لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله طبيعة القرآن
وصلنا إلى الفصل الأخير: نختم الوصف ونمر إلى الجواب عن السؤال حول طبيعة القرآن. أرجعنا الأمور إلى المعادلة الوجودية وخاصة إلى قلبها: التواصل.
فيكون ما يصل الطبيعة بالتاريخ هو تجلي الآيات الذوقية بمستوييها في وجودهما الفعلي الذي تبدعه الطبيعة وفي وجودهما الرمزي الذي يبدعه الإنسان.
لكن التواصل مباشر كذلك تلقيا وبثا: والتلقي والبث لهما عبارتان دينية وفلسفية ولكل منهما تصور للإدراكين بتفاضل: الذوقي للدين والمعرفي للفلسفة.
وقد حاولت بيان ما حصل من تشويه حال دون المسلمين وفهم مضمون الرسالة التي هي تواصل مباشر وظيفتها التذكير بطريقتين: استراتيجية نقدية وبنائية.
والتحريف كما بينا يأتي منه الطاغوتين السياسيين في التربية طاغوت الرمز وفي الحكم طاغوت الفعل ومن الجماعة في الإبداعين الاقتصادي والثقافي.
والأول يتحكم في الذوق الغذائي والجنسي بمستواهما الأول الفعلي والثاني يتحكم في مستواهما الثاني الرمزي: يقتل الثاني بالتصحير المادي والرمزي.
فيتبعه الأول بالفقر الروحي والعاطفي فيصبح الإنسان فقيرا مهما كان غنيا: يأكل كالخنزير ويتعاطف كالحيوان لفساد الذوقين الغذائي والجنسي.
فيجتمع التقتير عند جل الشعب لأنه فقير ماديا فلا يبلغ درجه الوعي بالفقر الوجودي وعند الأغنياء لأنه فقير روحيا فيدمن في التبذير والتدمير.
وهذا المآل يعلل والقرآن حصوله الحتمي بتحريف ذوق آياته في الآفاق والانفس ومعرفتها: ومستوى التحريف الثاني في الثقافة الاقتصادية والاجتماعية.
تحريفان أديا إلى تشويه القرآن: نخبوي وسياسي جعلهما طاغوتين: استبداد وفساد تربوي وحكمي وفي الجماعة بما نتج من ثقافة تصحيرية روحيا وماديا.
وما وضعه القرآن من استراتيجية نقدية وبنائية تبدو الفلسفة هي التي أنجزته فبدا لأهلها وكأنها حققته بالتحرر من الدين الذي صار مصدر غيابهما.
فصارت نخب الإسلام التي تدعي الحداثة تتوهم أن الإسلام مثل الأديان المحرفة. لكن المسلمين لم يتخلفوا بسبب القرآن بل بسبب تحريفي فهمه هذين.
فهو كما أسلفت ليس دينا من بين الأديان بل هو التذكير بالديني في كل دين تحرر بنقده من تحريفه وقدم استراتيجية أشمل مما تقترحه الفلسفة من حلول.
ذلك أن حصر الإنسان بين الطبيعة والتاريخ بزعم الغاء الدين وراؤهما لا يلغي القطب الإلهي وحده بل يلغي القطب الإنساني: وهذا هو جوهر العولمة.
لذلك فتاريخ العلاقتين العمودية (بين الإنسانية والطبيعة) والأفقية (بين الإنسان والإنسان) أثبتا رؤية الإسلام التي حددت عوامل الفساد وعلله.
فلا يطفو الإنسان من سيلان الطبيعة والتاريخ إلا بتغيير سياسي للتربية والحكم وثقافي في الاقتصاد والاجتماع لتحرر ذوق الإنسانية ومعرفتها.
وهذه الرؤية التي تجمع بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات جمعا بين الذوقي والمعرفي فيهما كليهما باستراتيجية تربية وحكم هي الإسلام.
وهذه الرؤية لا يمكن أن تكون من إبداع إنسان مهما كان عبقرية ومبدعا. ومن ثم فالقرآن ليس من تأليف الخاتم والدليل الأقوى يقدمه هو نفسه.
وبصورة أدق تقدمه أعماله: فهو يميز بين القرآن والسنة أولا والقرآن يعرف مشروعه بالتذكير بما في فطرة الإنسان ونقد تحريفاتها وتقديم البديل.
وهو إذن عملية اصلاحية دائمة يمكن اعتبار عمل الرسول الخاتم تطبيقا لها وليس هو جزءا منها إلا بمعنى أنه أفضل فهومها فكلف بتبليغها تربية وحكما.
ولهذه العلة نهى عن الخلط بين حديثة والقرآن. فإثبات أن الرسول ليس مشرعا بل معلم تشريع في التربية والحكم حتى تنتهي مزاعم القرآنيين الساذجة.
وإذا جاز لي أن استعمل مقارنة بين علاقة السنة بالقرآن التشريعية وعلاقة القوانين بالدستور أمكن القول إن السنة يمكن اعتبارها جزءا من التشريع.
لكن القوانين تعتبر بالقياس إلى الدستور أحكاما تطبيقية وليس تشريعية إلا بهذا المعنى الذي يفيد تأويل الدستور لنقله من العموم إلى الخصوص.
والتقدم التشريعي ليس في التشريع السيد بل في فهومه وتطبيقاته ومن ثم فالسنة هي بهذا المعنى متعلقة بفهم التشريع السيد وتأويلاته: وهي ظرفية.
لكن الظرفي درجات: فطبيعي حتى في العلم والقانون الوضعيين الفهوم والتأويلات لا تتساوى بل تتفاضل. وطبيعي أن يكون فهم المبلغ أسمى فهم وأتمه.
لهذا اعتبرت السنة تشريعا ذهب البعض إلى تحكيمها في القرآن المطلق وهي تنتسب إلى فهمه الأسمى وليس إليه بمعنى أنها يمكن أن تكون بديلا منه.
وشرط ذلك يبقى دائما اجتهاد الصادقين في ردها إلى القرآن معيارا لما يقبل منها بسبب ما لحقها من انتحال وتحريف بين الطبيعة لتأسيس الطاغوتين.
فطاغوتا التربية والحكم يؤسسه أصحابهما بتحريف السنة الشريعة التي كذبوا فيها على الرسول إما بوضع الأحاديث او بسوء تأويلها ونزعها من ظرفها.
وأعلم أن رد السنة إلى القرآن من أعسر الامور وخاصة ما كان منها متعلقا بكيفيات العمل. لكن ذلك يبقى من الحجج الواهية لتحكيمها في القرآن.
فلو كانت بهذه المنزلة لكانت بالضرورة مما يشير إليه القرآن ولما نهى الرسول عن تدوينها. لذلك فينبغي اكتشاف قواعد رد الصحيح منها إلى القرآن.
وأعتقد أن ذلك ممكن. فكل تشريع سيد
يأمر
وينهى
ويسكت عن تفريع الأمر
وعن تفريع النهي
لكنه يحدد يضع قواعد التفريع. وتلك هي اصوله.
وبين أن السنة لا يمكن أن تتجاوز التعليم في 1 و2 وأنها يمكن أن تتدخل في 3-تفريع المأمور به و4-المنهي عنه ومن ثم فتدخلاهما قابلان للرد.
فالتدخل التعليمي اجتهاد الرسول كمبلغ ومفسر بالقول والعمل ككل معلم بمدع لا يمس المضمون الكلي. والتدخل في التفريع يعير بقواعد التفريع.
ومن حسن الحظ أن القرآن نفسه يحدد قواعد تفريع المأمور به والمنهي عنه إلى معياري الذوق والمعرفة في التربية والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع.
فالغائب هو أحكام الذوق والمعرفة السويين لتعيير الشاهد وليس العكس لئلا يكون الأمر الواقع أمرا واجبا ولئلا يصبح الذوق والعلم إطلاق الشاهد.
لذلك كان القرآن تذكيرا بالفطرة بمعنى أنها هي التي تحدد الغائب بوصفه معايير الشاهد أو الأمر الواجب لتعيير الأمر الواقع فيتقدم الذوق والمعرفة.
ذلك هو دور السنة بوصفها تعليما للقرآن وتعيينا لفروع أمره ونهيه كتشريع خلقي وقانوني وكتربية وحكم في استراتيجية كلية تؤهل الإنسان للاستخلاف.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها