لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
لما شرعت في الكلام في الشكوك على المقاصد لم أكن أنوي علاج مسألة تأسيس الفقه وتأصيله بوصفه في آن فلسفة القانون عامة عامه وخاصه ومن ثم تحديد صلته بفلسفة السياسة ببعديها تربية (وظيفة الرعاية: العلاقة بالتكوين والتموين) وحكما (وظيفة الحماية: العلاقة بالحماية الداخلية والخارجية).
لكن المقام لم يكن مناسبا لتفصيل ذلك. وتلك هي علة اضطراري لهذه المحاولة التي تبدو قد طالت أكثر من المنتظر. لكن لا بد مما ليس منه بد. فلا يمكن للأمة أن تستأنف دورها بفقه الحركات الإسلامية الذي هو متخلف حتى على فقه قرون الانحطاط إذ شتان بين هذا وبين فقه داعش وبوكو حرام.
فهذا الفقه حتى لو مطط بفقه المقاصد هو الذي يجعل حجج العلمانيين والليبراليين مؤثرة حتى وإن كانوا نوعا مضاعفا من الدعشنة والبوكوية الحرامية. فكلاهما كاريكاتور مما يدعيه مرجعية: فلا هؤلاء يمثلون الحداثة ولا أولئك يمثلون الأصالة. كلاهما مقلد بليد لتراث عتيد ولا ثورة تتأسس على التقليد.
وحتى لا يكون ما أحاول اثباته وكأنه صادر عن نزعة دخيلة كان لا بد من أن أثبت العلاقة بين النكوصين اللذين حدثا بسبب الحرب الأهلية التي تلت الفتنة (أربعة حروب أهلية بدأت بين أم المؤمنين والإمام علي وانتهت بالحرب بين ابن الزبير وابن مروان مرورا بالحرب بين معاوية وعلي والحرب بين ابنيهما).
والنكوص الاول سياسي وقد تمثل في قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية كالحال في كل حالات الطوارئ التي تعطل الدستور وتجيز المحظور بوصفها مجمع الضرورات. ومنذئذ ظلت الأمة تحكمها حالة الطوارئ التي عطلت الدستور وحكمت القوانين الاستثنائية فصار الأخص ينسخ الأعم.
ونتج عن ذلك تغيير دلالة الـ”و” في آل عمران 7 ليجعلوها عطفية حتى يتحول الرسوخ في العلم إلى عكس ما يفيده: بدلا من الإيمان بالغيب المحجوب صار قدرة على تأويل المتشابه لكأن علم الراسخ يضاهي علم الله المحيط. ومن ثم قال الكلام والفقه والتصوف وحتى التفلسف بنظرية المعرفة المحيطة والمطابقة.
فغرقوا في وهم العلم المستحيل وتركوا العلم الممكن للإنسان أعني الاجتهاد في معرفة الآفاق والانفس لتبين حقيقة القرآن من حيث هو رسالة تذكير للإنسان بما جهز به من قدرات (العلم والعمل) وبما كلف به من مهام لا تعدو شروط بقائه واختبار أهليته الذي شرطه تعمير الارض بقيم الاستخلاف الكوني.
وهذا التوصيف كان يمكن أن يظن ناتجا عن منظور علماني لو كنت أنا صاحبه. لذلك فبيان دور المتقدمين على الفتنة الصغرى (المقابلة بين الديني والعلماني) وبعد الفتنة الكبرى (المقابلة بين الحريتين الروحية والسياسية في المنظور السني ونفيهما في المنظور الشيعي بالوساطة والوصيتين النافيتين لهما).
وهو ما أنسبه إلى من اعتبرتهم ممثلين لمدرسة الفلسفة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون). فالغزالي بين الفرق بين الشيعة والسنة في فضائح الباطنية: المقابلة بين الوصية والاختيار. وابن تيمية بينه في الرد على ابن المطهر وفي السياسة الشرعية. وابن خلدون تحرر من الانقلابين.
فالمقدمة دليل على تجاوزه للانقلابين السياسي والمعرفي. المقدمة هي بداية التحرر من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية والعودة إلى الدستور سياسيا وبداية التحرر من الخوض في الغيب أو العلم الزائف والعودة إلى ما أمر به القرآن (فصلت53) وما نهى عنه (آل عمران 7) لاكتشاف شروط قيام الإنسان.
ولم يبق علي الآن إلا بيان دور الرسالة التوجيهي نحو المطلوب دون تضمنها إياه: ليس في القرآن أي من علوم الملة بل هو ما بعدها الذي يوجه إلى موطنها وطرقها دون أن يتضمن أيا من قوانينها أو سننها لأنه يعتبر اكتشافها (الاجتهاد) والعمل بها (الجهاد) بعدي اختبار أهلية الإنسان للاستخلاف.
القرآن ما بعد يوجه وليس مجلة قوانين أو علوم. وذلك هو دور المرجعية الروحية التي تعرف نفسها بكونها تذكيرا بما هو مرسوم في الفطرة وليست إمدادا بما ليس فيها. وما في الفطرة هو ما سميناه المعادلة الوجودية: القطبان الله والإنسان والوسيطان الطبيعة والتاريخ وما يصلها التواصل بمستوييه.
والمستوى الاول من التواصل بين القطبين الله والإنسان هو الرسالة التذكيرية ورد الإنسان عليها. وهي ما بعدية وتوجيهية نحو مجال التكليف والاختبار دون أن تتضمن ما يغني عن الاجتهاد والجهاد لتعمير الارض بقيم الاستخلاف. لكن الانقلابين تصور أصحابهما أن القرآن فيه ما يغني الإنسان عنهما.
وأكد أن ضم المسألة إلى علم الكلام (الأشعري) لم يكن بسبب كونها من العقائد بل بسبب الحاجة إلى دحض النظرية الشيعية التي تعتبر الأمر جزءا من العقيدة. وعندما ينفي نسبتها إلى العقيدة بالمنظور الشيعي فهو لا يعني أنها لا علاقة لها بالعقيدة بل العقيدة هي التي جعلتها اجتهادا للجماعة.
وإذن فالمقابلة ليست بين العقيدة والسياسية بل بين نوعين من تصور العلاقة بينهما: السني يعتبرها جزءا من التكليف الذي تختبر أهلية الإنسان للاستخلاف به أي الاجتهاد السياسي والخلقي (لتنظيم حياة البشر جزء من التكليف والحرية) والجهاد لتعمير الارض والاستخلاف بمقتضاه كلاهما فرض عين.
وهذا الفهم الخلدوني الذي أعد إليه الغزالي وابن تيمية لا يمكن أن ينسب إلى مضمونه بل اكتشافه الذي ظل مخفيا بسبب سلطان العادة السائدة التي فرضها اعتبار الـ”و” في آل عمران 7 عطفية وليست استئنافية فصار الرسوخ في العلم اصلا لكل العلوم الزائفة التي هي سبب الانحطاط والتخلف.
وتحرر ابن خلدون من عائقي الحريتين الروحية والسياسية هو الذي جعله يعلن صراحة نهاية نظرية المعرفة المطابقة مبينا أن الوجود أوسع من الإدراك وأن المعرفة الإنسانية مقبولة في حدود ما يسد حاجاته في تعمير الارض بقيم الاستخلاف والباقي إيماني وليس علميا: اجتهاد يعلم الشاهد ويؤمن بالغيب.
والبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ في أعيانهما وفي أذهان البشر هو الاجتهاد والعمل على علم بنتائجه هو الجهاد في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف. والقرآن يذكرنا بأن ذلك مرسوم في فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو عين التكليف الذي تختبر به أهلية الإنسان للاستخلاف ويحاسب عليه يوم الدين.