لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهصف الثورة
بين التذرر ولعب الذراري
شخصيا لا أنزعج مما يسرب من مواقف الحكام والنخب العربية التي تدور في فلكهم حول القدس خاصة وحول كل ما يجري في الاقليم. فلو كانوا ذوي شرعية لكان الكلام في مواقفهم لها أو عليها ذا معنى. أما وهم لا يمثلون إلا خوفهم والسعي لضمان بقائهم دمى في يد من نلومهم على موقفهم منه فهذا عبث.
لست أدري ما العجيب في أن يكون موقفهم ما يسرب ونحن نعلمه قبل التسريب ليس لأن لدينا ما يثبته فحسب بل لأن ذلك لا يمكن ألا يكون كذلك: كيف تطلب من المحمي أن يعارض حماته؟
وإذا وجدت محميا يعارض فاعلم أنه أقنع حاميه بأن موقفه مجرد كلام للاستهلاك المحلي لا غير.
ولا أريد أن أتكلم على الحكام. فمواقفهم لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه. فلا أحد منهم له شروط السيادة أعني القدرة على حماية ما يسميه وطنه-في الحقيقة محمية أجنبية-ورعاية شعبه فالكلام على مواقفهم فاقد لكل معنى: لأن موقف التابع فيهما حتى لو ادعى الشجاعة لا يكون حقيقيا وصادقا.
ما أنوي الكلام عليه هو النخب واستثني منهم النخب التي هي من أزلام الأنظمة أو توابع التوابع. أنوي الكلام على النخب التي تدعي الانتماء إلى عقائد دينية أو فلسفية وتزعم أخذ مواقف مبدئية مبنية على عقائدها وتناضل من أجلها وهم أربعة أصناف: الإسلام والقومي واليساري والليبرالي.
من استثنيتهم من النخب هم النوع الخامس الذي هو في خدمة القائم دائما بحسب النظام السائد في بلده وهما نوعان مضاعفان:
العسكري الذي يدعي القومية أو القطرية.
والقبلي الذي يدعي الإسلامية أو القطرية.
والنوعان في حرب أهلية منذ خمسينات القرن الماضي بسبب التبعية للعملاقين واليوم لذراعيهما.
لا يوجد أحد بلغت به السذاجة إلى حد التعجب من مواقف من استبدوا بجيوش العرب وقبائلهم من العملاء واستعملوهما للاستبداد بالشعوب والأوطان مواقفهم التي نحن في غنى عنها لمعرفة أنهم عملاء: لو كانوا ذوي ولاء لشعوبهم وأوطانهم لكانت لهم شرعية تغنيهم عن الولاء لغيرهم ولكان لمواقفهم أثر.
فبعضهم مدين لبقائه إلى رضا إسرائيل والبعض الآخر لإيران ومن وراء إسرائيل وإيران من ذوي الفضل على استخدامهم نوابا للاستعمار المباشر وكلاهما لا يمكن أن أصدقه حتى لو رأيته يهرع إلى المنازلة اللفظية التي من جنس خطاب الممانعة: فهذا للتخدير وليس للتغيير. لذلك فمواقفهم لا تهمني البتة.
فهذا ما يفعل بشار والسيسي وحفتر والمراهق من أمراء الخليج الذين يزعمون علمنته بنصائح بلار وكوشنار وبعض تلاميذ الموساد من الذين يسهمون في إضاعة ما بقي من فلسطين ومن سمعة نخبها الذين توزعوا على نوعي الانظمة العربية بدلا من أن يكونوا حصنا لفلسطين قبل غيرهم من العرب والمسلمين.
كنت أتوقع أن يسعى الإسلامي والقومي واليساري والليبرالي ممن ليسوا أزلام الانظمة أو بصورة إيجابية ممن ينبغي أن تعتمد عليهم الثورة لحماية الشعوب والأوطان من سورة الثورة المضادة وأيدي البطش بالشعوب إلى تكوين جبهة ليس لهذا السبب فحسب بل لأنهم هم بدورهم مضطهدون لعلل متكاملة.
فـ:
الإسلامي مضطهد في حريته الروحية
والقومي في رؤيته القومية
واليساري في رؤيته الاجتماعية
والليبرالي في حرياته الفردية. والتعاكس واضع:
1 و4 يشتركان في الحرية لكنهما يتعاديان بفهم عقيم للعلاقة بين الدين والفلسفة و2و3- يعاديانهما معا رغم تقابل قومية الثاني وكونية الثالث.
وكان من المفروض ألا يتصادم الإسلامي والليبرالي لأن الائتلاف بينهما أهم بكثير من الاختلاف: في الاقتصاد والسياسية الإسلام ليبرالي والخلاف مع الليبرالية هو في مسألة القيم المتعلقة بالحريات الفردية. والمعلوم أن الإسلامي لا يعارض الحريات الفردية بل يعارض جعلها عمومية.
فالفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة أو بين الفضاءين الخاص والعام من مميزات الرؤية الإسلامية حتى وإن كان الفقه في مرحلة الانحطاط لم يحافظ على الفضاء الخاص بل فرض على الخاص ما ينطبق على العام. نسوا قصة ما أفحم به الفاروق لما تجسس على من كانوا يسكرون في فضائهم الخاص.
والليبرالي فقهاؤه يريدون فرض الخاص على العام. لا يكتفي بحرياته الفردية في فضائه الخاص بل يريد فرضها على الفضاء العام. فلكأن أحد العابثين في السياقة يريد فرض عبثه على قانون الطرقات. الفضاء العام يخضع لما يشبه قانون الطرقات: شروط العيش المشترك تقتضي الفصل بين الفضاءين.
وما لم أفهمه من علاقة التنافر بين الليبرالي والإسلامي وفسرته بسوء التفاهم تفسيره يزداد عمقا بما لم أفهمه من علاقة التوافق بين اليساري والقومي. فالزوجان الأولان الائتلاف بينهما أكبر من الاختلاف والزوجان الثانيان الاختلاف أكبر من الائتلاف. ومع ذلك فهذان متفقان وذانك غير متفقين.
ويوجد بنيهم سوء تفاهم أدى إلى التفاهم: فلست أفهم كيف يمكن التوفيق بين شوفينية القومية وكونية الاشتراكية مثلا. لكن القوميين واليساريين متفقون. والإسلاميون والليبراليون مختلفون: ما الذي يجعل الأولين متصادقين والثانيين متعاديين؟
الجامع هو سخافة الفصل بين الديني والسياسي أو العلمانية.
ذلك أنه كان من المفروض الا يتفق ليبرالي ويساري أبدا: فالأول قائل بالفردانية والثاني قائل بالجمعانية أو بسلطان الجماعة على الفرد الذي ينبغي أن يكون -بنحو ما-تابعا لكنسية العلمانية أو الحزب اليساري الذي ينسحق فيه الفرد تماما لان النومونكلاتورا الحزبية كهنوت دنيوي أو علماني.
وبصورة خاصة في حالة القومية والإسلام كان من المفروض الا يكون قوميا عربيا محاربا للإسلام لأن العروبة لم يكن لها منزلة في التاريخ الكوني من دونه ولأن جل العرب ليسوا قومية عرقية بل هي ثمرة التراث الإسلامي وكل مبالغة في الكلام على القومية لن يبقي فيها إلا ما بقي من قبائل الجاهلية.
واذكر أن أحد الأصدقاء خاطبني في فكرة حزب قومي ذي جناح مغربي. فكان ردي أن أي مغربي يفهم تاريخ المغرب لا يمكن أن يغامر مثل المشرقي فيحافظ على أقل من عشرة في المائة ممن ليسوا مسلمين من العرب ويتنازل عن أكثر من خمسين في المائة من المسلمين من غير العرب: فلو فعل لجعلهم أعداء الإسلام.
سخافة القوميين العرب أنهم بما يزعمونه تعاليا على الفروق الدينية باسم القومية لم يحققوا إلا عكس المطلوب خسروا المستعربين من القوميات الأخرى وجعلوهم يطالبون هم بدورهم بقوميات صار المتطرفون من دعاتها يعتبرون الإسلام إيديولوجيا عربية وليس دينا يوحد بين الأقوام لتتعارف معرفة ومعروفا.
فالكردي في المشرق والأمازيغي في المغرب والزنجي في افريقيا التي استعربت بفضل الإسلام أهم عندي ألف مرة من نزعة شوفينية تعود إلى الجاهلية وإلى ما قبل الإسلام في الهلال بدعوى أن التراث البابلي والفينيقي عربي لأني متلفت إلى مستقبل هذا الاقليم وليس إلى إحياء ما فتتته بداحس والغبراء.
جعلوا هذه الفكرة الهدامة مطية للبعثية التي ليس فيها من العروبة إلا الشعار لأن العروبة نفسها لا معنى لها من دون الإسلام الذي وحدها فجعلها ذات دور كوني ومثلها الناصرية: أحيوا البابلية والفرعونية معتبرين بقية العرب والمستعربين “مجالا حيويا” كما يقول كاتب “الثورة” بسخف الكتاب الاخضر.
ودافعي إذن هو محاولة تعرية هذه الصراعات التي تعود في النهاية إلى تحالف بين القومي واليساري والليبرالي بدعوى العلمانية ضد الإسلامي الذي صار مثلهم مصابا بداء أمراء الحرب الإيديولوجية قياسا على أمراء الحرب العسكرية التي بدأت بمرض فلسطيني الذي فتت المقاومة إلى حركات بعدد شعر الراس.
ثم لحق بهم ما يسمى بالحراكات الجهادية ثم ثلثت بالمقاومة التي تلت الثورة ثم ربعت بحركات التفصي من القضية الإسلامية في الاحزاب التي كان يوحدها التيار الإخواني وهي بهذه تصل أخيرا إلى تفتت النخب التي وصفت فصرنا أمام ليس التفتت فحسب بل التذرر (من الذرة) ولعب الذراري بالتونسي.
وفي الحقيقة فإن الإسلامي لو كان حقا مدركا لدوره لفضل البقاء في المقاومة السلمية وحتى المسلحة إن لزم الامر بدلا من القبول بكل شروط الاعتراف به لكأن من يعطي لنفسه هذا الدور أهل له: فالذي ينبغي أن يكون الأصل هو الإسلامي وليس توابع الحماة وأذرع الاستعمار غير المباشر.
والإسلام إذا كان بحق متحررا من شوائب الانحطاط الذي عاشته الامة فهو في آن محافظ على العروبة لعلاقتها بتراث الإسلام وعلى الحريات لأن ثورة الإسلام مبنية على الحريتين الروحية (إزالة الكنسية) والسياسية (إزالة الحق الإلهي في الحكم) وعلى البعد الاجتماعي لان عامل التضامن أحد الفروض الخمسة.
ومن ثم فهو الأصل والعروبة وقيم التضامن وقيم الحريات فروع منه إذا كان ممثلوه يؤمنون به حقا ولا يركبونه لاستغباء من جعلوهم عامة حتى يكونوا هم خاصة في علوم زائفة فعلومهم هي ما أضافوه من تخريف حول ضروريات الفطرة السليمة والتربية والحكم الحرين أو معاني الإنسانية (ابن خلدون).