1-إذا أردت أن تفهم القصد بالحضارة الاستهلاكية الخالصة أي التي تبيع منتج الطبيعة لتستورد منتج الحضارة فزر مدينة عربية حديثة في الصحراء.
2-أمثالها موجودة في جنوب شرق آسيا لكن أصحابها لم يكتفوا باستيراد الاستهلاك بل اندرجوا في الإنتاج المناسب للمستهلكات الثانوية على الاقل.
3-لكن الصنفين الجنوب شرق آسيوي والخليجي لا دور لهما في أساس الحضارة أعني ما يجعل الانتاج والاستهلاك يعتمدان على الإبداع الفكري والعلمي.
4-ونكبة النكبات هي الفقراء العرب: فهم لا من هؤلاء ولا من هؤلاء. ورمزهم عرب السياحة والوقاحة عندما يتوهمون أن العيش هو العيش التابع لهؤلاء وهؤلاء .
5-وما يقال عن عرب السياحة والوقاحة لا يخصهم. فحتى غرب السياحة والوقاحة آل به الأمر إلى الإفلاس والاستعداد لبيع الأرض بعد بيع العرض: اليونان واسبانيا.
6-وما قلته في 4 علته أن الداء يعم العرب ولا يخص الخليج. وما قلته في 5 علته أن الداء يعم كل من لم يفهم سر الحرية والاستقلال ولا يخص العرب.
7-إذن ما الداء؟ أخذ الحضارة عامة والحديثة منها خاصة بالمقلوب: النتائج المباشرة بدل العلل البعيدة.جوهر خلافي مع مزيف الحداثيين وسطحييهم.
8-فمن السهل أن تستورد كل ما تريد إذا كان عندك ما تبيع مما لم تنتج: الثروات الطبيعية الخارجية والثروات الطبيعية الذاتية وعرض العباد وأخيرا أرض البلاد.
9-فالثروات الطبيعية الخارجية مثل بيع الطاقة والمعادن. والثروات الطبيعية الذاتية مثل بيع المناخ والنساء. وبيع البلاد مثل بيع التراث والقبول بالقواعد.
10-وهذه البيوعات كلها تحقق عكس المطلوب: فإذا كان التحديث يهدف إلى تحرير الإنسان فإن هذه جميعا تؤدي إلى استعباده وتبعيته لأسياد العالم.
11-بعض العرب يبيعون الثروات الطبيعية الخارجية. وبعضهم يبيعون الثروات الطبيعية الذاتية. وبعضهم يبيع عرض العباد. وبعضهم يبيع أرض البلاد. فلم يبق بينهم أسياد لأن البائع أكثر عبودية من المبيع.
12-إذا أصبح الكل عبيد للاستهلاك عجزا عن الانتاج فإن ذلك دليل قطعي على أن الأمة في غاية الانحطاط وهي آيلة إلى عبودية الإخلاد إلى الارض.
13-الإخلاد إلى الأرض هو أن يكون المرء كالكلب يلهث حملت عليه أو لم تحمل:يلهث وراء الشهوات التي يشبعها ببيع ذاته مقابل البضائع والخدمات.
14-ما المخرج؟ فلنقس هذه النكبة الاختيارية -لأنها بفعلهم الإرادي أو بصورة أدق بعدم شجاعتهم على العمل المبدع والمنتج- التي آل إليها وضع العرب على النكبات الاضطرارية التي مرت بها أمتان عظميان سلفنا والألمان.
15-ولأبدأ بالألمان: بعد الحربين خرج الألمان مرتين من نكبتيهم بأساس البناء الحضاري أي بالإبداع العلمي وتطبيقاته وبالعمل الجدي والمنتج.
16-لم يقبلوا أن يعيشوا بما لا يملكون وبما يتجاوز قدرتهم على تصدير ثمرة العمل الذي يضاهي على الأقل المستورد بل عملوا بما يشبه الإعجاز.
17-فهل يوجد شعب عربي اليوم يعمل فضلا عن عمل يقرب من العادي حتى لا نطمح في عمل يشبه الإعجاز؟ لو حسبت أن العربي يعمل ربع ساعة في اليوم.
18-العربي يعيش ليأكل و…لا غير. وحتى من يعمل فهو في البلاد الفقير من السخرية للمعامل الأجنبية التي لم تأت لكفاءة العمالة بل لرخصها.
19-ولنعد إلى السلف. كيف أمكن لقبائل عربية أغلبها بدائي ومتوحش أن تبني دولة صارت إمبراطورية في أقل من نصف قرن؟ أليس بسبب أخلاق العمل؟
20-وأخلاق العمل حينها كانت نوعين: الجرأة على استكشاف العالم وفتحه والقدرة على بناء المدن المناسبة لهذه الوظيفة الجهادية والاجتهادية معا.
21-صحيح أن البعض منهم استورد المتع الدنيوية.لكنهم في أقل من قرن جعلوا حضارتهم مصدر إحياء كل التراث العلمي الإنساني وبداية تطويره الثوري.
22-فماذا فعلنا بعد قرنين كاملين من التواصل مع الغرب؟ هل يمكن مقارنة أي دولة عربية مع اليابان أو حتى مع كوريا الجنوبية أو حتى مع ماليزيا إذا تجاوزنا الناطحات؟
23-وطبعا فليس ذلك لعلة عنصرية ولا لعلة عقدية -لذلك ذكرنا السلف- بل خاصة لعلل سياسية وانحطاط ثقافي وخلقي هو معركة الانحطاطين الكاريكاتورية.
24-والعلل السياسية هي نكبتا العسكر (لا الدفاع) والقبلية (لا القبيلة) المسيطرين الذين جعلا مؤسسات الدولة مهازل عالمية. والعلل الخلقية هي حال النخب التابعة لهما.
25-أما معركة الانحطاطين الكاريكاتورية فيه الحرب الأهلية والصدام الحضاري بين التأصيل والتحديث المستبدين القاتلين بعنفهما لمعاني الإنسانية (ابن خلدون).
26-والعنف أصبح إرهابين: عنف اللكمة وعنف الكلمة أو عنيف مليشيات السيف وعنيف مليشيات القلم.الأول يقتل الاجتهاد بتحريف الجهاد.والثاني العكس.
27-والذي يقتل الاجتهاد بتحريف الجهاد هو العنف المادي والذي يقتل الجهاد بتحريف الاجتهاد هو العنف الرمزي: كلاهما يريد إحياء قشور الماضي .
28-فالذي يدعي التأصيل لا يرى من الماضي إلا قشوره. والذي يدعي التحديث لا يرى من الحداثة إلا قشورها. لكن الصفين يؤمنان بصدام الحضارات.
29-التأصيلي يتصور التأصيل حربا على التحديث.والتحديثي يتصور التحديث حربا على التأصيل: كلاهما ذو نزعة تهديمية لذاته بماضينا أو بماضي غيرنـا لأن التقليد لا يكون إلا لما مضى.
30-والتهديم هنا علته أن تحريف الجهاد صار إرهابا ماديا وتحريف الاجتهاد صار إرهابا رمزيا وأصبحت الأمة تعيش حربا أهلية بين إرهابين مطبقين عليها وحائلين دونها والبناء الموجب.
31-والعلاج بين: فالقيم التي تبني الأمم مشتركة بين كل الحضارات: العلم والعمل على علم بأخلاق الإبداع والاجتهاد وبحمايتها بالجهاد. وهذه سنة كونية متجاوزة للخصوصيات الثقافية.
32-لكن ذلك لا يكون من دون حكم صالح وتربية راقية. مشكلنا إذن هو عين مطالب الثورة: الإصلاح السياسي والإصلاح التربوي مع شروط عدم التبعية.
33-وشروط عدم التبعية تقتضي التحرر من الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين لأن الأولى تمنع التنمية المادية والثاني يمنع التنمية الثقافية.
34-وبهذا المعنى فإن مطلبي ثورة الربيع على الاستبداد والفساد (إصلاح سياسي) مرتبطة بثورة العاصفة على الاستضعاف والاستتباع: الحرية والتحرر.
35-وبذلك يتبين أن الحل الحالي لتحقيق شروط الاستئناف هو عينه الحل الماضي لتحقيق النشأة الأولى: فلا يمكن من دون التحرر والتحرير بناء حضارة.