لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله طبيعة القرآن
أواصل الكلام في طبيعة القرآن ومسألة العلاقة بين الإبداعين الفني والعلمي واعتباري الأول محددا للغايات والثاني للأدوات: ما دورهما الحقيقي فيه؟
لا يبرز الدور في القرآن ما لم نصلهما بالذوق والمعرفة. فالذوق كما سبق أن بينت له مستويان طبيعي هو قيام البدن والروح شرطا لقيام الفرد والجماعة.
ومستوى رمزي يتعالى على المستوى الأول لينقله من حدثه إلى حديثه أو من عيشه الطبيعي بالأفعال إلى عيشه الثقافي برموزه الإبداعية في الأقوال.
رموزه الإبداعية في الأقوال تكون فنا إذا كانت تعبير عما يصاحبهما من وعي بقيمهما الجمالية موجبة كانت أو سالبة وتكون علما إذا كانت من أدواتها.
والمستوى الأول يرمز إليه فن المائدة كناية عن الغذاء وفن السرير كناية عن الجنس.
والمستوى الثاني يرمز إليه كل ما يتعلق بهما من أحكام ذوقية وصحية.
ولا أنسى ما يتعلق بهما من أحكام خلقية قانونية واجتماعية اقتصادية.
وقد درست ذلك كله في محاولات سابقة.
وهذه الاحكام بأصنافها من موضوعات القرآن.
ومما أعجب له هو موقف الفقهاء الناكص عن الإبداع الفني والعلمي الخاص بفني المائدة والسرير والاقتصار على الأحكام الفقهية (القانون والأخلاق).
أليست المائدة والسرير فيهما المحمود والمذموم فلماذا نريد للقانون والاخلاق أن يتكلما فيهما ونمنع كلام الفن فيهما والقرآن يحتوي عليهما معا؟
فكلام القرآن عليهما ليس خلقيا وقانونيا(الفقه) فحسب بل وكذلك فنيا سواء تعلق الأمر بهما في الدنيا أو في الآخرة فلم صار كلام الأدب فيهما عيبا؟
وبصورة أدق لماذا لا يكون الكلام فيهما بالأسلوب الأدبي الراقي جزءا من التربية الروحية للإنسان وهما من أهم مقومات الوجود السوي وغير السوي.
والفرق شاسع بين كلام الفن في الجنس وكلام البورنوغرافية التي هي عدوان على الأدب قبل الدين. ثقافة المنع ليست قرآنية بل هي من عادات الجاهلية.
والنتيجة أن الفقهاء والعادات الجاهلية منعت الإبداع الخيالي في الأدب وهو من حديث النفس الذي لا يعاقب عليه الشرع سكتوا عن الموبقات الحكام.
والأمر على ما هو عليف. فما دخل حكام العرب وطبالوهم إلا وحولوه إلى وكر فجور وحكام من يسمونهم كفارا أكثر منهم عفة واحتراما للذوق والأدب.
نفاق العفاف ودعوى ستر الأقوياء أخلاقا فقضوا على أساس الأخلاق ونموها في الإبداع الأدبي السامي مطهر النفوس ومهذب ذوق الجمال وحب الحلال.
فمنع التطهير النفسي والتعميق الذوقي يقتل الأخلاق لأنه لا يكتفي بكبت الواقع يضيف إليه التضييق على التصعيد الجمالي الذي يهذب الذوق والروح.
فاستبداد الوسطاء الجاهلين بأعماق النفوس تحولوا إلى شرطة أخلاق الجاهلية في الظاهر ويخدمون افسق خلق الله في الباطن. مكتفين بـ”استتروا”.
وما يؤلمني ويزعجني هو أنهم باسم دين حرفوه أزالوا منه أهم ثوراته الروحية أعني منزلة الجسد والجنس والحياة العاطفية في الوجود في التعبير عنه.
فالدين الذي كان أعداؤه يتهمونه بالوعي بملاذ الحياة التي الحرمان منه هو الذي يعلل الفجور. فالجوع ليس غذائيا فحسب بل هو بالأساس روحي جنسي.
فالنفس إذا لم يهذبها الفن فقدت ذوق الجمال وإذا لم يهذبها الدين فقدت ذوق الجلال فصار المسلم يكتفي بستر عيوبه بدل عرضها على محك صدق التعبير.
ولما صارت أخلاق الانحطاط والتخلف مثل أخلاق الاستبداد والفساد ذات ستر فقهي باتت الأمة ممثلة لأرذل أخلاق في العالم لـ”فساد معاني الإنسانية”.
فصار العالم كله وخاصة توابعه من النخب العربية يتوهمون أن ذلك من ثقافة الإسلام وليس من فساد النخب المستبدة بأمر المسلمين والمفسدين لواقعهم.
فكتب هيجل في غاية فصله عن الإسلام من الباب الرابع من التاريخ واصفا أخلاق الحكام المستبدين وصفا ابن مطابق لـ”فساد معاني الإنسانية” الخلدوني.
وقد أطلت في هذا الوجه لأنه هو ما يتحرج الناس من الكلام فيه خوفا من الفقهاء خاصة من أخلاق أفسدت “وإذا عصيتم فاستتروا” لأنها قيلت في عدم فشوه.
فلا أكاد أصدق أن النخب المتنفذة فيها من يمكن أن نقول عنه “إذا عصيت” بل المفروض أن نقول إذا صادف فلم تعص فرجاء لا تستتر: إلى متى ننافق؟
أبحث بصدق دون أن أخشى لومة لائم في قول ما أعتقد أنه علة التشويه العام لقيم الإسلام: فليست داعش أكثر الناس تشويها بل الذوق المبتذل والبهيمي.
وهذا هو السمة الغالبة على مجتمع لم يعد فيه لا حرية الوجود ولا حرية التعبير عنه: سجن للجماعة ومزبلة الأذواق البهيمية لنخب تأكل أكل الأنعام.
فـ”الستر” يعني النفاق الدائم في كل شيء وصرنا لا نرى فيما نفاخر به من عصر الراشدين إلا في الغرب وما عندنا إلا تزييف الإعلام لسير حكامنا.
وكنت منذ شبابي في الغرب أعجت من الهوس الجنسي والسكر والاكل عند الشباب القادم من بلادنا وأحاول فهم فقدان الذوق لكأن لقاءاتهم مرتع حيوانات.
ولا يزال الامر كذلك في كل لقاء بين من يسمون مثقفين. فحتى الشراب الذي يدمنون عليه تراهم في شربه لا يرتوون في حين أنه من عناصر فن المائدة.
والعلاقة بالشرب -رغم كونهم مدنين عليه وليسوا محرومين منه-هي أكبر دليل على فساد الذوق ككل “كيف” فصارت متعة المائدة فقدانا للعقل في الحانة.
وختاما فتشويه الحريات الإسلامية بما يتصورونه ضبطا و”سترا” لا يزين الإسلام بل يشينه فتشوه أخلاق المسلمين قيم القرآن عند من لا يعلم حقيقتها.
وما كان من حرياته ينفى عنه وينسب الفلسفة فتكون هي المحررة وهم المقيد. القيد موجود في كل حضارة فلسفيها ودينيها لكنه يقتل الغرائز بل يهذبها.
ولا يحق للعجائز من الشيوخ أن يقيسوا عنفوان الحياة بموتها فيهم: الإسلام دين الحرية والقوة والعنفوان العضوي والروحي في الفعلي والخيالي.
قتل الخيالي يقتل السوي من الفعلي فلا يبقى إلا ما ينفجر ضد الكبت وهو أكبر تشويه لقيم القرآن أكثر حتى من الإرهاب بل لعل الإرهاب فيه منه شيء.
لما أسمع فقيها في أرذل العمر يدافع عن تعدد الزوجات أتساءل عما في نفسه من هذا الداء الذي أصف: ينسى كل شروطه القرآنية فيحرره من كل قيد.
ولما ارى الفتاوى السخيفة حول سجن النساء بدعوى الشرف فهم لا يدرون أن ذلك بما يترتب عليه من كبت لا يحول دون شيء يشجعون زنا المحارم والسحاق.
وبمثل هذه التربية المرضية يجعلون أحمق القادة يستغل هذا الغضب الشبابي ليصبح داعية تحرير أهوج لا يراعي التدرج في النقلة في الخليج المحافظ.
وعندئذ لم يعد المتمولون يشجعون على جعل ما يختارونه من بلاد عربية مواخير بل تصيبهم العدوى فيجعلوا بلادهم كذلك من أكبر مواخير العالم.
وهذا هو أخطر أمراض العرب ليس من اليوم بل منذ أن وصل بهم الأمر إلى فقدان كل سلطان فيما ورثوه عن الأبطال الذين فتحوا لهم العالم ليكونوا سادة.
فإذا بهم يصبحون عبيد الغرائز وتركوا كل وظائف العمران لمن تصوروهم عبيدا وجواري لهم. لم يفد الرشد نكب البرامكة لأنهم كانوا الأقدر على الفعل.
واليوم فما يحل ببلاد العرب التي تعتبر نفسها غنية من استبداد ومن فساد تحك القشرة فتجد الداء الخفي هو فساد ذوق في الأكل والجنس والسلطة.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها