طبيعة الأزمة في فكر الأصوليتين الدينية والعلمانية 3 من 7

المسألة الثانية التشيخص الأول للعدوان على حقوق الإنسان في حضارتنا بدلا من أن نكتفي بالرد على تهم الأعداء والدفاع فلنحاول البحث في شروط علاج أسباب الداء الذي تعاني منه حضارتنا علاجا جذريا وبصورة فاعلة لا تحصره في ما يريد العدو أن يقصر عليه الانتباه حصرا لمهام النهضة في همومه وتحديدا لها بالإضافة إلى ما يقتضيه تصوره لمصالحه العليا. فينبغي أن نحلل فشل النهضة والصحوة في تحقيق قيم الإسلام في الواقع بصورة عامة رغم كونهما قد استندتا في الأصل إلى كشف أول عن أسباب الانحطاط لا يمكن التشكيك في كونه نابعا من الحضارة الإسلامية ذاتها (بفرعيه التيمي الذي يركز على فساد فهم العقيدة وفساد تطبيقها[2] والخلدوني الذي يركز على فساد فهم الشريعة وفساد تطبيقها[3] ) وفي كونه قد عالج مسألة الحضارة العربية الإسلامية بتشخيص دائها الذي جعلها بتقاليدها التي نكصت إلى الجاهلية تحط كرامة الإنسان حطا يتناقض مع ما تقتضيه الرسالة الإسلامية. لذلك فإن الفرضية التي نقدمها هنا لفهم أعراض المرض الحضاري الذي يعاني منه النظام التربوي والثقافي الإسلامي والمسلمون كما تظهر في وضعنا الراهن ترجع سبب فشل فكرنا الإصلاحي إلى عدم الحسم الإيجابي كما نمثل له بمحاولتي آخر مصلحين كبيرين في مسألة طبيعة المؤسسات التربوية والثقافية والسياسية والفكرية الإسلامية[4] القادرة على تحقيق شروط الاستخلاف هما ابن تيميه وابن خلدون: فكلاهما نقد الموجود ولم يحدد شروط تحقيق المنشود تحديدا عمليا يجعل النقلة من النظر إلى التطبيق أمرا واقعا بل اقتصر كلاهما على المقابلة بين الحاصل والواجب من المنظور الإسلامي دون بيان كيفية تحقيق هذا المنظور الإسلامي تحقيقا يتوسل النظام التربوي السليم[5]. فيمكن أن نلاحظ خاصية مشتركة بين التشخيصين التيمي والخلدوني (وهي خاصية قابلة للتعميم على كل محاولات الإصلاح قبلهما وبعدهما) تعلل ما آل إليه الفكر الإصلاحي عامة وفكر الإصلاح النهضوي خاصة من سلوك وطد كل الشروط التي تنتهي إلى نفي القيم الإسلامية الحقيقية ومن ثم قيم حقوق الإنسان. فقد انتهت هذه الخاصية في فكر النهضة إلى فرض فكر جعل الإصلاح مجرد إيديولوجيا تجمع بين قول ديني وفعل وضعي ماركسي: فحصل تجاهل تام لطبيعة المؤسسات التي تقتضيها الثورة الإسلامية ومنطق تراجحها منطقه الذي يحدد مقومي منزلة الخليفة كما تقتضيهما الثورة المحمدية ببعدي نهجها. فكلا التشخيصين التيمي والخلدوني أهمل الخاصية الأساسية للثورة المحمدية خاصيتها التي أزالت كل سند يمكن أن يعتمد عليه سلطان طغياني بخلاف ما آل إليه الأمر في فكر النهضة المبني عليهما. فالرعاية العامة التي تأمر الرسالة المحمدية بها في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث هو فرض عين وشرط كون الأمة خير أمة[6] تشهد على غيرها من الأمم هي نظام السلط التي تستند إلى مؤسستين تلغيان : كل سلطان زماني طغياني (=سلطة الدولة أو الأمراء بلغة ابن تيميه) يمكن أن يتحول إلى سلطة عسكرية مادية في الحكم. وكل سلطان روحاني طغياني( =سلطة الدين أو العلماء بلغة ابن تيمه) يمكن أن يتحول إلى سلطة فقهية روحية في المعارضة. أعني ضربي الدكتاتورية اللتين لا يقومان إلا على انتهاك حقوق الله والانسان والرسالة الإسلامية حددت مبادئ المؤسسات التي كان يمكن أن تحقق شروط حماية حقوق الإنسان المستعمر في الأرض ليقوم بواجبات الخليفة[7]: *- فالرسالة المحمدية أسست سلبا مفهوم العلم النظري (الاجتهاد) والفعل العملي (الجهاد) على نماذج ليس فيها بين الإنسان وربه وسيط عدا ظاهرات الوحي نفسه نصا ( القرآن الكريم ) أو ممارسة (السنة الشريفة)[8]. *- والرسالة المحمدية بنت إيجابا العصمة المعرفية والقيمية في النظر والعمل على إجماع الأمة ومن ثم فإن هذا التشريع ينبغي أن يعتمد على المؤسسات التي تمكن من تحقيق شروط الاجتهاد والجهاد وظهور الإجماع فيهما بترجمتهما العملية في مؤسسات فاعلة يسهم فيها كل المسلمين إسهاما عينيا مع التحرز من الآليات التي قد تحوله إلى خدعة الديموقراطية التي هي ألغارشية مافياوية مقنعة[9]. لكن ما حدث في تاريخنا الفعلي ودعمه فعل النقد الذي جعل البديل مستحيلا لحصره في عقيدة التحقق المثالي لهذه القيم في الصدر من دون تحديد للآليات المؤسسية الممكنة من ذلك في الواقع الفعلي تمثل في نفي مقومات هذه الثورة ومنع ترجمتها المؤسسية قاصرا الإصلاح في أمور تؤول به ضرورة إلى الاعتماد على : سلطة مادية حاكمة (سلطة الأمراء) خالية من مقومات الشرعية لكون وجودها يصبح بالضرورة مقصورا على الأمر الواقع الناجز في غياب السلطة المضادة. وسلطة روحية معارضة (سلطة العلماء) خالية من مقومات الفعلية لكون وجودها يصبح مقصورا على المثال العاجز ما دام فكرها ذاته لا يعترف إلا بضرب واحد من القوة هو القوة المادية أو الشوكة. والسؤال إذن هو كيف نفهم هذا التناقض بين قيم الإسلام وواقع المسلمين والتخلص من مهرب تحميل المسلمين دون تحديد مسؤولية هذا الفصام بين المثال الواقع[10]. لذلك كانت كلتا السلطتين السياسية والفكرية في تاريخنا الفعلي وفي أنظمتنا التربوية والسياسية والاجتماعية دكتاتورية انتصبت منذ الفتنة الكبرى ودعمها كل سعي للإصلاح بعقلية الحلم بالمستبد العادل والتطبيق القسري للشرع. ومن ثم فلا بد من علاج شؤوننا بالتخلص من الفصام الذي تعاني منه المؤسسات الفكرية والسياسية وتحقيق ذلك في نظامنا التربوي دون تأخير لكون السلطتين المتحالفتين في الواقع الفعلي حتى وإن بدتا أحيانا متعارضتين في تاريخنا كانتا دائما مبنيتين على انتهاك حقوق الله وحقوق الإنسان بما أصبحتا عليه من إطلاق جعل كل معارضيهما قابلين لمثل هذا الوصف بعد أن اضطرتهم إلى الخروج واستعمال رد فعل من جنس عنف الحكومات المادي وعنف المعارضات الرمزي الذي غالبا ما ينقلب إلى عنف مادي يصل إحيانا إلى الشكل الإرهابي. لا بد من تحديد شروط الحل الممكن عقلا والمقبول شرعا من خلال تجاوز النقد التيمي الذي ظل مهيمنا على الفكر الإصلاحي الأصلاني (في الحركات الدينية) والنقد الخلدوني الذي ظل مهيمنا على الفكر الإصلاحي الليبرالي (في الحركات العلمانية) منذ بداية النهضة لنقل الأمة من مجرد رد الفعل على إستراتيجية الأعداء إلى بناء الإستراتيجية الفاعلة التي تحقق شروط الخروج من آثار الانحطاط والحرب الأهلية الدائمة التي لم تنقطع منذ الفتنة الكبرى. ويقتضي ذلك أن نركز على ما ينقص علميتي النقد المشار إليهما: النقد التيمي لفساد فهم العقيدة ومؤسسات تطبيقها: إصلاح ديني. والنقد الخلدوني لفساد فهم الشريعة ومؤسسات تطبيقها: إصلاح سياسي. وذلك بتحديد العقيدة والشريعة الفاعلتين في التاريخ حقا. ولما كان القرآن الكريم يعتبر عدوان أصحاب السلطانين السياسي والروحي خللا لا تخلو منه حضارة وكان يرجعه إلى تحريف الرسالات السماوية تحريفا يهدد منزلة القيم فيؤدي إلى انتهاك حقوق الخليفة والمستخلف[11] فإنه لا يمكن أن نتصور نقد نتائج انحطاط حضارتنا نقدا للإسلام نفسه اللهم إلا إذا تصورناه مطابقا للدارقة التي يحتمي بها المعتدون على حقوق الإنسان باسم الخصوصية الإسلامية[12]. كما لا يمكن أن نتصور قيم الإسلام أمرا قد تحقق في لحظة من لحظات تاريخ الإسلام-بما في ذلك اللحظة التي كان على رأسها الرسول نفسه لأن المثال الأعلى إذ تحقق في تعين يجعل كل التاريخ محاكاة لتجربة عينية فيخلو من الإبداع الذي هو جوهر ما لأجله كان الإنسان مكلفا وأساس تحقير القرآن الكريم من حجة هذا ما كان عليه آباؤنا سلبا والتعظيم من حجة تلك أمة قد خلت إيجابا- ويكفي تكرارها للخروج من الفصام بين المثال والواقع. فالكثير من النخب الحاكمة أو المعارضة في المجالين الفكري أو السياسي لا يحكمون أو يعارضون باسم الإسلام إلا لفظا لكونهم في الحقيقة يحكمون أو يعارضون بما اختاروه من قيم جاهلية نسبوها إلى الإسلام باطلا فكانوا بسلوكهم هذا علة التهم الموجهة إليه: وهذا الحكم لا يستثني أي لحظة من لحظات تاريخنا الإسلامي بعد اللحظة التي كان فيها الرسول رئيس الفعل الحدثي والرمزي لكون صلاح أحد الخلفاء أو بعضهم لا يكفي لكي يثبت تحقيق القيم الإسلامية. فذلك أمر حصل بمجرد الاتفاق وليس مرتسما في منطق عمل المؤسسات التي كانت ولا تزال معدومة شكلا ومضمونا لأن ما في القرآن من مبادئ تحدد بنى المؤسسات لم يستنبط بصورة مقنعة إلى يومنا هذا [13].وأخطر نتائج هذا السلوك أنهم يريدون أن يحصروا مهمة فكر المسلمين وإعلامهم في الرد الدفاعي ومن ثم في تبرير سلوكهم المنافي لجل قيم الإسلام على أنه من خاصيات الإسلام والمسلمين فيصبح سوء التصرف الجاهلي من خصوصيات الإسلام التي على النخب الإسلامية أن تدافع عنها باسم الخصوصية. وطبعا فمثل هذا السلوك لم يعد يقنع أحدا عدا من تصور الدفاع عن طغيان بعض الأمراء وهذيان بعض العلماء خدمة للإسلام[14]. لكن هذا المآل المؤلم الذي انتهى إليه فكر المسلمين ليس ابن اليوم كما أسلفنا. فقد كان السمة الغالبة على كل محاولات العلاج التي حاولت التصدي لداء الفصام بين قيم الإسلام وواقع المسلمين: فهذا الواقع يغلب عليه دائما أخذ الموجود وإكسائه الشكلي برداء إسلامي لكأن الأصل الأسمى في فقه الحضارة من منظور الشرائع بات مبدأ استصحاب الحال[15].

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي