طبيعة الأزمة في فكر الأصوليتين الدينية والعلمانية 2 من 7

**

المسألة الأولى عوائق الإصلاح الذاتية

ليس من الموضوعية في شيء أن نتصور الكلام على عوائق تحقيق القيم الإسلامية عوائقها التي أدت إلى الدوس على حقوق الإنسان في أنظمتنا التربوية وثقافتنا التي شابها الانحطاط المضاعف الذاتي والاستعماري وفي مجتمعاتنا مجرد تهمة يوجهها الغير للحضارة العربية الإسلامية في ظرفها الراهن. فلا يكفي التنديد بالمواقف المغرضة من الإسلام والمسلمين, حتى وإن كانت أمرا لا شك في وجوده. ذلك أن زوال هذه المواقف حتى لو تصورناه ممكنا لن يكفي لمحو الظاهرات التي يتهم الإسلام بها ليس لذاته بل بسبب سلوك المسلمين في أنظمتهم التربوية والسياسية والاجتماعية والثقافية. فموقف المسلمين الدفاعي قد يصبح – ولعله قد أصبح بعد- من أسباب الغفلة عن شوائب حضارتهم التي نكصت إلى الجاهلية وأشاحب بوجهها لقيم القرآن الكريم إذ إن تجاهل الحقائق لا يلغي النتائج الوخيمة على الحضارات التي ترفض النقد الذاتي بحجة تجنب ما يكمن أن يعد تأييدا للنقد الخارجي.
فكثير من الأمم تفقد البصيرة بمجرد أن تتصور صوابا نقيض ما يقوله عدوها فتمكنه من سلاح بسيط جدا لإضلالها. فبوسعه أن يوجهها الوجهة التي يرضاها بمجرد أن يجعل نصائحه إليها مقصورة على ما يريد منها أن تتجنبه لتأخذ نقيضه. فينصحها بالصواب لكي تتجنبه عملا بقاعدة: نقيض رأي العدو هو الصواب إذ لو كان صوابا لما نصح العدو به.

إن البحث عن علاج ناجع للعوائق الحائلة دون تحقيق قيم الإسلام كما حددها القرآن الكريم (التي عرفها بكونها قيم الفطرة الإنسانية محددا مرجعها الوجودي) بعد تحريرها مما تراكم عليها من شوائب الممارسات التاريخية التي حرفتها ومن ثم العوائق المشجعة للعدوان على حقوق الأشخاص والأقليات والتمييز الجنسي أو العرقي أو الطبقي أو المذهبي في أنظمتنا التربوية والسياسية خاصة وفي حضارتنا عامة بعد أن شابتها معوقات الانحطاط أمر مطلوب لذاته سواء نصح به العدو أو لم ينصح. وهذا العدوان على قيم الإسلام التي تعود إليها حقوق الإنسان الحقيقية لا يمكن أن ينكر وجوده في أنظمتنا التربوية وتقاليدنا المنحرفة عن قيم الإسلام إلا معاند.
فهو ليس مجرد تهمة يلهج بها العدو سواء كان إسرائيليا أو أمريكيا أو كائنا من كان. لذلك فإنه لا ينبغي لبحثنا الساعي لعلاج شؤوننا التربوية والثافية (وهما بعدا المقوم الرمزي لصورة العمران ومادته بمصطلح ابن خلدون) أن يقتصر على الأمور الإضافية لمواقف الأعداء أو الأصدقاء.
فلن يكون العلاج عندئذ إلا مجرد وصفات جاهزة وردود فعل انفعالية تكتفي بالاستجابة لمثيرات النقد الخارجي وتتهم أصحاب النقد الداخلي دون تمييز بكونهم جميعا عملاء الأعداء فيصبح كل إصلاح لشؤوننا دعوة جوفاء لا تتجاوز الجدل اللفظي فلا يتبعها فعل حقيقي يغير الواقع باسم الصمود أو باسم رفض ما يؤكد عليه العدو الذي قد يحرك أهل الحل والعقد كما تحرك الدمى بالآليات النفسية البسيطة: مجرد اللعب على المحركات البدائية للنفس الانفعالية عند القيادات.
إنما واجب نخب الأمة وعلمائها أن يبحثوا عن العلل الحقيقية في موطنها الحقيقي أعني في محاولات فكرنا العربي الإسلامي نفسه وفي واقعنا الاجتماعي بحسب تطورهما الذاتي وبحسب وعينا بما يعتريهما من آفات حسبما تمليه العلاقة الجدلية بين المثال والواقع في التاريخ الإنساني: فلا يمكن أن يكون للعامل الخارجي تأثير من دون أن يكون العامل الداخلي مستعدا للتأثر.
ففكرنا وواقعنا الاجتماعي لا يمكن أن يكونا بريئين من مسؤولية ما آلت إليه الأمور في أنظمتنا التربوية وفي المنزلة التي تحددها للإنسان وما حصل فيهما من انحراف كان في الحقيقة ابتعادا عن قيم الإسلام قبل أن يكون ابتعادا عما يسمى بحقوق الإنسان التي هي عين ما يعتبره الدين واجباته إزاء نفسه وما لها من حقوق على صاحبها.
لا بد أن يكون في نظامنا التربوي وفي تقاليدنا المنحرفة ما جعل سلطا غير شرعية تسيطر عليهما منذ أمد طويل فتفسد مؤسسات السلطة السياسية ومؤسسات السلطة الفكرية وتفرض تحكمات لا تراعي دون الحقوق الشرعية والوضعية سواء حددها النقل أو العقل: فلا بد أن يكون لذلك علل ذاتية تكمن في أنساق فكرنا وخلل واقعنا الاجتماعي والخلقي أو فيهما معا. وكل محاولات الإصلاح لم توفق للحل الذي يخلصنا من هذين الفسادين بتصور منظومة المؤسسات التي تحقق توازن السلط فتحول دون الانحراف عن قيم الإسلام والعدوان على حقوق الإنسان. والغريب أن محاولات الإصلاح الأكثر بروزا, على عكس المنتظر, كانت في الحقيقة بحلولها المقصورة على السلب والمنع مصدر تدعيم لهذين الفسادين كما سنرى من خلال تحليل المحاولتين اللتين استند إليهما فكر النهضة والصحوة: محاولة العلامة ابن خلدون في الإصلاح السياسي والاجتماعي ومحاولة شيخ الإسلام ابن تيميه في الإصلاح العقدي والشرعي.

إن تشخيص داء الفصام بين قيم الإسلام وواقع المسلمين ونسبته إلى هاتين العلتين الذاتيتين ليس أمرا جديدا إذ إن هذين المصلحين كانا أول من أشار إليه إشارة صريحة وحاولا صياغة الحلول التربوية والسياسية والخلقية والدينية لتحقيق التوافق بين القيم والواقع. لذلك فهو تشخيص لا يقبل الإرجاع إلى النقد الخارجي الصادر عن تحيز الأعداء أو إلى النقد الداخلي الصادر عن عملائهم. ولعل هذه الحقيقة تخلصنا من موقف رفض الإصلاح باسم الصمود أمام الغزو, لكأن الرجوع إلى الحق لم يعد فضيلة. إنما هذه الدعوة إلى المراجعة أمر ملازم لكل محاولات الإصلاح التي عرفها تاريخنا الفكري والسياسي مهما شابها من نقص في مجال الانتباه لشروط حماية قيم الإسلام وحقوق الإنسان الذي استخلفه الله تكريما وتفضيلا على الملائكة.

ولما كان أفضل ممثل للتشخيص النسقي للأمراض التي تعاني منها حضارتنا في هذا المجال هو التشخيص الذي استندت إليه النهضة والصحوة مستمدة إياه مما بلغت بلغ الفكر العربي الإسلامي من نضوج في غاية طوره الأول في القرن الثامن الهجري أعني التشخيص الذي صاغه أكبر علمين عرفهما تاريخنا الفكري بنقد هذين الدائين فإن محاولتنا ستكون مبنية على تحليل المحاولتين لتحديد مقومات الإصلاح التربوي المقترح ليكون ملائما لعولمة خاضعة لمبدأ التصديق والهيمنة الإسلاميتين في كل تعامل مع التراث الإنساني المتقدم على الثورة المحمدية أو المتأخر عنها:

  1. محاولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقدا للسلطة العلمية التي يحملها تردي الواقع العقدي والفكري أعني ما آل إليه أمر الأمة من نكوص إلى الوثنية الخرافية والاستلام للأقدار بدل القيام بدورها في التاريخ: فركز على نقد نظريات النظر والوجود في الفكر الفلسفي والكلامي معتبرا نظريات العمل والقيمة في الفكر الصوفي والفقهي ناتجة عن فساد الفلسفة النظرية التي ألغت الفارق بين عالم الضرورة وعالم الحرية شرط التكليف.
  2. محاولة العلامة ابن خلدون نقدا للسلطة العملية التي يحملها تردي الواقع الشرعي والاجتماعي أعني ما آل إليه أمر الأمة من نكوص إلى الوحشية الطبيعية والاستسلام للغرائز بدل النظام الشرعي الذي يجعل الدولة راعية الشأن العام وشرط كل تطور ونمو: فركز على نقد نظريات العمل والقيمة في الفكر الصوفي والفقهي معتبرا نظريات النظر والوجود ناتجة عن فساد الفلسفة العلمية التي ألغت نفس الفارق بين العالمين فنكصت بالإنسان إلى الحرب الدائمة على الحكم الذي صار أداة استعباد ونزوات.

لذلك فلا عجب أن جعلهما فكر النهضة والصحوة دليليه في الإصلاح الديني والروحي (الأول) وفي الإصلاح السياسي والاجتماعي (الثاني). لكن تشخيص هذين المصلحين على علو شأنهما لم يشذ عن المآل الذي ذكرنا: فتشخيصهما لم يؤسس الإصلاح التربوي والسياسي القابلين للتحقيق الفعلي تحقيقا يخلص من الأدواء التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية. فقد انتهى تشخيصهما لسوء الحظ إلى وصف علاج يوطد أسباب الداء بدلا من الإتيان عليها. ويكفي أن نذكر هنا بمضمون التشخيصين لكي ندرك أسباب فشل إصلاحهما الذاتية وفشل حركة النهضة والصحوة التي بنيت على تشخيصيهما لعلاج الداء الذي أصاب أنظمتنا التربوية والسياسية عامة وداء الحط من منزلة الإنسان فيها خاصة.
فلعلنا بذلك نتخلص من موقف رد الفعل فنتجاوز مجرد التعليل بالعلل الأجنبية فيكون إصلاحنا التربوي استجابة لحاجة ذاتية المنبع والفكر لا خضوعا لخطط الأعداء. ولما كان هذا الفشل في مجال تحرير الإنسان هو المميز الحقيقي لوضعنا الراهن فإن بحثنا سيركز على أسبابه بالجواب عن سؤالين جوهريين هما:

  1. لماذا اتفقت كل الحركات والأنظمة العلمانية والدينية سواء كانت في المعارضة أو في الحكم على نفي الوجود الفعلي لشروط تحقيق قيم الإسلام ومن ثم شروط تحرير الإنسان واحترام حقوقه؟
  2. وكيف يمكن أن نتدارك الأمر في أنظمتنا الفكرية والتربوية فنحقق هذه الشروط ونصل إلى تحقيق قيم الإسلام ومن ثم احترام الحقوق والوجبات التي بها يتحقق مفهوم المواطن المسؤول في مجتمع الشورى العامة ؟

ولنضرب مثالا من العلاج العلمي الدقيق فنذكر بالكيفية التي صاغ بها ابن خلدون السؤال وطلب الجواب. فهو طلب شروط نقل التاريخ من جنس الأدب الغالب على ظاهره إلى جنس العلم الذي هو جوهر باطنه. وهذا الطلب المعرفي آل به إلى طلب من طبيعة وجودية تغوص إلى ما هو أعمق من شروط المعرفة: ما طبيعة عمل التاريخ عمله الذي أطلق عليه اسم العمران البشري والاجتماع الإنساني؟ والجواب بتحديد الطبيعة يقتضي التمييز بين ما ينتسب إلى صورة العمران وما ينتسب إلى مادته بلغة علم الطبيعة في عصره.
لذلك فهو قد علل حيوية أي مجتمع وموته بطبيعة العلاقة بين مقومي الطبيعية العمرانية ليكتشف القوانين التي تحفظ صحة صورة العمران (ممثلة بالسلطة السياسية والسلطة التربوية لكون صورة العمران ذات وجهين مادي ورمزي) وصحة مادته (الفاعلية الاقتصادية والفاعلية الثقافية أو الإنتاج المادي والإنتاج الرمزي لكون مادة العمران ذات وجهين كذلك مادي ورمزي) أو تضر بهما قوانين طبيعة العلاقة بينهما بما تدخله عليهما من إحكام يقوي فاعليتهما أو من خلل يضعفهما.

وصحة الفاعلية أو مرضها في حضارة من الحضارات كلاهما يعلله ابن خلدون بأصل عميق تنبع منه صحة العلاقة بين صورة العمران ومادته أو فسادها: فهي رهن العلاقة بين ما يستمده العمران من التاريخ الطبيعي (لأن الإنسان حيوان ذو غرائز مدارها حول الرزق ورمزه أو السلطة الزمانية) وما يستمده من التاريخ الحضاري (لأن الإنسان ذو بيان ووعي مدارها حول الذوق ورمزه أو السلطة الروحانية).
فإذا طغت في مجتمع ما وفي لحظة من تاريخه قوانين التاريخ الطبيعي (الصراع من أجل الرزق والبقاء ومنطق القوة النافي للتعاون) على قوانين التاريخ الحضاري (التعاون من أجل الذوق والسعادة بفضل التآنس) صارت صورة العمران (السلطة السياسية والسلطة التربوية أو بلغة مستمدة من التقسيم السائد السلطة الزمانية والسلطة الروحية) أداة استعباد فتفسد مادته (الفعالية الاقتصادية والفعالية الثقافية) وينحط المجتمع بأسباب داخلية إلى منظومة خاضعة لسلطان المافيات التي تتقاتل من أجل الرزق أو رموزه: إي إنه لا يبقى من العمران إلا بعد التاريخ الطبيعي ويزول كل أثر من بعد التاريخ الحضاري.

وتزداد الأسباب الداخلية لهذا الانحطاط وتتسارع آثارها بتدخل أسباب خارجية تضاعف فاعلتيها المرضية. ذلك أن المافيتين الزمانية والروحانية الداخليتين تصبحان ما يؤول إلهيا حالها من ضعف بحاجة إلى الاستعانة بالخارج بعضها على البعض فتتحول إلى مافيات فرعية تابعة ل مافيات خارجية أصلية ويصبح العمران ضحية تطفلين يقضيان على حيويته قضاء مبرما.
فإذا صادف كما نرى ذلك بالعين المجردة في كل أقطار الوطن العربي فكان الصراع الداخلي جاريا في ظرفية يتطابق فيها مع الصراع الدولي بين من بيدهم أسباب الرزق (مافيات الاقتصاد) ومن بيدهم رمزه (السلطة السياسية) ومن بيدهم أسباب الذوق (مافيات الثقافة) ومن بيدهم رمزه (السلطة التربوية) في كل المعمورة آل ذلك بالأمة التي وضعتها مصادفات التاريخ والجغرافيا في هذه المنزلة إلى كساح تام في كل مجالات حياتها: وهذا بين في الوضع العربي الحالي حتى للعين غير الفاحصة.
فبمجرد أن تفسد الفعاليتان المنتجتان لأسباب قيام الأمة المادي وأسباب قيامها الرمزي بسبب استبداد السلطتين الزمانية والروحانية يتوقف الإنتاج المادي ومعه شرطه المعرفي المجرد والمطبق (العلم النظري وتطبيقاته التقنية) والإنتاج الرمزي ومعه شرطة المعرفي المجرد والمطبق (العلم العملي وتطبيقاته الخلقية) فتموت حضارة الأمة ويتخلف المجتمع وتبقى صورة العمران (الدولة والتربية) أجهزة جوفاء تطحن الماء كما هي الحال في بلاد العرب الحالية: السلطة السياسة والسلطة التربوية العربيتين أصبحتا امرأة عقيما لا تنجب بل هي تلتهم آخر قطرات الحياة في مادة المجتمع لمجرد التمادي في بقائها العقيم والمعقم وهي لا تتجدد إلا بالموت الطبيعي أو بالقتل العنيف.

وذلك ما حصل عندنا منذ أن أصبحت الدولة خاضعة لمرتزقة السلطة الزمانية سواء كانوا أمراء قبيلة أو أمراء كتيبة وكلتاهما في الحقيقة لا تنشأ فيها خصائص الأمراء الارستقراطية بل خصائص رؤساء المافيا المادية (الطاغوت السياسي) وأصبحت التربية خاضعة لمرتزقة السلطة الروحية سواء كانوا علماء دين أو مثقفي ساحة بمعنى التحديث القسري وكلاهما بنفس المنطق أمراء المافية الرمزية (الطاغوت التربوي). ولما صادف أن تطابقت هذه المستويات الداخلية الأربعة مع نظائر خارجية باتت الطواغيت الداخلية (السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي) توابع لطواغيت خارجية من جنسها تحرك خيوطها أمريكا وإسرائيل.
فيكون عمران المسلمين خاضعا للمافيات الداخلية والخارجية لأن بعدي الصورة المنظمة لمادة الحياة العمرانية وشروطها المعرفية المجردة والمطبقة في التاريخ الخاص بالمسلمين والتاريخ العالمي ارتدا لمنطق التاريخ الطبيعي بدل الارتفاع إلى منطق التاريخ الحضاري.

وبين أنه لا علاقة لهذا الأمر بكون المسلمين مسلمين إذ هو ظاهرة كونية لا يخلو منها عمران يحصل لها فساد صورة عمرانه بسبب الاستبدادين وخاصة عندما يتطابق فيها المستويان القومي والعالمي من التاريخ الإنساني. وقد حصل مثله عند الكثير من الشعوب الأخرى. فلا فرق في لحظتنا الراهنة بين ما يجري عندنا وما يجري في أمريكا اللاتينية مثلا. ولا فرق بين ما جرى في أوروبا القرون الوسطى وما شابهها من البلاد التي كانت في وضعيتها أو ستكون في وضعيتها.
وعكس هذين الأمرين حصل عند غيرنا دون أن يكون لذلك علاقة بكونهم غير مسلمين. فالمسلمون سبق لهم أن تقدموا لما كانوا متحررين من هذين الطاغوتين. وغير المسلمين وبالذات الأوروبيون سبق لهم أن كانوا متأخرين لما كانوا مستعبدين بهذين الطاغوتين. وقد يتأخر من هو متقدم ويتقدم من هو متأخر دون أن يتغير الدين أو الموقف منه لأن المؤثر في التقدم والتأخر من حيث الذات لا من حيث الصفات هو العلاقة بين صورة العمران ومادته في صلتهما بمحددات التاريخ الطبيعي والتاريخ الحضاري للإنسان.

بذلك نفهم الموقفين الخطرين اللذين يشتركان في ضمير واحد هو محاولة حصر المسألة في الإصلاح الديني سواء اقتصر على ما يزعم إعادة المسلمين إلى الدين بعنف الدولة الدينية (الموقف الأصلاني) أو التخلي عن الدين بعنف الدولة العلمانية (الموقف العلماني). ذلك أن ما ينسب إلى علاقة الجماعة بالدين (الموقف الأول) أو إلى الدين ذاته (الموقف الثاني) ليس هو إلا أحد أعراض طغيان صورة العمران على مادته. فالدولة (السلطان المادي) والتربية (السلطان الرمزي) هما اللتان تفسدان علاقة الإنسان بالدين وقد تفسدان الدين ذاته: لذلك عللت سورة آل عمران تحريف الأديان بالتواطؤ بين رجال الدين ورجال الدولة. وبذلك يتبين أن فساد علاقة الإنسان بالدين سلبا (سبب الانحطاط) أو إيجابا (سبب التقدم) نتيجة لطبيعة استعمال صورة العمران (الدولة والتربية) الدين وليست علة رغم أن قصر النظر العلماني يذهب إلى أكثر من ذلك فيزعم الدين نفسه علة للانحطاط.
فإذا قبلنا بالموقف الأصلاني من الحل بالعودة إلى الدين أو بالموقف العلماني بالتخلي عنه فإننا سنقبل بما يزيد الطين بلة لأن الموقفين يشتركان في الظن بأن هذا الإصلاح يتم بواسطة سياسة وتربية مستبدتين وتعسفيتين يعتبرهما الموقف الأول واجب الدولة الدينية التي عليها أن تعيد الناس إلى الدين بالقوة ويعتقدهما الثاني واجب الدولة العلمانية التي عليها أن تنزع عقائد الناس منهم بالقوة. وبذلك فهما يشتركان في تكليف الدولة والتربية بالدور التعسفي والعنيف لتتدخلا بمقتضاه في العقائد والسلوك الديني إيجابا عند أصحاب الموقف الأول (فرض تربية دينية بعينها) وسلبا عند أصحاب الموقف الثاني (الحرب على الثقافة الدينية) رغم كونها ركن ثقافة الأمة الركين.

العلماني والأصلاني كلاهما يقول بضرورة الطاغوت إكراها في الدين سلبا عند الأول وإيجابا عند الثاني ويكلف بهذا الإكراه صورة العمران حتى تطغى على مادته: الدولة تطغى على الإنسان بالسلطان على رزقه المادي (الاقتصاد) والتربية تطغى عليه بالسطان على ذوقه الروحي (الثقافة) فتقتلان فيه ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية.وبذلك يكون الدواء الذي يقدمانه هو عين الداء. وليس ذلك منهم إلا ثمرة اللاوعي بما يضمره السؤال الفاسد الذي طرحه شكيب أرسلان. ذلك ما ينبغي أن ينتهي إليه سؤاله الخاطئ ويتشارك في الجواب بالحل الديني عليه الأصلاني إيجابا والعلماني سلبا.

المسألة كلها تدور حول فساد العلاقة بين محددات تاريخ الإنسان الطبيعي ومحددات تاريخه الحضاري في ظرف تطابق في الصراع الخاص في حضارة بعينها والصراع العام لكل البشرية بعد أن توحدت المعمورة بمقتضى التكاثر السكاني وتناقص الموارد. فالإنسان قد أصبح خاضعا لقوانين الصراع من أجل الحياة بمنطق عالم الحيوان ففسدت معاني الإنسانية لديه كما قال ابن خلدون في كلامه عن صورة العمران ببعدها السياسي (وتتبعها مادتها أو الإنتاج المادي للرزق أي الاقتصاد) وبعدها التربوي (وتتبعها مادتها أو الإنتاج الرمزي للذوق أي الثقافة) التعسفيتين والعنيفتين في حين أن الواجب يقتضي أن تعمل مؤسسات الدولة والتربية بصورة تحفز مؤسسات الإبداع المادي والإبداع الرمزي إنتاجا وحفظا وتوزيعا ورعاية فيكون العمران البشري سائرا بحسب منطق التعاون والتعارف لا بمنطق الصراع والتناكر.

وعندئذ يمكن الكلام عن دور الدين الذي يقرأ مشجعا أو محبطا لهذا الخيار بحسب تصرف صورة العمران دون أن يكون محددا لفعاليته إيجابا أو سلبا لأن المشكل كله هو في فساد الآليات الطبيعية لصورة العمران وليس في دور المحفزات الشرعية التي لا تتدخل إلا بشرط عمل الآليات الطبيعية للكائن البشري فردا وجماعة. وقد طبق ابن خلدون هذه العلاقة بين محددات الجوهر ومحددات الكيف في الظاهرات التاريخية على السلطة السياسية عندما ربط بين العصبية والدين في تأويل التاريخ السياسي الإسلامي مبينا أن الرسل أنفسهم لا يمكن أن تنجح دعوتهم من غير عصبية فكيف بغيرهم. لكنه يبين أن الدين يضفي على العصبية شرعية خلقية تزيدها قوة في قلوب المواطنين فيعطي للدولة كيفا وجوديا قد تقوم بدونه لكنها تؤول إلى الفساد السريع.

ويمكن أن نثبت ذلك بالعلاقة بين ممارسة الشعائر الدينية وأخلاق الجماعة. فممارسة الشعائر الدينية لا تضمن حصول التخلق إلا إذا كانت ممارسة حرة وعن قناعة شخصية. أما إذا كانت الممارسة مجرد عادة كما هو الشأن في الغالب وخاصة عند موظفيها سياسيا فإنها تكاد تكون عديمة الأثر على الخلق بدليل أن أصحابها يؤمنون بمنطق: اعمل الفرض وانقب الأرض (أي تصرف كغيرك فافسد فيها وافعل ما تقتضيه الضرورة!) أو بمنطق “حج وزمزم وعاد للبلاء متحزم”.
فتراهم يكذبون ويغشون وينافقون لكأن ممارسة الشعائر مجرد تخلص من فرض وليست قياما به من أجل الوصول إلى ثمراته. ولو لم يكن التدين الصادق ثمرة للتخلق لما قال الرسول الكريم إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق. ولهذه العلة أكد الغزالي على ضرورة الجمع بين الفقهين: فقه الباطن وهو مكارم الأخلاق وفقه الظاهر وهو احترام القانون. الدين ليس فاعلا بذاته بل بالكيف الذي يجعله فاعلا: والكيف الذي يعطيه الفاعلية هو طبيعة استعمال صورة العمران ببعديها السياسي والتربوي في مجالي مادته ببعديها الاقتصادي(الحقوق المادية) والثقافي (الحقوق المعنوية) للذات الإنسانية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي