسم لأن حسمها بات شرط الاستئناف: معركة الفتنة الكبرى (مع إيران : التشييع) ومعركة الفتنة الصغرى (مع إسرائيل : العلمنة) وهما معركتان يمكن أن توحدا الأنظمة لخوف أصحابها على كراسيهم وشعب السنة لخوفه على عقائده.
48-وهذا المكر الإلهي يمكن أن يجعل الظرف مناسبا لبروز نخب تريد أن تستفيد من هذه الظرفية لبناء عقد جديد بين الشعب والنخب الحاكمة يحقق لقاء الحركتين : الحركة التي انطلقت من بلد القيروان والحركة التي انطلقت من بلد الحرمين.
49-فيكون لقاؤهما ثوريا بمعنى يجعل هدفه تحقيق شروط الاستئناف بتحقيق ما يدعي الكاريكاتوران السعي إليه كذبا أعني التحديث والتأصيل: سنة العرب تسعى للتحرر من الاستبداد والفساد وللتحرير من الاستضعاف والاستتباع. وذلك هو معنى الاستئناف.
حل تجاوز العائق الثاني
50-وصلت الآن إلى ما قد لا يقبله أصحاب الحركتين. فالشرط في الحالتين عسير وهو معنى الثورة: فهل يقبل اصحاب الحركة التي انطلقت من بلد القيروان التخلص ما يمكن العدو من ابتزازهم أي من تسول الرعاية والاعتماد على النفس والعيش بالإمكانات الذاتية؟
51-وهل يقبل أصحاب الحركة التي انطلقت من بلد الحرمين التخلص مما يمكن العدو من ابتزازها أي من تسول الحماية والاعتماد على النفس والاحتماء بالقدرات الذاتية؟
52-التحرر من تسول الرعاية هو شرط التحرر من الابتزاز. وشرطه التحرر من تربية فاسدة يرشي بها حكم مستبد وفاسد شعوبنا: الاستهلاكية المستعارة أو العيش بالعارية وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الذات في سد الحاجات.
53-والتحرر من تسول الحماية هو شرط التحرر من الابتزاز.وشرطه التحرر من تربية فاسدة يرشي بها حكم مستبد شعوبنا الباذخة والمنحلة: الأمن المستعار أو الاحتماء بمرتزقة أجانب بدل الاعتماد على أبناء الشعب في حماية البلد.
54-والـجامع بين التسولين تسول فقراء العرب (الإعالة المستعارة) وتسول أغنيائهم (الحماية المستعارة) هو التعبية التي يغذيها حكم مستبد وفاسد يرشي شعوبا صارت عالة رعاية وحماية وهي من ثم مسؤولة أكثر من الحكام.
الإسترتيجيا و استعادة معاني الإنسانية
55-وصيرورة الشعوب عالة يسميها ابن خلدون “فقدان معاني الإنسانية”.الاستراتيجية التي أطلبها تجيب عن السؤال التالي: كيف نسترد هذه المعاني فلا نبقى عالة في الرعاية والحماية لأن ذلك هو الدليل على أننا نرضى بالعبودية ونتنازل عن السيادة؟
56-والجواب هو: لا يمكن أن نستردها من دون شروط الاستئناف التي تجعلنا قادرين على الرعاية والحماية بالقدرتين المادية والرمزية الذاتيتين. والحمد لله فإن الظرف يفرض ذلك: تخلى الحامي والراعي لأنه هو بدوره صار مهددا ووجد بديلين يريدان أخذ كل شيء فلم يبقوا للحكام ولا للشعب مفر.
57-وبالمثل التونسي”وقفت الزنقة بالهارب” لم يفهم العرب بالغمز حتى جاءهم الهمز: أمريكا تخلت عن حماية أغنياء العرب وحكامهم وتركتهم لقمة سائعة لإيران وإسرائيل وأوروبا تنصلت من رعاية فقراء العرب والعملاء وتركتهم يتقاتلون.
58-لعل العرب أغنياءهم وفقراءهم قد اقتنعوا بهذه الحقائق. ونأمل أن تكون قناعتهم طويلة النفس: إن لم تتكامل سنة العرب في الحماية والرعاية فلن يمنع شيء إيران وإسرائيل من ابتلاع الإقليم.
59-أعلم أن النخب يطربهم نقد الحكام. ويغضبهم نقد الشعوب. لكن كيف لحكام فسدة ومستبدون أن يحكموا قرونا من دون شعوب قابلة ؟ فكيفما تكونون يولى عليكم.
60-إذا كنا جادين في طلب استراتيجية الاستئناف فينبغي أن نعترف بأن النخب الخمسة (الحكام والمربون والمثقفون والاقتصاديون والفكر الجذري دينيا وفلسفيا) روضت الشعوب على “فقدان معاني الإنسانية” بلغة ابن خلدون.
61-فنخب الحكم لا تسيطر من دون نخب التربية التي تربي الشعوب على فقدان معنى الحرية. ونخب الاقتصاد لا تسيطر من دون نخب الثقافة التي تعود الشعوب على فقدان معنى الكرامة. وجميعها تجد تأسيسا في نخب الفكر الديني والفلسفي المنحرفة باسم تأصيل وتحديث كاريكاتورين.
62-لذلك كان شعار الثورة الأسمى متعلقا بالفكرة التي بها أسس الفكر الديني والفلسفي الانحطاط: تحريف مفهوم القضاء والقدر بإلغاء دور الإنسان في التاريخ.
63-بيتا الشابي تمثلان صوغا شعريا لسنة التغيير القرآنية وهو صوغ يعبر عن ثورة روحية حررت وعي الأمة من تحريف الانحطاط لفمهوم القضاء والقدر: بفقه الانحطاط وتصوفه.
64-فخونة الثورة في مصر هم مؤيدو الانحطاطين الذاتي والمستورد.فقهاء الشرع والوضع أوالنخب الدينية والعلمانية المستفيدة من الاستبداد والفساد
65-لكن حركات التأصيل والتحديث المؤمنة بالقيم الكونية التي يتطابق فيها النقل والعقل يؤمنون بضرورة التحررمن التسولين بالاعتماد على الذات.
الإستراتيجيا و وظائف الدولة
66-لكن ذلك يعني أن الاستراتيجية ستتعلق بكل وظائف الدولة القادرة على الحماية والرعاية الذاتيتين بمنطق العصر أي بالحجم المناسب لعودة البشرية إلى قانون التاريخ الطبيعي في العولمة.
67-ولا يعني ذلك أن دولة الإسلام المطلوبة لحماية الأمة ورعايتها ينبغي أن تكون خاضعة لمنطق العصر بل هي ينبغي أن تفهم منطقه لتغييره حتى يطابق قيم القرآن: آية النساء الأولى منطلقا وآيات الحجرات الثالثة عشرة معيارا لمعاملة البشر وآية النساء 57 لإدارة شؤونهم بالأمانة والعدل.
68-وحينئذ لم يبق داع للفصام بين الحركات والأنظمة: غاية التحرر من الاستبداد والفساد وأسلوبه هما تحقيق شروط حكم الشعب بما يرضاه ويختاره (الشورى 38) وغاية التحرير من الاستضعاف والاستتباع هما تحقيق شروطهما (الأنفال 60).
69-وكل حركة مقاومة تسعى للخلافة أو نظام يدعي تجاوز القطرية دون إلغائها ينبغي أن يجدا في هذه الخطة ما يحقق المصالحة فيحرر الأمة من الحرب الأهلية لتفرغ إلى مقاومة الأعداء وتحقيق شروط الاستئناف.
70-وقد لا يؤدي هذا إلى إلغاء حركات من جنس داعش والقاعدة لكنه سيزيل الدوافع العميقة التي تجعلها تجد إقبالا عليها لأن ما تدعي السعي إليه-وهو شرعي إن كان صادقا وليس كاريكاتورا من ذاته-هو عين ما تسعى إليه هذه الاستراتيجية التي تعالج الأمر بمنطق العصر.
71-والمعلوم أن الشباب الذي تجذبه هذه الحركات الفاقدة للاسترايتيجية التي تحقق الأهداف بمنطق العصر أغلبهم يمكن أن يمثلوا البنية البطولية التي يحتاجها الاستئناف إذا وجدوا المشروع الملائم للعصر: هم أشبه بالذين نقلهم الاسلام من جاهلية العرب إلى بناة حضارته.
72-فأبطال جاهلية العرب لم يكونوا قوة خير في الجاهلية مثلما أن نكوص الانحطاطين حال دون هؤلاء الشباب و إبراز ما بوسعهم لخدمة الإسلام والبشرية الطرق التي تقرها أخلاق الإسلام: فكما مكن الإسلام أبطال الجاهلية من بناء دولة الإسلام فهؤلاء يمثلون دعامة الاستئناف.
73-لكن الكثير من المطالب الشرعية تستعمل بمنطق الحقيقة التي يراد بها الباطل وهو ما يمكن أن يغرر بالكثير من الشباب المؤمن. لذلك فهذه الاستراتيجية ستمكن من الفرز الحقيقي بين من يسعى لتحقيق شروط عزة الأمة ومن يسعى لتكوين إمارة.
74- وهؤلاء لا يختلفون عن بشار والسيسي وحفتر وكل أمراء الحرب التي بسببهم تخلفت الأمة منذ انفراط عقد الأحياز وانقسام الخلافة إلى سلطانات وإمارات ومشيخات وملكيات وكلها ثمرة انقلابات عسكرية أو قبلية أو صراعات بدائية.
طبيعة إستراتيجيا تحقيق الإستئناف
75-بعد أن حددنا شروط تحقيقها وعقباته نكتفي بالقول إن الاستراتيجيا لعلاجها الشامل ليست استراتيجية عسكرية بل استراتيجية سياسية تعالج أبعاد الفعل (من منطلق غاياتنا وخططنا) وأبعاد رد الفعل (من منطلق العلم بغايات الأعداء وخططهم).
76-وقد خصصنا لها دراسات نظرية معمقة-لا يمكن عرضها تغريديا- تمكن من استعادة شروط الاستئناف لا تقتصر على البعد السعكري بل تتعداه إلى أبعادها النفسية والمادية. والعسكري منها كان دراسات مطبقة على حرب الخليج الأخيرة والمقاومة الفلسطينية والربيع العربي.
77-لكن الأهم من ذلك كله هو ما ينقص الفعل العربي من فاعلية رمزية توسع دائرته بدور الخيال المبدع. لذلك خصصنا دراسات للفاعلية الرمزية الشارطة للفاعلية السياسية والعسكرية فكتبنا في دور الملاحم وعلاقتها بالتاريخ وبالإبداع الأدبي شرطين لإحياء جذوة الطموح التاريخي للأمم العظيمة.
78-وإذا كان حديث الماضي المغذي لحدثه ما يزال محركا للشباب لما يضفيه عليهما القرآن والسنة من قدسية لا يدعي الإبداع الأدبي تعويضها فإن هذا الابداع يشبه سقي الزرع الدائم المتحرر مما يمكن أن يصيب التراث الروحي من تخريف (فقه الانحطاط وتصوفه (في دين مشاعره فرض عين وليست مجرد فرجة على الكهنوت).
79-وإذا كان حديث المستقبل المخطط لحدثه ما يزال محكوما بمثال العصر الراشدي الذي يضفي عليه في آن مطلبي التحرر من الاستبداد والفساد ومطلبي التحرير من الاستضعاف والاستتباع الاستئناف قد تحقق في الأذهان.
80-وبذلك فإن الحديثين والحدثين الماضيين والمستقبليين في لحظتنا الراهنة هما جوهر الفعل الثوري الذي يضطرم به حاضرنا والذي يخافه الأعداء فيحاربونه ما يعني أنهم مصدقون لجدية الشباب والاستئناف.
81-ولبيان ذلك كله أخصص هذه المحاولة في تحديد طبيعة المعركة التي هذا وصفها الدقيق: معركة على الحديثين والحدثين الماضيين والمستقبليين في حاضر يعتمل لاسترداد الشروط التي تحرر الأمة من الاستبداد والفساد ومن الاستضعاف والاستتباع: عودة المسلمين لدورهم التاريخي الكوني لتعديل أوضاع العالم والبشرية.
طبيعة المعركة ورهاناتها – الجزء الخامس – أبو يعرب المرزوقي