لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله صورة التعامل
بينا في الفصل الأول أن “التعامل بين الله والإنسان” شديد التعقيد والمفارقة. فلكأن الله يتنازل فيه ويعامل الإنسان ويتبادل الرضا معه: مصدر العجب.
ومصدر العجب هو أن ذلك ليس مجرد دعوى من الإنسان. فالقرآن يقول بذلك. لكن مصدر العجب الثاني هو ان الإنسان يتجرأ على توهم الندية فلا يرضى.
وهذا ما يؤول إلى المسألة الثانية التي نريد تعميق البحث فيها بعد أن أدركنا سرها: التوازي بين أنواع الإيمان وأنواع الإلحاد في كل الأديان.
وهي أم المسائل في فلسفة الدين. والكلام فيها ليس دينيا بل فلسفي لأن الدين هنا موضوع البحث والباحث هو الفلسفة لا الدين: لكن الجواب مشترك.
سأفترض أننا ننطلق من موقفين موروثين: شاب من أسرة متدينة وشاب من أسرة ملحدة كلاهما بدأ يشك في الموروث. فنكون أمام حيرتين متقابلتين تماما.
فالأول قد يكون مآله الخروج من الملة التي رُبي عليها فيلحد والثاني قد يخرج من الملة التي ربي عليها فيؤمن. وإذن فالشابان عاشا نفس الثورة.
لكن المآلين مختلفان لأن المنطلقين مختلفين. ومن ثم فهما لم يلامسا بعد الإشكالية إشكالية الإيمان والإلحاد بل هما أرادا التحرر من الموروث.
فلنسم ثورتهما ثورة الخروج من التقليد وبداية التفكير الذاتي المتحرر من سلطة الآباء. لكن هذه الثورة ليست مقصورة على التحرر من سلطة الآباء.
لا بد أن يكون وراءها ما يدعو للشك أولا في سلطة الآباء: فالشابان يشكان عادة بسبب ما لاحظاه من تناقضات من يقلدونهما وغالبا ما تكون بين القول والفعل.
وهو دافع عميق: فالآباء من جنس الحاكم فيكون فعله براغماتيا مع المبادئ والشابان من جنس المعارض الذي يكون صارما في الكلام المبدئي والمثالي.
هل هي إشكالية إكراهات الواقع والغفلة عنها أو بمناورة حاكم ومعارض؟ أم هي إشكالية ما يعنيه: أحسن التقويم عند الشابين قبل الرد أسفل سافلين؟
فأنت تشعر أن الشابين يثوران على موروث فقد روحه: فالمؤمن التقليدي والملحد التقليدي يعيشان عادات اعتقادية خالية من اساسها الروحي: حيرة الوجود.
الشاب الثائر على الموروث الروحي شبابه العضوي ثورة على الموروث البايولوجي. لذلك فغالبا ما يتلازم شعوران بثورة عضوية وروحية في سن المراهقة.
سن المراهقة هي سن نظر الإنسان فيما فطر عليه تمييزا بين حال الرد إلى أسفل سافلين فيما يسمى واقع الكهول وأحسن التقويم في مثالية الشباب.
وأفضل مثال عندنا هو الجيل الذي حقق شروط الرسالة التاريخية في الدعوة المحمدية: كانت ثورة شباب العرب على كبارهم من أجل قيم القرآن العليا.
اليوم نعيش ثوْرة شبابية ضد نكوص العرب إلى الجاهلية بمعنييها اللذين عاشهما العرب قبل الرسالة: عبودية مناذرة العرب وغساسنتهم وجاهلية الجزيرة.
جاهلية الجزيرة انقرضت وعبيد فارس وبيزنطة عوضهم عبيد الاستعمار الغربي بتوسط الذراعين الجامعين بين مشروعهما ودور شرطي الإقليم: إسرائيل وإيران.
والأمل هو أن يتحرر شباب العرب من الموروثين المزعوم تأصيليا (في الأنظمة القبلية) والمزعوم تحديثيا (في الأنظمة العسكرية) الفطرة المتحررة منهما.
فماذا يلاحظه الشاب الذي يثور على ما في الموروث العضوي (تحولات بدنه) والروحي (تحولات رؤاه) من مناف لعنفوان الحياة البدنية والروحية؟
ظاهرتان: أصل وفرع.
– الأولى تشبه تحول حمم بركان الحياة بعد برودتها إلى صخور جامدة.
– والثانية هي التشبث بهذا الوجود الساكن والفاقد للحيوية.
فتبدو القضية وكأنها صراع أجيال أحدهما يدعي فضل الخبرة وما أثبتته التجربة الماضية والثاني فضل الإبداع ما لم تعد التجربة الماضية كافية فيه.
وليست الدعوتين إلا من أعراض توالي اللاعبين في سباق إيصالها إلى غاية اللعبة. وهي هنا: كيف يحقق الإنسان معاني الاستخلاف فلا يخلد إلى الانحطاط؟
عدم التغيير في الموروثين يعني الموت: بايولوجيا غلبة الشيخوخة تعني تناقص النسل وروحيا غلبة التقليد تعني تناقص الابداع. تلازم الانحطاطين.
تمسك الشيوخ بالحياة العضوية وتمسكهم بالسلطان الروحي يؤدي إلى موت الجماعة بسبب انحطاط العنفوانين العضوي والروحي في جماعة يحكمها الموتى.
أبستمولوجيا: المتشبثون بالموروث دون روحه نظرتهم كلامية تقيس الغائب على الشاهد ردا لكل جديد إلى القديم. والثائرون عليهم يعكسون بنظرة علمية.
فالتجديد هو دائما قيس للشاهد على الغائب أي أن ما يسمى “واقعا” عندهم هو المثال غير المتعين الذي يحرك “الواقع” المتعين لأنه فقد سيلانه الحي.
المثال طاقة جذابة إلى الأعلى و”الواقع” عطالة جاذبيتها ضديدة. المثال ممكن مفتوح على الإبداع و”الواقع” حاصل منغلق على التقليد: حياة مقابل موت.
وتداول بين إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي شرط بقاء الحضارة. فإذا توقف عضويا وروحيا حصل الانحطاط: الشباب سيستعيد روح الموروثين.
الإيمان الحي غاية والإلحاد الحي غاية. وهما غايتان متوالجتان كلتاهما تتأرجح بين الشك واليقين الذي تنور الوجود في كيان أي إنسان صادق مع نفسه.
فالمؤمن الصادق يرضى عن الله لأنه يرى الأخيار. والملحد الصادق لا يرضى عن الله لأنه يرى الشرور. فيكون مسارهما خلقيا للتناوس بين الخير والشر.
ولا أحد يصدق نفسه يمكن أن ينكر أن الوجود الإنسان محكوم بهذا النوسان بين الخير والشر بين الرضا والنقمة على الموجود مع الاعتراف بأن ذلك كذلك.
فيكون الفرق بين الرجلين هو تغليب طابع الشر في الوجود أو طابع الخير. وعندما ينضح الفكر يجد أن الحكمين نسبيان وأنهما معرضان لما هو بمعزل عنهما.
فهما نسبيان إلى منزلة الإنسان من حيث خليفة: فإذا أدرك معنى الاستخلاف ومسؤوليته على ما يعمل تخلص من النوسان الناتج عن الاستسلام للأحداث.
وحينئذ يدرك الإنسان مؤمنا كان أو ملحدا أن الأمر لا يتعلق بموقف تصوري بل بسلوك يقاس به الإيمان والإلحاد: الاجتهاد والجهاد شرطي الفاعلية.
فإذا كان المجتهد والمجاهد مدركا لشروطهما صار بالضرورة صادقا وحينها سيكون مؤمنا صادقا ولن يستطيع البقاء مترددا تردد المتفصي من المسؤولية.
لذلك فما يقوله الوجودي الملحد ينفيه مباشرة عندم يدعي أنه مسؤول عن كل ما يجري في العالم مسؤولية خلقية: فهذا هو جوهر الإيمان. والباقي صيغه.
أي إن الوجودي الملحد يكذب نفسه مباشرة بمجرد أن يدعي هذه المسؤولية: فهو لا يمكن أن يكون مسؤولا عن العالم كله إلا بمقتضى رؤية دينية للعالم.
فالوجودي الملحد ليس غبيا فيتصور نفسه وهو لا يجهل نسبية قدراته الفعلية مسؤولا خلقيا عما يحدث في العالم من دون رؤيته الوحدة الخلقية للإنسانية.
وهو إذن مؤمن لا واع. أقواله تناقض أفعاله: أفعاله مسؤولية خلقية كونية للإنسان-وهو الاستخلاف-وأقواله من المفروض أن تدل على الاخلاد إلى الأرض.
صحيح أن التعريف الفقهي للإيمان يركز خاصة على الاقوال في العقائد وعلى الممارسة في جزء العبادات من الشرائع. نسوا شرط الأفعال وشرط المعاملات.
شرط الأفعال هو الصدق في العمل المقوم الثاني للإيمان. وشرط المعاملات هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر أو شورى الأمة في إدارة أمرها بذاتها.
فاكتفوا من الإيمان بظاهر العمل أي النفاق. واكتفوا بأمر الأمة بالعبادات وتركوا أمرها للمستبدين والفاسدين: وتلك هي علة ثورة الشباب على الشياب.
والظاهرة واحدة بين أدعياء التأصيل وأدعياء التحديث لذلك فعلة الثورة لدى نوعي الشباب هي هذا الانحراف في الحكم والتربية: وبهما يبدأ الإصلاح.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها