المعيقات الحائلة دون وحدة الأحياز الخمسة
1-نستأنف الكلام بعد الجزئين السابقين في تحديد طبيعة المعركة لنحدد المعيقات الحائلة دون وحدة الأحياز الخمسة-المكان وثمرته والزمان وثمرته وأصلها جميعا أي الحصانة الروحية- الأحياز التي لم يبق لنا منها إلا أصلها الروحي الذي هو مدار الحرب.
المعيقات الحائلة دون الحيز الأول : وحدة المكان
2-وانفراط وحدة المكان تمثله الحدود الحديدية التي فرضها الاستعمار أولا والدول القطرية التي يستتبعها ثانيا ليحول دونها والتواصل والتعاون بل إن حدودها تحولت إلى مصدر للتنازع وأحيانا للتقاتل.
3-والعجيب أن هذه الحدود صارت أكثر منعا للتواصل والتعاون بعد ما يسمى بالاستقلال مما كانت قبله لأن الاستعمار زرع بين الأقطار من الألغام ما لا يتناهى وهو لا يتوقف عن تفجيرها كلما شعر بأن التقارب بينها يمكن أن يتجاوز المسموح به من منظوره.
المعيقات الحائلة دون الحيز الثاني : ثمرة وحدة المكان
4-لكن الحائل الأكبر هو التبعية ببعديها المادي والرمزي أو الاقتصادي والثقافي مع الحماية والرعاية التي يكون القطر بحاجة إليهما لعجزه دونهما ولأنه يفضل العدو والمستعمر على جاره الذي هو أخوه في الدين والثقافة وشريكه في المصالح العليا للأمة.
5-فيصبح كل قطر أقرب إلى مستعمره اقتصاديا وثقافيا منه إلى أجواره من أمته مع ما يترتب على ذلك من تبعية سياسية وأمنية تجعله قاعدة للتخريب. لذلك ترى ما بين الأقطار من حدود مصدر كل النزاعات المحوجة للقواعد الأجنبية.
المعيقات الحائلة دون الحيز الرابع : ثمرة وحدة الزمان
6-وحتى يصبح لهذه الدول القطرية شرعية فإنها تختلق لنفسها تاريخا يركز على ما يفرق بدل ما يوحد فتبحث عنه في خمسة مصادر كلها توطد القطرية وتسعى من ثم لتهديم مقومات الوحدة (بما في ذلك اللغة والدين).
المعيقات الحائلة دون الحيز الثالث : وحدة الزمان
7-المصدران التاريخيان أولهما هو ماقبل دولة الإسلام الواحدة وثانيهما هو ما بعدها. والمصدران العنصريان أولهما العرق وثانيهما القبيلة. والأصل هو مصالح المافيات المستبدة بالأقطار وهي في آن روابط تبعية لمصلحة النظام ونخبه بالمتبوع الاستعماري.
8-فالبداية هي الأصل -أي مصالح المافيات المستبدة بالأقطار العربية والإسلامية-تليها حزازات تاريخ الأمة (الفتنة الكبرى وتنافس القبائل) ثم الخروج من تاريخ الإسلام قبله (تاريخ الأقطار المتقدم على دولة الإسلام الواحدة) وبعده (تاريخها بعد سقوط دولة الإسلام). وكل ذلك لتمزيق تاريخ الأمة من أجل تشريع تمزيق جغرافيتها وتأسيس شرعية الأقطار.
المعيقات الحائلة دون الحيز الخامس : الحصانة الروحية
9-والحصيلة هي أن وحدة الأمة انحصرت في وحدة إسلامها الأغلبي: وحدة السنة العقدية بالفعل والسياسية بالقوة. لذلك فالحرب تركز اليوم على السنة باستعمال الطائفيات التي تمثل أقليات سهلة الاستتباع بدعوى حمايتها فتتحول إلى طابور خامس مع الأقليات الأخرى الدينية أو العرقية.
10-وما كان الاستعمار ليحارب الإسلام الأغلبي لو كان مجرد عقيدة تعبدية غير مشروطة بشروط تعاملية لا يمكن تصورها من دون دولة. هو يحاربه لأنه يريد أن يستأنف دوره بمفهوم للدين يشترط وحدة بقية الأحياز (المكان والزمان وثمرتيهما المادية والروحية) بعناية دولة تحميها وترعاها.
العلاقة بين العبادات و المعاملات
11-ذلك أن الدين الإسلامي لا يقتصر على العبادات بل إن المعاملات لها نفس الوزن وهي جوهر السياسيات المشروطة بدولة واحدة أو مجموعة دول متحدة. ومن ثم فلا معنى للإسلام من دون دولة كونية مثل كونية الدين نفسه وبقيمه.
12-ما يزعج الاستعمار وعملاءه ليس العبادات خاصة إذا كانت بفهم فقهاء الانحطاط ومتصوفيه بل ما يترتب عليها بفهمها الذي يراها مع شروطها. فهي مشروطة بالمعاملات والمؤسسات التي تحقق شروط إمكانها وخاصة بالانتاجين المادي والرمزي وقوتيهما.
13-وأكبر الأدلة على ذلك يتمثل في أن كل فروض العبادة الخمسة مشروطة بعاملي القوة المادية والروحية. وهي كلها فروض عين وليست فروض كفاية. ولنبدأ بـالحج فعبارة “لمن استطاع إليه سبيلا” ليست للاعتذار عن عدم الاستطاعة بل هي للحض على تحقيقها. وإذن فتحقيق عبادة الحج مشروط بانتاج الثروة والصحة شرطي الاستطاعة.
14-والزكاة مشروطة بالنصاب. والنصاب يعني أن يكون الإنسان متحررا من الحاجة لمدة سنة على الأقل حتى يؤدي هذا الفرض. وإذن فمن العبادة أن يحقق شرطها إذا كان بحق مؤمنا صادق الإيمان بضرورة أداء الزكاة فضلا عن الصدقة.
15-والصيام يشترط الصحة للقدرة عليه إذ لا يصوم المريض والجائع الأبديين. وهذا يتطلب أمرين: الغذاء المحافظ على الصحة والدواء المعالج للمرض. ومن ثم فالفرد والأمة لا يمكنها أن تقوم بهذا الفرض إلا بهذين الشرطين. وهما مكلفان جدا.
16-والصلاة التي هي تاج العبادات هل يمكن تصورها من دون النظافة؟ من دون نظافة البدن ونظافة البيئة؟ وإذن فهذا يعني بنية مدنية تحقق هذا الشرط في كل مكان. وكلفة هذا الشرط العامة والخاصة لا تقدر.
17-ويبقى الفرض الأول الذي يدخل الإنسان الإسلام بتحقيقه ويخرج بالتخلي عنه أعني الشهادة: وهي تفترض الالتزام بالفرائض الأربعة الأخرى أداءها بشروطها. وأكثر من ذلك كله: فالجهاد والاجتهاد كلاهما يكون بتمويل المؤمنين. وقد كان ذلك مباشرة وهو الآن بتوسط الجباية التي تدفع للدولة. فمن لا يسهم فيها مقصر في واجباته الدنيوية والدينية.
18-فتكون كل الفروض الخمسة مشروطة بالقدرتين المادية والرمزية أي بالاقتصاد شرط الحرية المادية وبالثقافة شرط الحرية الروحية وهما غير ممكنين من دون نظام سياسي يوفر مناخ الإنتاجين المحررين من العبودية لغير الله: أي التعليم والتربية وكل الابداعات التقنية والذوقية.
التلازم بين الدين و الدولة
19- ومعنى التلازم بين الدين والدولة في الإسلام سره في التلازم بين صدق الإيمان وشروط التحرر من الحاجة العضوية والنفسية: لا بد من دولة تمكن من تحقيق شروط القيام واستعمار الإنسان في الأرض أي القوتين المادية والرمزية ليكون جديرا بالخلافة.
20-فعلامة أهلية الاستخلاف هي تحقيق الفرائض بشروطها وشرط شروطها هو الدولة العادلة التي تحقق حماية ورعاية تحرر المؤمن من الخوف من غير الله فتجعله لا معبود له إلا الله .
21-وعدم فهم هذه العلاقة بين العبادات والمعاملات التي هي جوهر السياسيات لأنها مشروطة بالدولة التي ينتظم بها أمر التعاون والتبادل والتعاوض العالد والعمل المنتج والمبدع عدم الفهم هذا هو سرالانحطاط الذاتي للحضارة الإسلامية وسببه قصور فقهي وصوفي كما نبين.
22-فأما القصور الصوفي فيمكن تحديده ببيان سوء فهمهم للفقر إلى الله: لو كان الفقر المادي مطلوبا وكان قيمة دينية -أي إهمال الشأن الدنيوي-لما كانت العبادات مشروطة بما أسلفنا. إنما الفقر المطلوب هو الوعي بالحاجة إلى الله رغم عدم الفقر المادي. فذلك شرط صدق الإخلاص الإيماني.
23-والأهم أن الفقير المادي تلهيه الحاجة عن العبادة وهي تكون فـي الغالب عبادة تعويضية لا عبادة إيجابية إذ يقدم الفقير عليها التبعية للأغنياء والدجالين من الوسطاء. وتلك هي عبودية الفقر التي تؤدي إلى الذل والتبعية وخاصة الاستسلام للاستبداد والفساد.
24-العبادة الصادقة هي التي يدرك صاحبها ألا شيء يغني عن الحاجة إلى الله لأنه يكون قد تحرر من الحاجة المادية وأدرك حقيقة الحاجة الروحية. وإذن فالفروض مشروطة بالتحرر من الحاجة وممن بيده سدها ولا يكون ذلك إلا ثمرة العمل المغنية عنهما.
25-فالتصوف فهم خاطئ لمفهوم الفقر الديني إذ هو يخلطه بالفقر المادي الذي ينافيه في الحقيقة: إنه لا يقرب من الله بل يبعد لأن إلحاج الحاجة نسيان لما يتعالى عليها. ذلك أنه يؤدي إلى العبودية للحاجة ولمن بيده سدها. فالإيمان المتحرر من الحاجة المادية هو العبادة الحقة.
26-ومثل المتصوفة كان موقف فقهاء الانحطاط: ولست أدري كيف لم يفهموا أن فروض العين من دون شروطها تصبح فروض كفاية لمن يستطيعون إليها سبيلا لم يفهموا ذلك من دون وجوب علاقة التلازم بين المعاملات المحررة من الحاجة والعبادات الصادقة؟ ذلك أن الحج والزكاة والصيام والصلاة كلها مشروط بحد محترم من الثروة المحررة من هموم الحاجة بحيث إن الشهادة تعد التزاما بفروض العبادة بشروط المعاملة.
علاقة بين الدين و الدنيا
27-وهذه العلاقة عرفتها في إحدى ندوات الحج لما شرفت بالكلام في مسائل الدين مبينا أن فهم فقه الانحطاط والتصوف المقلوب للعلاقة بين الدين والدنيا. فالمعاملات هي أدوات العبادات ولعبادات هي غايات المعاملات. ودولة الإسلام هي أداة دينه ودينه هو غاية دولته.
28-الدولة التي هي أداة الدين والدين الذي هو غايتها ويجمعهما مفهوم واحد هو مفهوم الدنيا مطية الآخرة. لكن المتصوفة وفقاء الانحطاط يريدون للأمة بغباء أدنى المطايا لأثمن العطايا. وبذلك فإنهم قد جعلوا الدين أفيون الشعب بدل من كونه حقيقة تنويرا وتحريرا.
29-وسر موقف المتصوفة والفقهاء هذا لم يكن لجهل معرفي فحسب بل هو كان لعلة نفعية لأنه يُرد إلى السعي لإعادة الكنسية إلى الإسلام فيعطيهم دور الوسطاء: فالجهل (تحريف الاجتهاد) والفقر (تحريف الجهاد) يؤسسات للكنسية ومن ثم لوساطة فقهاء السلطان ومتصوفة البهتان.
30-وليست الدولة في الإسلام إلا أداة الدين وليس الدين فيه إلا غايتها. وهي لا تكون قادرة على تحقيق استعمار الإنسان في الأرض من دون أن تكون قادرة على حماية هذه الشروط ورعايتها. ولولاها لاستغنى المسلمون عن الدولة.
31-ومجرد فهم شروط الحماية والرعاية يثبت صحة العلاقة بين المعاملات التي هي جوهر السياسيات الصالحة والدولة العادلة بينها وبين الأخلاقيات التي هي جوهر العبادات الصادقة والدين القيم.
32-فالرعاية مشروطة بثمرات الاجتهاد (العلوم النظرية والعملية وتطبيقاتها) والحماية مشروطة بثمرات الجهاد (مؤسسات الحماية الداخلية وأدوات الحماية الخارجية).
33-وسوء فهم العلاقة بين العبادات والمعاملات هذا هو الذي أنتج توقف الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) والتخلي عن الاجتهاد (العلم) والجهاد (العمل) وأسس ذلك كله على تحريف مفهوم القضاء والقدر.
34-فاستبدلت الأمة بالعزيمة والتوكل الهزيمة والتواكل وأصبحت أضعف خلق الله بين الأمم إذ هي فقدت العزة والحرية والكرامة لأن فقهاء التخلف ومتصوفيه قلبوا القيم فاستبدلوا بشروط الإيمان الصادق شروط توسطهم المنافق.
35-تلك هي العقبات التي حالت دون الأمة والاستئناف وخاصة بعد أن زادها الانحطاط المستورد والموروث عن الاستعمار قدرة على الإعاقة فائقة على تفتيت المكان علة لفقدان القوة المادية وتشتيت الزمان علة لفقدان القوة الرمزية مع قلب القيم: فكر نخب الدول القومية والقطرية خاصة.
الثورة و الإصلاح
36-لكن الثورة بدأت بالتحرر من قلب القيم الفقهي الصوفي قلبها الذي أسس للكنسية والوساطة أي لما أنتج الانحطاط الذاتي وشجع الانحطاط المستورد: فبيتا الشابي شعارا للثورة تعني أن سنة التغيير القرآنية هي الشعار: إذا الشعب يوما أراد الحياة.
37-إرادة الحياة هي تغيير ما بالنفس الذي يشترطه جل وعلا ليغير ما بالقوم. وهذه الإرادة هي جوهر إصلاح السياسة والدولة لتطابق الحق والإيمان. فيكون الشابي قد صاغ شعريا آية قرآنية جعلتها الثورة شعارها الأسم وإن بشكل شعري.
38-لذلك فالحرب على الإسلام لم تعد أمرا مبهما لكأنها حرب دينية بالمعنى القروسطي بل هي أصبحت حربا على قيمه المحددة لصلاح الدنيا التي ينبغي أن تكون مطية كريمة للآخرة. لذلك كانت العبادة مشروطة بفروض المعاملة: لكأن الله يقول لنا إن الدين القيم هو تحقيق شروط الاستخلاف الحر والكريم.
39-تلك هي خاصية الإسلام المميزة بالقياس إلى غيره من الأديان الخاصية التي يحاربها أعداؤه بدعوى تفضيل جاهلية العلمانية والليبرالية وتوحشهما المطبق لقانون التاريخ الطبيعي للإنسان الذي يستتبع ناطقيته لحيوانيته: الإسلام ليس فصاميا فيجعل الدنيا لقيصر والآخرة لله بل الدنيا مستعمرة الإنسان الذي كرمه الله فاستخلفه.
40-وكرامة المؤمن وحريته لا تقاس إلا بتحرره من الحاجة-بخلاف مغالطات تصوف الانحطاط وفقهه- ليكون المؤمن مخلصا لله غير مخلد إلى الأرض بسبب الحاجة ومتحررا من أرباب الأرض والوسطاء بفضل عدل دولة الإسلام وضمانها حرية المؤمنين: لذلك كانت الآية 38 من الشورى تبدأ بالعبادة وتتوسط بالشورى وتنتهي بالإنفاق مما رزقهم الله بالعلم طبعا.
التحرر من الإستبداد و الفساد و التحرير من الإستضعاف و الإستتباع
41-وبذلك نكون قد وصلنا إلى المسألتين الباقيتين في محاولتنا تحديد طبيعة معركة الثورة أي ما بدأ في بلد القيروان لإصلاح علاقات الداخل ومعاملاته بالتحرر من الاستبداد والفساد وما بدأ في بلد الحرمين لإصلاح علاقات الخارج ومعاملاته.
التحرر من الإستبداد و الفساد
42-المسألة الأولى هي : تحديد الغاية من الثورة أعني دولة المسلمين الواحدة التي تقود الأمة وتوحد مكانها لتحقيق قوتها المادية وزمانها لتحقيق قوتها الروحاية فتكون بذلك قادرة على تحقيق شروط الحماية والرعاية بمتطلبات العصر.
التحرير من الإستضعاف و الإستتباع
43-المسألة الثانية هي: ما الاستراتيجية التي تحقق هذا الهدف بأقل كلفة في آجال قابلة للتحديد مع ترتيب المطالب لتحقيقها بمنطق الشرط قبل المشروط والعقبات بنفس المنطق لإزالتها وبيان طرق تذليلها الأنجع؟
طبيعة المعركة ورهاناتها – الجزء الثالث – أبو يعرب المرزوقي