لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
أصحاب نظرية المقاصد الأول غير اصحابها الحاليين وإن كانت النتيجة واحدة: تمطيط الاستناد إلى شرح نصوص المرجعية مصدرا لعلم الفقه وتأصيله بخلاف ما تأمر به المرجعية وتنهى عنه. فالفقه وتأصيله منطلقه آيات الله في الآفاق والانفس لتتبين حقيقة القرآن وليس من شرح آيات القرآن والكلام في الغيب.
والأمثلة المضروبة في آيات القرآن لا تصح إلى لعلتين: الأولى لأنها أحكام صاحب العلم المحيط وردت في القرآن والثانية لأن مطبقها الأول هو مبلغها ومن ثم فهي تؤخد على حرفيتها. ولا تقبل التطبيق من قضاة علمهم ليس محيطا وشروط تطبيقها لا متناهية التعين بحسب آيات الله في الآفاق والأنفس.
تطبيق الاحكام القرآنية المباشرة غير ممكن لغير النبي. وكل العلماء يدركونها بصورة غير مباشرة من خلال ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس مع حرز آل عمران 7 التي تحذرنا من الجرأة على المتشابه بدعوى رسوخ في العلم يعطي للعلماء ما يختص به الله: علومنا اجتهادية لشاهد الوجود.
لذلك فكل علوم الملة التي لم تتأسس بما حددته الآيتان لم تتبين حقيقة القرآن بل هي انحرفت عنها وأسست علوما زائفة لا يمكن للأمة أن تبني عليها حضارة قادرة على حماية ذاتها ورعايتها خاصة وقد ساوق ذلك قلب للعلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها في حالة الطوارئ بعد الفتنة.
كل علوم الملة هي بنت هذين القلبين: قلب الآيتين وقلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية بعد الفتنة والحرب الاهلية التي تلتها. والاستئناف لا يمكن أن يتحقق من دون التحرر من هذين القلبين. وهو إذن قد بدأ فكريا منذ المقدمة لكنه لم يصبح فكرا ذا أثر على العمل بعد.
وآخرة العلامات على هذين القلبين نظرية المقاصد التي تريد تمديدهما بمحاولة تمطيط الاستناد المباشر على شرح النصوص بل البحث في آيات الله في الآفاق والانفس. ومما زاد الطين بلة هو توظيف المقاصد لكي تبرر الخضوع لشروط المستعمر باسم فقه الواقع السخيف.
وهو سخيف لأن أصحابه يخلطون بين الواقع والامر الواقع. فالواقع اسم فاعل من الوقع. لكن الامر الواقع هو الموقوع الذي يفرض من موقعه على الموقعين عليه خضوعا وتبعية وليس اختيارا وحرية. كل ما يسمونه مقاصد هو ما به يبررون تطويع الإسلام لغلبة الحضارة الغربية ودين العجل الذهبي ذي الخوار.
والدليل القاطع على أن ما في القرآن من أمثلة مباشرة ليس مما يقاس عليه إنسانيا ليكون أساس للفقه وأصوله المباشر وأن المطلوب هو ما أمرت به فصلت 53وما نهت عنه آل عمران 7هو مواقف الفاروق الذي كان أدرى الناس بهذا الامر: لم يعطل الحكم القرآني بل عمل بهذين الآيتين منطلقا مما يعلم منهما.
فقد أدرك أن آيات الله في الآفاق والانفس هي المنطلق حتى عند الرسول: فهو كان يؤسس دولة في جاهلية لا تعترف بأي قانون غير قانون النهب والسلب والحرب الدائمة. وهذا لا يمكن صده لتأسيس دولة القانون إلا بقانون استثنائي خاص بشروط الانتقال من عدم دولة الجاهلية إلى وجود دولة الإسلام.
ودولة الإسلام تحمي الإنسان وترعاه ومن ثم فتشريعاتها تنبني على الدستور القرآني وليس على الاحكام الاستثنائية لمرحلة بنائها الناقلة من عدم الدولة في الجاهلية إلى الدولة في الإسلام. لذلك فهم الفاروق أنه عليه أن ينطلق من آيات الله في الآفاق والأنفس وليس من الفهم الحرفي للنصوص.
علم الطبيعة غير علم ما بعده. وعلم الشريعة غير علم ما بعدها. المابعد في الحالتين ليس منطلق العلم العيني بل هو منطلق أسسه المنهجية والمفهومية. القرآن ما بعد الشرائع وما بعد الطبائع ولا يعلم ما فيه مباشرة بل بتوسط ما يوجه إليه في الطبائع والشرائع من مجالات بحث تمكن من فهم حقيقته.
وأي إنسان له ذرة من عقل ينبغي أن يفهم أن الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس والتي تتبين بها حقيقة القرآن هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. والأولى رياضية مطبقة على تجربة الطبيعة والثانية سياسية مطبقة على تجربة التاريخ. ذلك ما فهمه الرسول فطبقه وما فهم الصديق والفاروق فطبقاه.
وللنظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية. فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس. ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية ممثلة لحقيقة الشرائع.
ولننظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية. فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس. ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية ممثلة لحقيقة الشرائع.
ومثلما أن هذه المحاولات مكنت الامة من تنظيم شؤونها لمدة أربعة عشر قرنا تماشيا مع حالة الطوارئ التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى فقلبت العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية فإن هذا التنظيم أصبح يقتضي محاولات جنسية لما حققه ابن خلدون بتطبيق الدستور والمعرفة القرآنيين.
والمشكل ان الكثير من المتعجلين يتصورني أؤسس لفقه علماني ما دمت اعتبر الاحكام مقصورة على مرحلة الرسول مربيا وحاكما بوصفه المبلغ الأدرى بدلالة ما يبلغه. لكن ذلك من وهم المتعجلين. فابن خلدون لم يؤسس لفقه يؤصله على نفي الدين بل هو يؤسسه على ما بعد التاريخ: مفهوم الاستخلاف.
وبصورة ادق على اعتبار التاريخ محل اختبار أهلية الإنسان للخلافة. وذلك ينطبق على نظريه وعمله في تحقيق شروط مهمتيه: تعمير الارض بقيم الاستخلاف. الاختبار هو كل التاريخ. لكن الفقهاء السابقين ظنوا الاختبار مجرد تطبيق لنص يمكن أن يفهم كنص وليس كتذكير بمقومات فطرية في الإنسان الخليفة.
وهذه المقومات الفطرية هي بالذات شروط قيام الإنسان في العالم أو في الآفاق والأنفس بما جهز به الإنسان من قدرة على رؤية آيات الله فيهما أي قوانين الطبائع وسنن الشرائع وهي موجودة في الطبيعة والتاريخ وليست في ألفاظ القرآن. والقرآن هو الذي يقول ذلك معتبرا حقيقته في الآفاق والانفس.
والقرآن لم يكتف بذلك بل حدد طبيعة الآيات التي يرينها في الآفاق والأنفس لنتبين أنه الحق: فاعتبر الخلق ذا طبيعة رياضية تجريبية واعتبر الأمر(التاريخ)ذا طبعية سننية تجريبية. وبطبيعة الخلق وبطبيعة الأمر يستدل القرآن على ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ ليوجه الخليفة نحو شروط الأهلية.
ذلك ما فهمته من المنعرجين النظري عند ابن تيمية والعملي عند ابن خلدون: فالأول وضع شروط علم صريح المعقول والثاني علم صحيح المنقول وبهما يمكن القول إن الأمة تجاوزت حالة الطوارئ وآن أوان عودتها إلى الدستور وإلى نظرية المعرفة التي تنفي الإحاطة على الاجتهاد الإنساني.
وإذا كان لي من فضل في هذه المحاولة فهو التنبيه إلى أن قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى وقلب العلاقة بين الآيات النصية في القرآن والآيات المتجلية في الآفاق والانفس يؤديان إلى أن علم هذه شرط في منع القلبين بفضل الحريتين.
فالحرية الروحية التي تمكن المؤمن من العلاقة المباشرة بربه هي التي تجعله في كل لحظة مبدعا في رؤية ما يريه الله من آيات الآفاق والانفس وبهذا الإبداع المعبر عن الحرية الروحية يمكن للإنسان أن ينظم شروط الحرية السياسية أو المشاركة الفعلية في تحقيق شروط الأهلية للاستخلاف: دولة الإسلام.