شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل الثامن عشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

السؤال الاستنكاري الذي انتظره هو: ما هذا؟ هل يعقل أن تكون علوم الملة الخمسة (الفقه والتصوف والكلام والفلسفة وأصلها التفسير) علوما زائفة؟

هل يعقل أن تدعي أنك في آخر الزمان وتثبت ذلك وتعتبره شرطا للاستئناف باقتراح بداية جديدة تعيد العمل بالدستور ونظرية المعرفة الممكنة قرآنيا؟

ويتبع هذا السؤال اتهامي بالاستناد إلى المدرسة النقدية لأبعد عني تهمة الخروج عن الملة بهذا الرأي العجيب. وطبعا فواضعو هذا السؤال لا يمكن أن يجادلوا في أمرين:

الأول هو أن النبي نفسه توقع حصول الانقلاب السياسي والتخلي عن الدستور القرآني وتعويضه بحالة الطوارئ أو الملك العضوض.

وما كنت لأعني بهذه العلوم التي لم يعد أحد يعمل بها أو يهتم بها إذا ما استثنينا طائفتين (أصحاب كاريكاتور التأصيل من جنس بوكو حرام وداعش مدحا وأصحاب كاريكاتور التحديث من جنس العلمانيين والليبراليين العرب هجوا) لولا الاصرار على إحيائها لكان المريض يريد أن يتطبب بالطب الرعواني.

والكثير من أصحاب السؤال الاستنكاري والاتهام المترتب عليه يفعلون بحسن نية. فهم يتصورون الشكوك على علوم الملة شكوك على المرجعية التي انطلق اصحاب هذه العلوم منها لكأني من يشكك في الملك العضوض الموالي للخلافة على منهاج النبوة ويشكك في منهاج النبوة: الملك العضوض يندثر بنفس المرجعية.

فالتحريف الشيعي الذي نفى الحريتين بإعادة الوساطة الروحية في التربية والوصاية السياسية في الحكم يدعي تمثيل المرجعية. والملك العضوض يقول بالحريتين لكنه يعمل بما يشبه التشيع لأن الوساطة الروحية صارت للعلماء مقابل أن تصير الوصاية السياسية للأمراء في الافعال المتدثرة بكاذب الاقوال.

وما يدعيه التشيع لتأسيس الوساطة الروحية هو عصمة الأئمة وما يدعيه التسنن لتأسيسها هو دعوى وراثة العلماء للأنبياء وما يدعيه التشيع لتأسيس الوصاية السياسية هو آل شرعية آل البيت وما يدعيه التسنن لتأسيها هو دعوى شرعية المتغلب. تحريف مضاعف: معارضة باسم واجب زائف وحكم باسم واقع زائف.

الاستئناف لا يكون بإحياء ما كان شرطا في تحريف النشأة الاولى. لا يمكن للنشأة الثانية للعودة إلى منهاج النبوة أو الاستئناف أن يعتمد على عمل (دستور العمل السياسي) وعلم (دستور النظر العلمي) أفسدا  النشأة الأولى التي اخرجت الامة من الخلافة على منهاج النبوة إلى الملك العضوض.

فإذا كان هذا المعنى هو ما يعاب علي فأهلا بكل التهم. وعلى كل فكل المعرفة الإنسانية النظرية والعملية سواء كانت من منطلق ديني أو من منطلق طبيعي مرت بمثل هذه الحالة: لا أحد اليوم يعتمد فلك بطليمس لفهم نظام العالم ولا أحد يعتمد طب ابن سينا لعلاج الأمراض. ومثلها علوم الملة. كلها ماتت.

وتدريسها ليس علما بموضوعاتها بل هو علم بتاريخها ككل الآثار التراثية التي ندرس تاريخها ونعلم أنها آثار لماض مضى وانتهى وأنه علينا أن نستأنف البحث من رأس معتبرينها من التجارب التي كانت ضرورية لتجاوزها والعودة إلى الأصول لإعادة قراءتها القراءة التي تمكن من تحقيق شروط قيام الإنسان.

ولو كنت أحتمي بهؤلاء لأمرر ما اقول لما قلت ما لم يقولوه: لا أحد منهم وضع شكوكا صريحة على علوم الملة بل سكتوا. وسكوتهم ليس علامة على رضاهم بل لأن الظرف لم ينضج بعد لتكون الأمة في فجر الاستئناف. كتبوا وهم يائسون لأنهم كانوا يعايشون عصر الانحطاط الخانق ويبحثون عن مخارج حينية.

أما نحن اليوم فقد لاح لنا فجر الاستئناف: شبابنا بدأ يغير التاريخ ويطلب تطبيق دستور القرآن المبني على الحريتين الروحية والسياسية في النظر والعمل لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. صحيح أن ذلك لا يبدو للعين المجردة. لكن من كان ذا بصيرة يفهم أن الأمة تستأنف دورها فعلا.

قد أكون الخطاف الذي يعلن عن الربيع. لكن الشباب سبقني فهو شرع في تنفيذه فنقل الأمة من كاريكاتور التأصيل بتقليد ما كان علة الانحطاط الذاتي لماضينا ومن كاريكاتور التحديث بتقليد ما كان علة الانحطاط المستورد من المستعمر إلى حقيقة التأصيل والتحديث المطابقين كلية قيم القرآن وعولمته.

وحتى يفهم القارئ القصد من هذه المحاولة فعليه الا يخلطها برأي العروي أو طه حسين من قبله أو بتخريف العلمانيين والليبراليين العرب الذين يتصورون أن نقد تراثنا يعني رمي الطفل مع ماء استحمامه. الطفل هنا هو المرجعية القرآنية والسنية وماء الاستحمام هو كل محاولات فكرنا الماضية.

فالطفل يبقى الأصل والماء تجارب مضت هي مما نعتز به ونعتبر أنفسنا ورثته الذين يتجاوزونه بفضله: ففي تاريخ المعرفة والعلوم الأخطاء من شروط التجاوز والتقدم. وشرط الاستئناف تجاوز انقلابين عملي (تعطيل الدستور السياسي وفرض حالة الطوارئ) وعلمي (تعطيل الدستور المعرفي والتخريف حول الغيب).

وأستطيع القول الآن أن محاولات التجاوز ليست جديدة بل هي كانت موازية لمحاولات التعطيل: كل من انتسب إلى المدرسة النقدية في تاريخ فكرنا من أهل السنة وخاصة من كان يعتبر في نظر العلمانيين والليبراليين العرب الحاليين رجعيين هم في الحقيقة ثوار على هذين الانقلابين على ثورتي الإسلام.

لكن ثورتهم لم تتجاوز مرحلة رد الفعل. لم يبدأ الفعل حقا إلا مع ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل: كلاهما انتقل إلى مرحلة بناء البديل لتجاوز نظرية المعرفة المطابقة عند الاول ولتجاوز نظرية العمل المطابق عند الثاني. فالنظر المطابق والعمل المطابق كلاهما مما يختص به الله.

ما يطلب من الإنسان ليس العلم المطابق ولا العمل المطابق بل الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل لتحقيق شروط المهمتين اللتين يعتبر الإنسان مكلفا بهما لإثبات أهليته للاستخلاف: الحرية الروحية والحرية السياسية هما اساس الاجتهاد والجهاد ونفيهما هو الوساطة الروحية والوصاية السياسية.

لذلك فابن تيمية أعاد النظر في فلسفة النظر فأدرك أن العلم الإنساني مشدود إلى المطلق دون أن يكون مطلقا بل كل معرفة قابلة للتجاوز وكل تصور وراءه تصور أتم منه دون أن يكون الأتم. ومثله أدرك ابن خلدون أن العمل الإنسان جهاد قابل للتجاوز وكل عمل وراءه عمل أتم منه دون أن يكون الأتم.

لم يبق بعد الآن إلى أن ابين أن الآفاق والأنفس التي يرينا الله فيها آياته الدالة على حقيقة القرآن هي عالم الشهادة ببعديه الطبيعي والتاريخي وهما مجال البحث عن العلاقة غير المباشرة بين الإنسان وربه خليفة له في الارض وصلتها بالعلاقة المباشرة بينهما كما تذكر بها الرسالة الخاتمة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي