طبيعة الداء أو تماثل الفتنتين الكبرى والصغرى – الفصل السادس

**** طبيعة الداء أو تماثل الفتنتين الكبرى والصغرى

إذا كانت محاولة الغزالي هي بداية المنعرج الذي جعل الفكرين الفلسفي والديني يصبحان فكرين ويخرجان من النصوصية وكاريكاتور التوظيف الإيديولوجي الباطني والظاهري المحرفين للفلسفي والديني في صدام حضاري داخلي بين التأصيل والتحديث (في الوسيط كما يحدث في الحديث) فإن مجاليهما عولجا من بعد. فعولج وجها المسألة: ابن تيمية اهتم خاصة بالنظر والعقد وابن خلدون بالعمل والشرع لتحقيق الخروج النهائي فلسفيا ودينيا من صدام الحضارات الداخلي بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث أو بين الردين السخيفين الديني للفلسفي الفرق ضمنا أو الفلسفي للدين بنفي الفرق ضمنا بين الإيمان والعلم. سأخصص هذا الفصل لعلاج ابن تيمية لمسألة النظر والعقد التي قطعت مع الكاريكاتورين الناتجين عن توظيف الفلسفة والكلام بالبحث في أصولهما التي تحول دون ما آلا إليه من انحراف جعلهما في حرب دائمة بسبب عبث رد الإيمان إلى العلم أو العلم إلى الايمان لعلاج وهم المقابلة بين النقل والعقل. كراهية الحداثيين لابن تيمية من أكبر الادلة على أنهم يواصلون صراع الكاريكاتورين. فلااحد منهم قرأ بحق أعماله ولا أحد منهم تجاوز حرب الباطنية عليه. وسأحاول أن اشرح بدقة وافية فيم تمثلت ثورته التي حررت النظر والعقد من معركة الكاريكاتورين النصوصين فاقدي معنى الفكر الفلسفي والديني. وقبل الكلام على ثورته الفلسفية والدينية في آن فلأبدأ بما يتجاهله كلا الكاريكاتورين. فالإسلام لا يعتمد النقل في تعريف الديني لأن النقل يشير إلى أن الديني ليس ما ينقله الرسول بل الرسول يذكر بما على الإنسان ألا ينساه حتى يكتشف الديني الذي هو ثابت في ذاتها نفسها بوصفه فطرة وعقدا كيانيا. ولذلك فكل من يريد أن يفكر دينيا ويقتصر على النص لا علاقة له بالدين أصلا. النصوصية متنافية تماما مع نظرية الاسلام في الديني من حيث ما لا يقبل التحريف وما بالرجوع إليه يتحرر الإنسان من التحريف الذي قد يصيب النصوص خلال توظيفها الناتج عن التواطؤ بين الوسطاء والاوصياء. ونفس هذا الحكم يصح على الفلسفي. فالفلسفي ليس ما يوجد في نصوص الفلاسفة التي كل تأويلاتها قابلة لنفس التوظيف. ولذلك فتوظيف الديني يؤسس للثيوقراطيا وتوظيف الفلسفي يؤسس لانثروبوقراطيا وكلاهما في الحقيقة ينتجان عن الابيسيوقراطيا أو عن دين العجل الذي يؤمن به في العمق كلا الموظفين لهما. هذا الاستطراد المعرف بالديني والفلسفي ضروري لفهم ما أريد بيانه في ثورة ابن تيمية وهو كذلك ضروري لفهم ما سأحاول بيانه كذلك في ثورة ابن خلدون. وكلتا الثورتين لا يراها فاقدو البصيرة من الكاريكاتورين لأنهم نصوصيون كما بينت: كل فلاسفتنا الوسيط منهم والحديث رغم توهمهم أنهم عقلانيون. وسأعتذر للقراء: فمن لم يدرس بدقة نظرية المعرفة التي كانت سائدة والموروثة عن الارسطية يصعب أن يتابع ما سأحاول بيانه. فعمل ابن تيمية الثوري لا يفهم من دون فهم ما نقده من الميتافيزيقا الارسطية ليدحض ما ينسبه ورثته للمنطق واستعمالاته في نظرية المعرفة: الميتافيزيقا والتحليلات الأواخر. سأفترض أن من يقرأ هذه التغريدات لديه بين يديه ضميمة المثالية الألمانية التي درست فيها ثورة ابن تيمية في نظرية المعرفة المتجاوزة للمطابقة وذلك من خلال هذين بناء نقده للمنطق على هذين الكتابين: الميتافيزيقا والتحليلات الاواخر. أقول هذا لأن المحل لا يسمح بإيراد نصوصه وشرحها. وسنرى في كلامي على ثورة ابن خلدون نفس العمل في تجاوز نظرية العمل المبنية على نظرية المعرفة التي تجاوزها ابن تيمية -وتلك علة الوصل بينهما عندي-والتي هي ارسطية أفلاطونية بالأساس -لذلك فابن رشد لما كتب في السياسة علق على جمهورية أفلاطون بأخلاق نيقوماخوس الارسطية. قرأت للكثير ممن تكلموا في فكر ابن تيمية ويؤسفني أن أقول إن جلهم يتكلم في ما لا علاقة لثورته به. فهو مثلا لا يشكك في المنطق من حيث هو ارغانون. ولا يشكك في علم أرسطو. ولا يشكك في العلم بما يعني أنه يعتبر الدين بديلا كافيا. وهو خاصة لا يتكلم في الموضوع من منطق النصوص الدينية. هذا كلام محير. فيم إذن تتمثل ثورته إذا كان كل ما أقوله صحيحا؟ هنا مربط الفرس. فمن الطبيعي ألا يراه من لا يزال يعتقد في نظرية المعرفة المطابقة. وسأقول كلمة اعتبرها شبه نكتة يرددها من ينقد ابن تيمية: “وهي من تمنطق فقد تزندق” معتبرا إياها دليلا على لا عقلانيته ونصوصيته. وهي نكتة حقا ولكن ليس عليه بل له عليهم. فهو قالها وفسر ما يعنيه وتلك هي ثورته. لم يقل من تمنطق فقد تزندق وسكت بل شرح قصده. فقال من تمنطق فقد تزندق بمعنى أنه تسفسط في العقليات وتقرمط في الدينيات. فبين الدافع التوظيفي لتحريف الدين (الباطنية) ولتحريف الفلسفة (السفسطة). شرحه للنكتة شديد العمق والتعقيد. فلأشرح شرحه. وسأبدأ بمعنى التمنطق الذي يعني السفسطة في العقليات. عجبا هم يعتبرون المنطق علامة العقلانية وهو يعتبره علامة اللاعقلانية. أليس هذا مضحكا؟ أليس هذا نكتة تيمية؟ الجواب هو ما معنى السفسطة كما يعرفها أصحابها لا نقادها (أفلاطون وأرسطو)؟ ابن تيمية كان يعلم ذلك وهو ما يقصده: السوفسطائيون يقولون الإنسان مقايس كل شيء مقياس الموجود كما هو موجود والمعدوم كما هو معدوم. هذا هو ما يعنيه ابن تيمية بمن تمنطق أي اعتبر المنطق كافيا لعلم الوجود فهو يعتبر الإنسان مقياس كل شيء كما يقول السوفسطائيون: جوهر نظرية المطابقة. وهو ما يعني أن ابن تيمية لم يكن يصدق الصورة الفلكلورية التي اشاعها أرسطو وأفلاطون عن السوفسطائية حتى يخفوا أنهم يتبنون رؤيتها لنظرية المعرفة فلا يميزون بين علم الإنسان النسبي وحقيقة الوجود التي لا يمكن أن يحيط بها هذا العلم. يقولون بالمطابقة أي بالرؤية السوفسطائة لنظرية المعرفة. وعندما يحاول الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمتصوفون رد ما يسمونه المنقول الى ما يسمونه المعقول هم في الحقيقة يقولون بنظرية المطابقة مثل السوفسطائين ولا يفهمون آل عمران 7التي جعلوا الـ”و”فيها عطفية بدلا من كونها استئنافية حتى يعتبروا الراسخين في العلم علمهم محيطا مثل علم الله. وذلك هو معنى “تقرمط” أي إن علمهم صار تأويليا يدعي أنه يستطيع رد الديني إلى الفلسفي ردا جوهره هذا التزييف الذي جعل الإنسان مقياس كل شيء وعلته العميقة هي القول بنظرية المعرفة المطابقة. تلك هي النكتة التي هي له وليست عليه بل هي عليهم لكنهم لا يفهمونها لفقدانهم ما له من بصيرة. فلو كانوا يفهمونها لما استعلموها لأنها عين غبائهم وليس دالة على العقلانية. فمثلهم مثل العامي الذي يتصور أن ما يدركه بحواسه هو عين الوجود الخارجي ومن هنا قياس الغزالي في قوله إن نسبة العقل إلى ما يدركه لا تختلف كثيرا عن نسبة الحس إلى ما يدركه وافترض طورا سماه ماوراء العقل. قد يكون قصد به الكشف. لكن حينها سيقول ابن تيمية يوجد طور ما وراء الكشف. وقد قالها ابن خلدون بعده وجاءت ما يدل عليها في القرآن قبله: يوم يصبح البصر حديدا. وابن خلدون قال إن الكشف لا يتحقق إلا بعد الموت في الآخرة. ولعل ذلك هو القصد برؤية وجه لله أو الحقيقة على ما هي عليه. وفي كل الأحوال لا يوجد حد نقف عنده يكون دالا على حصول المطابقة بين العلم الإنساني والوجود الذي لا يطابقه إلى العلم المحيط الذي ننسبه إيمانا لا علما بأنه علم الله بما يخلقه بحرية قضائيه ويأمره بحرية قدره فيكون العلم مطابقا للموضوع لأن الثاني ناتج عن الاول. ولنا أمثلة إنسانية. وهي من أسرار ثورة ابن تيمية. فعندما يصنع الإنسان شيئا بناء على علمه يكون ما في الشيء مكشوفا بإطلاق لصانعه. ومن ذلك ما يسميه ابن تيمية المقدرات الذهنية في الرياضيات والمنطق. ففيهما الموضوع من صنع المقدر وهو عين العلم الذي به قدر. فتكون المطابقة ممكنة بل وحاصلة فعلا. لكن عندما نريد أن نعلم سر شيء لسنا نحن مبدعيه فإن السر إن كان عميقا يبقى في غير متناولنا حتى في الصناعة (من ذلك خاصة في صناعة أدوات الدفاع والاكتشافات العلمية المتعلقة به). فما بالك إذا الأمر متعلقا بسر الموجودات الخارجية التي هي من خلق الله. مهما تعمق علمها يبقي المجهول لا متناهيا. ولهذه العلة يقول ابن تيمية إن الكلي في العلم لا يوجد إلا في المقدرات الذهنية (الرياضيات والمنطق) لكن علم الموجودات الخارجية لا يكون كليا أبدا لأنه لا يكتفي بالمقدرات الذهنية (النماذج الرياضية والمنطقية) بل لا بد له من تأييد التجربة. هذا التأييد استقرائي دائما وهو استقراء ناقص. فمهما دققنا الإدراك التجريبي بما نصنعه من أدوات تقوي مداركنا الحسية نكتشف أن وراء ما كنا نتصوره غاية ما في الموجود من مستويات ليس غايتها بل هو غاية ما وصل إليه تدقيق أدوات الإدراك ولعلنا نصل إلى يوم كل ما بنينا عليه علومنا يصبح من جنس ما عليه علوم سابقينا بالقياس إلى علومنا. وإذن فالقول بالمطابقة ليس دليل عقلانية بل هو دليل سذاجة العقل عندما لا ينقد نفسه ويؤمن بالنظرية السوفسطائية التي تجعل الإنسان مقياس كل شيء الموجود والمعدوم. تلك هي ثورة ابن تيمية الذي يقول إن كل تصور إنساني يمكن أن يوجد تصور آخر بتجاوزه إلى ما لا نهاية له: نفي المطابقة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي