لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهطبيعة الداء أو تماثل الفتنتين الكبرى والصغرى
ما سأقوله الآن لن يقبل به الإسلامي ولا العلماني. الأول لأن يتصور أن عودة الإسلام للتاريخ سيكون على يد الشيوخ الذين يعتبرون علماء ولم أر أحدا منهم منذ الشروع في ما يسمى نهضة يمكن أن يقاس بالغزالي أو بابن تيمي أو بابن خلدون. وما لم ندرك دور هؤلاء ونتجاوزه لن يحصل شيء ذو بال. والثانون يتصورون أن شعوب الاقليم لا يمكنهم أن “يلحقوا” بركب الحضارة (وهو شعار من أكره ما أكره لأن الحضارة متعددة وليس طريقها واحدها رغم وحدة الغاية القيمية التي هي كونية) من دون التخلي النهائي عن التراث الإسلامي (رمز ذلك العروي وطه حسين) والانتساب المحاكي لحضارة الغرب. والموقفان هما ذروة ما سميته كاريكارتوري التأصيل والتحديث بمحاكاة القشور والغفلة عن لب البذور. فمن يجمع بين أفضل قراء القرآن أعني فلاسفة المدرسة النقدية الثلاثة (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) وأفضل قراء الفلسفة اليونانية والغربية يمكن إن نجح في الجمع المبدع بينهم أن يمثل أملا. ولا أنكر أني أطمح للقيام بهذا الدور. لست واثقا من أني قادر على النجاح فيه. لكن ذلك لا يحول دوني والمحاولة. فإن اصبت فلي اجران وإن لم أصب فعلى الأقل سيكون لي أجر المحاولة الصادقة. وقد جاهدت ما استطعت لأفور الشرطين: حاولت البدء باليونان والختم بالألمان ووسطت بينهما هذا الثالوث. فاعتقادي الراسخ هو أن مرجعية الإسلام في وضع دار الإسلام: كلاهما بقي سر ثرائه تراثا وثروة ينتظر وقته ليبرز. وكان ينبغي أن تمر الإنسانية بكل ما مرت به حتى يتبين ما في أرضه وموقعها من مكان المعمورة وما في مرجعيته وموقعها من تاريخها من حاجة للإنسانية إليهما شرطا في توازنها. وبهذا أفهم معنى “أمة وسطا”. فالأمة وسط مكانا وزمانا ورؤية لقيم رمز الفعل (العملة) ولقيم فعل الرمز (الكلمة) قيمهما المحررة من تحريف مفهوم الله ومفهوم الإنسان ومن ثم فهي بالضرورة مستقبل الإنسانية. فمكانها وسط المكان جغرافيا بين الشرق الاقصى والغرب الاقصى وزمانها وسط الزمان تاريخيا. وقيمها وسط القيم لا تنفي دور العملة رمز التبادل لكنها تسود عليها ولا تساد بها ولا تنفي دور الكلمة رمز التواصل لكنها تسود عليها ولا تساد بها. فالرمز الأول لا يسود الإنسان بذاته بل بالربا أي بجعل الإنسان مرهونا دائما وهو سلطان القرض والبنك ولا بالكلمة بذاتها بل بالخداع الإيديولوجي. ولا يتنافى هذا الفهم المربع للفهم الاصلي الذي يعني الأمانة والعدل في الحكم ولذلك ربط القرآن وصف الامة بكونها وسطا بالشهادة على العالمين التي تستحق أن يكون الرسول شهيدا عليها. وأرفض الرفض القاطع ما يستنتج منها في تخريف المتكلمين على الوسطية: فلا وسطية في العدل ولا في الأمانة. وفي أقصى الحالات قد أقبل هذا المعنى الذي أمقته في الانجاز وليس في التصور. ومعنى ذلك أن النظر والعقد لا وسطية فيهما ويمكن أن اقبل بالوسطية في العمل والشرع. فالاجتهاد حكمه الذهاب إلى الغاية الممكنة للإنسان وإلا لأصبح العلم مبنيا ليس على طلب الحقيقة بل على التوافقات الانتهازية. لكن العمل لعسره وللعلم بأن العلم مهما ذهب إلى الغاية يبقى دائما نسبيا في ما يتعلق بمعرفة الحقيقة وليس نسبيا في جهد الباحث الناشد له فإن ذلك يتطلب الحذر في العمل الذي هو جهاد مضاعف: فهو ليس جهادا فكريا وخلقيا بين البشر فحسب بل هو جهاد تقني ومادي بينهم وبين الطبيعة. ولهذه العلة يوجد دائما بون بين النظرية والعقد وبين العملية والشرع لأن هذين تطبيق لذينك. والتطبيق دائما غير مطابق للنظر. والمطلوب فيه يقبل التسمية بالوسطية بمعنى الوصول إلى حلول وسطى بين العاملين والمتعاملين. في حين النظر يفسد بمجرد جعل الحقيقة مثل التحقيق حلولا وسطى. طلب الحقيقة هدف العلم والعقد وهما لا يقبلان الحلول الوسطى وطلب تحقيق ما علم من الحقيقة النظرية والعقدية مختلف عنه ومن ثم فهو يمكن أن يكون وسطيا بهذا المعنى الذي لا أحبه بسبب الخلط بين المستويين في النظر والعقد وفي العمل والشرع. لكن النظر والعقد علمهما ليس محيطا ولذلك فهما اجتهاد. فلأبين الفرق بين اللاوسطية في النظر والعقد لأنهما طلب الحقيقة الذي ينبغي ان يكون اجتهادا مستقصيا لا يطلب الحلول الوسطى بل يسعى للحقيقة كما يعرفها القرآن ولحق به العقل عندما تخلص من نظرية المعرفة المطابقة تمييزا بين المعرفة المحيط التي تطابق والمعرفة اللامحيطة التي تتطابق أبدا. ولذلك فهي مسألة حرية روحية بمعنى أن طلبها لا يخضع إلى لحكم الضمير (البعد الخلقي من العلم) وحكم معايير الفصل بين الحقيقة العلمية والاحكام المرسلة التي لا تستجيب لهذه المعايير. هي إذن اجتهاد ببالغ الجهد أمانة وعدلا لأنها من الأحكام النظرية. والضمير والمعايير تبرأ من دبلوماسية العمل. أما السعي إلى تحقيق ما توصل إليه الاجتهاد في النظر والعقد بالجهاد في العمل والشرع فأمر آخر لأنه ليس خاضعا لضمير العامل والمشرع وحده بل هو خاضع لإرادة المشاركين في العمل والتشريع لجماعة متواصية بالحق (معيار معرفي) وبالصبر (معيار خلقي) لتحقيق الممكن من المعلوم نظرا وعقدا. ولنضرب مثالا من حلول علوم الملة لهذه العلاقة. فالمتكلمون والفلاسفة كلاهما يجعل النظر من جنس العمل في المسألة. فهم يتكلمون على التوفيق بين النقل والعقل بحلول وسطى ترد الوجود إلى الإدراك وتنفي الغيب لقولهم بنظرية المعرفة المطابقة: التوفيق وسطية قبيحة لا تنصف الدين ولا الفلسفة. وينتج عن ذلك فهم عقيم للعلاقة بين العلم والإيمان. فلو كان الإيمان يرد إلى العلم لما احتجنا إليه ولو كان العلم يرد إلى الإيمان لما احتجنا إليه. نحن نحتاج إلى الإيمان في كل تأسيس حتى في العلم. ونحتاج إلى العلم لفهم ما نؤمن به حتى في الإيمان. لكن الفهم تأويل وليس تعليل. مشكلة أولى. ولا يزال هذا الموقف العقيم سيدا عند دجالي الاعجاز العلمي في القرآن وهو دجل من يطلبون العلم من تأويل ساذج لإشارات القرآن والإعجاز العلمي في الفلسفة وهو دجل من يطلبون رد الإيمان إلى العلم من أدعياء تحليل النصوص الدينية بدعوى إخضاعها للمعرفة الوضعية. وهؤلاء يمثلون كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث. الأولون يبحثون عن التأول العلمي في ما وظيفته ايمانية (القرآن) والثانون يبحثون عن التحليل الإيماني في ما وظيفته علمية (الفلسفة): لكن الدين والفلسفة لما يتخلص المتكلم فيهما من نظرية المطابقة يتفقان على أن العلم الإنساني غير محيط. والتسليم بأن العلم الإنساني غير محيط تسليم بأن الإنسان لا يمكن أن يكتفي به فيكون ذلك في آن تسليما بالإيمان وتلك هي دلالة وحدة الفلسفي والديني في الاعتراف المتبادل بينهما بوجهي الوعي الإنساني العالم والمؤمن في آن. فنتخلص من كذبة التوفيق وكذبة الاستغناء بأحدهما عن الثاني. ولنمر إلى المثال الثاني. فالتوفيق بين الفقه والتصوف بتراضي الخصمين على وصف للخصومة غير دار بطبيعتها هو أيضا وسطية لا أحبها. فلا يمكن رد القانوني (الغالب على الفقه) للخلقي (الغالب على التصوف) ولا رد الخلقي للقانوني ولا يوجد حل وسط بينهما ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما بالثاني. لكن العلاقة بين القانوني والخلقي أو بين الفقهي والصوفي صارت علاقة صدامية تتطلب حلا عمليا هو التوفيق المنافق بين المتصوف الذي يعتبر قانون الفقهاء رسوما والفقيه الذي يعتبر أخلاق المتصوفة خروجا عن الشرع. وكلاهما على باطل ليس حكمهما أحدهما على الآخر وفي الفصل بين البعدين. فالقانوني وازع خارجي قد لا يتجاوز العمل عديم الإيمان إذا لم يصبحه الخلقي الذي هو وازع باطني (الضمير)والخلقي وازع باطني قد لا يتجاوز الإيمان عديم العمل ومن ثم فالتقابل بينهما هو التقابل بين الإيمان والعمل الصالح. الإيمان بلا عمل ليس تاما والعمل بلا إيمان ليس تاما: من آمن وعمل صالحا. وإذن فكما رأينا في المقابلة بين النظر والعقد في الدين والنظر والعقد في الفلسفية ها نحن نرى في العمل والشرع في الفقه وفي العمل والشرع في التصوف نفس المقابلة. كلاهما لا يمكن من دون الثاني لكن لا أحد منهما يرد إلى الثاني. في الحالتين الاختلاف في الطريق مع وحدة الغاية واختلاف الأداة. المشكل لا يكفي فيه اكتشاف الحل فهذا ولله الحمد تأكدت منه منذ شرعت في التفسير الفلسفي للقرآن لأن الأصل كله في القرآن أو في فن التفسير الذي تترع عنه علوم الملة الغائية الأربعة التي أتكلم عليها أي الكلام والفلسفة والفقه والتصوف. المشكل في التخلص من الكاريكاتورين. والتخلص ليس مسألة تحسم بالعنف بل هي ثمرة تربية جديدة تجعل أدعياء التأصيل وأدعياء التحديث يتحررون من صدام الحضارات الداخلي بنيهم والشروع في التعلم الجدي لفهم الديني في الاديان أو جوهر القرآن والفلسفي في الفلسفات أو جوهر جهاز الروحي والعقلي لفهم القرآن وذوق الوجدان.