لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهطبيعة الداء أو تماثل الفتنتين الكبرى والصغرى
بالصدفة أسمعني ابني مداخلة للدكتور برهومة أستاذ فلسفة أردني وكاتب وصحفي وللأسف لم ألتق به حتى يفهمني ما يقوله عن علة الصراع بين الدين والفلسفة. ولا أنوي مجادلته بل كل ما يعنيني من كلامه هو علاقته بهذا المشكل الذي أعالجه أعني طبيعة الداء والتماثل بين الفتنتين الكبرى والصغرى. وما كنت لاختاره مثالا لبيان الامر إلا صدفة ذلك أن الظاهرة الأهم هي ظاهرة ما يسمى مؤمنون بغير حدود. فهي التعين الفعلي لكاريكاتور الحداثة يرد إلى كاريكاتور الاصالة في مشروع كلنا يعلم مصدره في خطة تكمل التفسير (من نفس المصدر) الذي يدعي صاحبه تأسيسه على علم باللسانيات (شحرور). فهذه “المدرسة” التي تغري الكثير من مثقفي الأمة بالمال ليخدم أجندتها لا تختلف أهدافها عن اهداف الباطنية بتوظيف الفكر المزعوم فلسفيا وحديثا مثل توظيفها هي للفكر المزعوم فلسفيا وقديما والذين كشفهم الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. والأساس في الحالتين هو وهم عقلانية الفلسفة ونصية الدين. وبهذه الحجة يخرجون من الفكر الفلسفي الغزالي وابن تيمية وابن خلدون أعني الثلاثة الذين أدركوا لا عقلانية الفلسفة السائدة وليس الفكر الفلسفي ولا نصية الفكر الديني حتى وإن كان السائد الذي يرد عليهم من جنسهم لأنهم هم ايضا كانوا نصيين في العصر الوسيط وحاليا. لذلك فهم يدافعون عن نصوص. ومثلما أستثني الغزالي وابن تيمية وابن خلدون من هذه الكذبة حول الفكر الديني واعتبرهم في آن ممثلين له وللفكر الفلسفي غير النصوصي فإني اعتبر بعض الفلاسفة كانوا متحررين من النصوصية الفلسفية ولعل ابن سينا بنحو ما والبيروني بصورة أتم هما من هذا النوع المناظر للغزالي وابن تيمية. بينت علة الصراع بين المتكلم والفيلسوف وبين الفقيه والمتصوف في العصور الوسطى عندنا (عند اليهود والمسيحيين بعد ذلك وقد يكون الامر كذلك قبل الإسلام) في الفصل السابق ولا انوي العودة الأمر ما اسعى إليه في هذا الفصل هو بيان علة وجود الكاريكاتورين وصدام الحضارات الداخلي في المرحلتين. ما قمت به هو تحديد طبيعة الصراعين لكن من سعى إلى بيانه هو محاولة الغزالي الذي شرع فيه بفضل كتبه الاربعة المتعلقة بالمسألة (التهافت والفضائح والاحياء والاقتصاد) رغم ما يشبه النكوص الذي تلا ذلك وبين ابن تيمية ذلك في فلسفة النظر والعقد وابن خلدون في فلسفية العمل والشرع. ولهذه العلة أوليتهم هذه المنزلة في فكر حضارتنا باعتبارهم قطعوا مع النصوصية في الفلسفة والدين وبدأوا فعلا الكلام على الفلسفي والديني وعدم الاقتصار على ببغاوية النصوصية فيهما والتي هي علة صدام الحضارات الداخلي ثمرة للفتنة الكبرى وسطيا تماما كما يحصل ثمرة للفتنة الصغرى حاليا. والدكتور الذي بدأت هذا الفصل بالإشارة إليه يتصور أن الفكر الفلسفي عقلاني والفكر الديني نصوصي وتلك هي علة الصدام بين الدين والفلسفة. وهذا صحيح إلى حد كبير إذا كان الكلام واصفا لكاريكاتور الفكر الديني ولكاريكاتور الفكري الفلسفي الوسيطين والحديثين. وكلاهما نصوصي ولا عقلاني. لم أسمع أحدا من الحداثيين ولا من الوسيطيين فكر في الديني ولا في الفلسفي بل كل ما أعلمه بعد استثناء من أشرت إليهم شراح نصوص بمسلمة صرح بها الفارابي في كتاب الحروف “العلم اكتمل ولم يبق إلا تعلمه وتعليمه” ويقصد فلسفة الخليط بين فلسفة ارسطو وافلوطين رمز انحطاط الفلسفة اليونانية. وكل من يسمع محاضري “مؤمنون بلا حدود” (مع استثناء قلة) يجد نفس العقلية النصوصية التي تكون عادة مؤسسة على موضوع رسالته الجامعية التي يعتبر ممثلها في الفلسفة الغربية الحالية قابلا للوصف الذي أطلقه الفارابي على فلسفة ارسطو. كلهم شراح نصوص “مقدسة” في ظنهم. ولذلك فأنت تجد العناوين من جنس “كذا عند فلان”. وأقصى ما يمكن أن اصف به هذا العمل هو أنه من باب الرواية وليس من باب الدراية. يعني أنه فكر نصوصي وهي مرحلة مهمة في التعلم لكنها لا تنتسب إلى الفكر دينيا كان او فلسفيا أو علميا أو حتى عمليا. وهذا الوصف يصح على الحقبتين الوسيطة والحديثة. والبداية للغزالي لماذا؟ لأنه لم يشرح نصوص ارسطو في روايتها عند الفارابي وفي حكايتها عند ابن سينا بل هو تساءل عن عقلانية هذا التراث الفلسفي وخاصة في صلابة تأسيسه الميتافيزيقي. وهذا هو ما يسمى فكرا فلسفيا ولا يهم دافع الغزالي للقيام به وهو لم يخفه وبينه في الفضائح وفي الإحياء. ماذا بين في الفضائح وفي الإحياء: أمران أولهما هو ا لطابع الكاريكاتوري لما يتوهمه الباطني (الشيعي في الغاية) فلسفة والظاهري (السني في الغاية) دينا وهو ليس فلسفة ولا دينا بل هو توظيف للفكر الفلسفي بتحريفه في الباطنية الشيعية وللفكر الديني بتحريفه في الظاهرية السنية: الكاريكاتوران. ولعل الدليل الساطع على عبقرية الغزالي هو البيان البديع لعلاقة الباطنية بهذا التوظيف الذي يرد إلى جعل تحريف الفلسفة (أخذا للنتائج دون مقدماتها وهي النصوصية) من أجل مشروع سياسي اساسه نقيض العقل تماما أي تأسيس التعليمية لوساطة الايمة ووصاية آل البيت تماما مثل رسائل اخوان الصفا. وبهذا المعنى فما يزعج الجماعة في ثورة الغزالي ليس كونه متدينا ولا كونه متصوفا ولا كونه في بداية حياته كان متكلما بل هذا المنعرج في الفكرين الديني والفلسفي أو بداية التفلسف والتدين الحقيقيين المتحررين من التوظيف الإيديولوجي في معركة الكاريكاتورين بين محرفي الفلسفة ومعرفي الدين. وما يزعجهم أكثر هو أنه بفعل الفلسفة وبدافع الدين عندما يكون الاول فعلا عقليا والثاني دافعا وجدانيا ينفتح باب لم يخطر للكاريكاتورين ما به يتجاوز علة هذا النكوص عن التفلسف والتدين الصادقين المطلوبين لذاتهما وليس الموظفين للوساطة والوصاية نفيا للحريتين الروحية والسياسية. وانفتاح هذا الافق الجديد للفكرين الفلسفي والديني اكتشاف أنهما نوعا العبادة التي تنتسب إلى ما ينقال وإلى ما لا ينقال من تلقي آيات الله في الآفاق وفي الأنفس بمعنى اكتشاف المفهوم الحد الذي سماه الغزالي “طور ما وراء العقل” دون أن يشرح حقيقته رغم أنها قارنها بالنسبة بين العقل والحس. فهو بهذا وبهذا وحده -وهو كاف وزيادة- اسس لدحض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وجعل التجاوز التيمي في النظر والعقد والتجاوز الخلدوني في العمل والشرع ممكنين وهما بداية القطيعة الثورية مع الفلسفة اليونانية وتأسيس فلسفة حديثة اساسها نظرية النظر والعقد ونظرية العمل والشرع: لب القرآن. وبصورة أدق هي بداية القطيعة مع التأسيس البارمينيدي لنظرية المعرفة المطابقة والمتمثلة في رد الوجود إلى الإدراك بلغة ابن خلدون. وتأسيسه يجانس قولة هيجل العقل واقع والواقع عقل ولا يوجد شيء وراء العقل الذي هو واقع مع فرق بسيط بينه وبين بارمينيدس تمثل في إضافة هرقلطس والجدل. وهذه الإضافة هي التي مكنتنه من وهم تجاوز المشكل الذي حاول كنط علاجه بمانوية العالمين الظهر للنظر والباطن للعمل مع نوعين من المطابقة في كل منهما وعدم المطابقة بينهما والأول لتأسيس علم الطبيعة والثاني لتأسيس علم الاخلاق. وهي الثنائية التي حاول هيجل تجاوزها بالجدل. والكثير من الحداثيين يتصورون نيتشه خارج هذا المنوال. وهو فهم رديء دال على عدم وحدته في الفلسفة كلها بعد هيجل سواء كانت مادية (الماركسية) أو مثالية (ومنها نيتشه). فالعودة إلى المطابقة لها سبيلان: إما بنفي المقابل فتكون المطابقة في ما بقي بعد النفي(نيتشه) أو برد أحدهما إلى الثاني. والرد يكون بالجدل الهيجلي ردا للمادي إلى الروحي بتذويت الموضوع لتجاوز المقابلة بين الموضوع والذات أو بالجدل الماركسي بتوضيع الذات لتجاوز نفس المقابلة. وفي كل الحالات الحاصل هو المطابقة بين الوجود والإدراك. ما يظن ثورة نيتشوية هو أنه نفي الموضوع. ويوجد من ينفي الذات. فمن ينفي الموضوع ليبقي على الذات دون سواها لنا منه عدة أمثلة ولعل أفضل مثال هو ما يسميه ابن خلدون بالوحدة المطلقة في التصوف (التلمساني نموذجا). ومن ينفي الذات ليبقي الموضوع دون سواه يمكن اعتباره متعينا في الدهريات كلها ولعل أفضل مثال هو وحدة الوجود الطبعانية والدروينية. وما يسمى بفلسفة ما بعد الحداثة هي خليط من ذلك كله وهي لا تفهم من دون دراسة ما أطلقت عليه اسم انطولوجيا اللسان. هي في الحقيقة ناتجة عن بداية الوعي بالعلاقة بين الدلالة والمعنى أو بين ما يمكن أن نجد لها مرجعا في الأعيان وبين ما مرجعه من إبداعنا: فيزول الفرق بين العلم والأدب. وكل من يستعمل الفلسفة ما بعد الحديثة لينفي ما يتجاوز الإدراك لا يختلف عن القائلين بالمطابقة لأنهم في الحقيقة يقولون بما يقول به نيتشه: لا فرق بين العلم والفن الكل من إبداع الإنسان والمرجعية الموضوعية هي بدورها من إبداعه يعني العودة إلى فشته في نظرية الأنا واضع ذاته واللاأنا.