لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
لذلك أسس ابن خلدون فلسفة التاريخ التي هي أساس تأسيسه لعلوم الإنسان على هذه البداية (نظرية الاستخلاف) وعلى هذه الغاية (ما سماه نحلة المعاش) وعلى اساسها ميز بين نوعي العمران بمراحلهما المتعددة: العمران البدوي والعمران الحضري يتميزان بنحلة المعاش وعلاقتها باختبار أهلية الاستخلاف.
والقرآن وضع طبيعة نظام الحكم وطبيعة أسلوبه بين هذين القطبين فحدد طبيعة النظام بكونه “أمر الجماعة” وأسلوبه بكونه “شورى بينهم”. وإذا قرأنا ذلك بنظرية أنظمة الحكم وأساليبه تبين لنا أن امر الجماعة يعني راس بوبليكا أي جمهورية وشورى بينها تعني حكم الشعب لنفسه أي ديموقراطية.
ولا معنى لاختبار الاهلية من دون هذين الحريتين الروحية والسياسية لأن الإنسان المستخلف يكون فاقدا لشرطي التكليف والتقييم عمله. ليس هو من يعمل التاريخ فكرا ويدا بل هو تابع لوسيط روحي ولوصي سياسي هما من يفعل تشريعا وتطبيقا وقضاء فيكون الفقه كما نراه منذ الفتنة مبررا لعبودية لغير الله.
والرسول لم يغفل عن ذلك بل توقعه وتكلم على الملك العضوض الذي لم يتأخر كثيرا على لحظته إذ هو قد بدأ مباشرة بعد الفتنة وانقسم إلى نوعين: النوع الذي نكص عن هذا التحديد القرآني لنظام الحكم واسلوبه بالوساطة والوصاية (التشيع والباطنية) والنوع الذي نكص بالأفعال دون الأقوال أي السنة.
فالسنة في أفعالها رغم بقاء أقوالها مطابقة لنظرية القرآن. فأصيبت بفصام حرف كل الاعمال لأنها عوضت الوساطة بالدور الذي ادعاه علماؤها للرسوخ في العلم فصاروا وسطاء وبالوساطة الروحية برروا الوصاية السياسية وأضفوا الشرعية على تقديم الشوكة على الشرعية حالا لم نبرحها إلى الآن.
والعبودية لله هي الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون. أما الوازع الأجنبي أو الأحكام السلطانية فهو يمكن أن يكون عبودية تابعة للأولى إذا كانت نظرية التربية والحكم تابعة لها. أما في حالة ما حصل بداية من الانتقال من الخلافة على منهاج النبوة إلى الملك العضوض فهي عبودية لغير الله: للمتغلب.
فالله لا يكلف نفسها إلا وسعها. والله حجب الغيب. وآيات القرآن النصية تتضمن غيبا محجوبا يحول دون علم الإنسان النسبي والإحاطة. لذلك فالتكليف لا يتعلق بمعرفة مقاصدها الغيبية بل هو يتعلق بدلالة ما يرينه الله في الآفاق وفي أنفسنا من آياته التي تهدينا أعني قوانين الطبيعة وسنن التاريخ.
والقرآن هو المابعد الإيماني الذي يهدينا إلى سبل معرفة هذه القوانين الطبيعية والسنن التاريخية من خلال الاختبار الذي نحن مطالبون به خلال القيام بمهمتين مناظرتين للتكليف: استعمرنا في الأرض واستخلفنا فيها. واستعمارنا في الأرض شرطه علم قوانين الطبيعة واستخلافنا شرطه علم سنن التاريخ.
ذلك هو الانقلاب الكوبرنيكي الخلدوني: اعتبر البحث فيما بين الطبيعة والإنسان وتبادل الفعل والانفعال بينهما هو مجال البحث لفهم حقيقة الشرائع التي تتعلق بالاختبار والتي هي مدار التكليف. وحدد هذا المجال بكونه العمران البشري والاجتماع الإنساني. علمه والعمل به هو اختبار الأهلية.
ولست غافلا على أن ما احاول بيانه في هذه المحاولة يمكن أن يعتبره علماء الملة كلهم خروجا عن الملة لأن فيه نفيا لكل ما بنوا عليه علومهم الزائفة خضوعا للانقلاب على الدستور بعد الفتنة. وكل محاولات الإصلاح والإحياء ضميرها الوعي به لكن حلوها ما تزال موالية لعلوم مطبوعة به دون وعي بزيفها.
وقد فعلها المرحوم البوطي في حواره معي حول أزمة أصول الفقه. وفيه بينت أن نظرية المقاصد من العلوم الزائفة. فالقانون والاخلاق (وحدتهما هي الفقه) لا يمكن أن نستند فيهما إلى العلم بالغيب الذي هو ليس في متناولنا. وكل تفسير للقرآن يتجاوز عالم الشهادة ليس علما رغم وهم الرسوخ في العلم.
ما نعلمه هو ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس اي في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي. والاول هو عالم الخلق المشهود والثاني هو عالم الامر المشهود. والاول من طبيعة رياضية تجريبية يستدل به القرآن على وجود الله ووحدانيته بنظام العالم والثاني سياسية تجريبية للاستدلال بنظام أمره.
وكل علمنا اجتهادي وليس فيه شيء من دعوى القطعيات. هو اجتهاد مأجور إذا صدفت النية حتى لو لم يصب. والاختبار يعتبره جزء من إثبات الاهلية أو من سلبها. فيمكن للأمة أن تشهد على العالمين. فشهادتها لا تقتصر على الإيمان بمقومات الاسلام النصية بل تتضمن الاختبار التاريخي فيما يترتب عليه.
وللمرة الألف أعيد فأذكر بعلم الإنسان اجتهادي ولا قطعي فيه سواء كان من علوم الدين أو من علوم الدنيا. هو اجتهاد في حدود الشاهد لا يتجاوزه وكل ادعاء للقطعيات غير الإيمانية وهم. العلمي لا يحتاج للقطعي الإيماني بل هو بحاجة لقطع التسلسل والدور في عملية تأسيس نظرياته على فرضيات.
والفرضيات تبقى صالحة ما ظلت قادرة على تفسير الظاهرة المدروسة تفسيرا يرضى عنه العقلاء وتؤيده التجربة. لكنها ليس علما مطلقا بل هو في صيرورة دائمة بصيرورة تقدم المعرفة وخاصة معرفة أدوات الأدراك الطبيعي والصناعية وهي ما نرى به مع البصيرة آيات الله في الآفاق والأنفس.
فإذا توهمنا أن هذا المطالب موجودة في ألفاظ القرآن فنحن نكون قد ألغينا كل معنى للاختبار الذي يرمز إليه مشهد الاستخلاف ومزاعم ابليس حول عدم أهلية الإنسان للاستخلاف. وهذا الكلام ما كنت لاستعمله لولا أن المشكل هو مع من يزعمون تمثيله حتى صار أبو قتادة يحاكم آرائي بتخريفه حول العلم.
لو كان الحوار مع العلمانيين لكان مجال الخطاب غير. فدعواهم الاستغناء عما وراء الطبيعة والتاريخ من حاجة إلى الدين والله وظنهم أن القرآن مثل غيره من المراجع الدينية هما موضوع النقاش معهم. وهم في كلا الأمرين أكثر لاعقلانية من أبي قتادة: هو يعيش في التحريف الجزئي وهم في الكلي.
فحتى أكثر الابداعات الإنسانية متانة -علوم المقدرات الذهنية (الرياضيات والمنطق) وأعمالها الفنية (السياسيات والتاريخ) -ليست غنية عن الإيمان بأمرين على الاقل: الأول أن العالم ذو نظام يقبل المعرفة وأن الإنسان ذو عقل يقدر على ذلك. فمن دون هذين الشرطين لا إمكانية ولا حاجة للعلم والعمل.
ومجرد هذه الحاجة والإمكانية تعني أن للعالم نظاما لا يبدعه عقل الإنسان بل يتلقاه أمرا واقعا لا سلطان له عليه وهو إذن إيمان أسمى بأن الإنسان مهما ألحد لا يمكنه أن ينفي أنه محوط بما لا سلطان له عليه وأنه لا يمكن أن يدركه وأن يفهمه وأن يعتبره ذا نظام قابل للعلم والعمل فيه على علم.
وتلك هي ثورة الإسلام. وهو الديني في كل الاديان التي لا تختلف عنه إلا بما فيها من تحريف للديني. ولذلك فهو لا يرفضها بل يراجعها بمعيار التصديق والهيمنة حتى يحررها من الاغترابين الروحي (وساطة الاستبداد الروحي في التربية) والسياسي (وصاية الاستبداد السياسي في الحكم): لا عبودية لغير الله.
فالتحرر من الفتنة الكبرى وما ترتب عليها مداره عين مدار التحرر من الفتنة الصغرى وما يترتب عليهما حاليا من الوقوع تحت وساطة الاستبداد الروحي (الخداع الإعلامي لمافية العالم وعملائها) ووصاية الاستبداد السياسي (الخداع السياسي لمافية العالم وعملائها): الإسلام يحدد القبلة من جديد.