شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل التاسع عشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

فقد جعل مدار علم العمران البشري والاجتماع الإنساني وسننه السياسية كما تعينت في التاريخ الإنساني كله يدور حول هذا المعنى بعد أن سماه باسم أبدعه وبه نتبين حقيقة الشرائع التي يرينها الله في آياته في الآفاق والانفس: “نحلة المعاش”. وهي ذات بعدين عمودي وأفقي.

فنحلة المعاش علاقة عمودية بين البشر والطبيعة أو الارض التي منها المعاش وعلاقة أفقيهة بين البشر تبعا للعلاقة الاولى وما يتعلق بها من تبادل بينهم ومن تواصل حول ذلك التبادل سلما وحربا. وقد أحصى أشكال هذه النحلة وحدد دورها بوصفها اساس تصنيف أنواع العمران والاجتماع.

وقد لا يصدق القارئ أني ما فهمت منزلة الاقتصاد والملكية وارتباط كل المعاني القرآنية بهما إلا بفضل هذا المفهوم الثوري الذي وضعه ابن خلدون. وما فهمت علاقته بأساس العلاقة الأفقية بين البشر أعني كل ما يتعلق بالزواج وعلاقة المرأة بالرجل ونظرية الارث إلا بفضل ابن خلدون.

وأهم شيء كان يحيرني هو أن اساس القانون الجنائي الذي يوجه إليه القرآن فلسفة الحق يجعل حماية الملكية أهم حتى من حماية النفس البشرية. فحدها وخاصة إذا كانت عنيفة (الحرابة) لا تسامح فيه في حين أن حد قاتل النفس فيه تشجيع على المسامحة فجل جرائم القتل تتعلق بخلافات حول الحقوق والمنازل.

وقد ميز ابن خلدون بين العمران البدوي والعمران الحضري بالاعتماد على معيار نحلة المعاش التي صنفها إلى خمسة أنواع اثنان للأول واثنان للثاني والوسطى هي أساس الانتقال من الاول إلى الثاني: فالوسطى هي نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة لأنها بداية الاستقرار نشأة الدولة.

وما تقدم على نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة نوعان كلاهما يميز البداوة: جني منتج الطبيعة والرعي وهما مجال الترحال. وما يليها نوعان هما نحلة المعاش المعتمد على الصناعة وعلى التجارة. وعندما تنشأ الدولة في المرحلة الوسطى توجد الشرائع المنتظمة وجودها المتعين في مؤسسات وقوانين.

ودراسة هذه التكوينية هي مجال البحث في آيات الله المتعلقة بالفقه وتأصيله أو بالقانون (الوازع الأجنبي أي الذي يأتي من خارج الذات) وبالأخلاق (الوازع الذاتي أي الذي يأتي من الضمير). ذلك هو أحد العلوم التي يكتشفها ابن خلدون في دراسة التاريخ خبرا عن العمران البشري والاجتماع الإنساني.

من يدرس القانون الوضعي يتصور أن القانون الجنائي لا علاقة له بالقانون المدني ولا بالقانون الأسري ولا بالقانون العام بنوعيه (الإداري والدستوري) لكن القرآن دون أن يتضمن هذه الأنواع بجزئياتها يوجهنا إلى مجالات البحث فيها وخاصة إلى طبيعة العلاقة بينها ومن ثم إلى نظام الشرائع عامة.

لكن الشرائع التي يمكن الوصول إليها بالبحث العلمي فيما وجهنا القرآن إليه محلا لآياته التي تتعين في الآفاق والأنفس قوانين وسننا لا يحتوي عليها القرآن بل التاريخ الإنساني ببعدي التشريع فيه: كوازع أجنبي أو الاحكام السلطانية وكوازع ذاتي أو الأحكام الخلقية والروحية الفطرية.

وكل من يفعل ذلك ينسى أن اختبار أهلية الإنسان للخلافة هو نفسه الوجود الدنيوي في المنظور القرآني. فقصة الاستخلاف تبين أن إنزال آدم فيه ما يشبه الرد على التحدي الإبليسي: ادعى أن آدم ليس أهلا للاستخلاف فلم يأتمر بأمر السجود. وعتاة التصوف يعتبرون ذلك فتوة لا يسجد صاحبها لغير الله.

ومن حسن حظي أني عشت إلى لحظة من تاريخ البشرية صارت فيها هذه المقابلة بين رؤية الإسلام للإنسانية ورؤية العجل الذهبي بمعدنه وخواره لها يصبحان مناط كل الخلافات في الجماعة البشرية مسلمة كانت أو غير مسلمة وهي معركة حاسمة في مصير الإنسانية وفي دور شهادة المسلمين على العالمين.

وكنت واثقا من أن موقف المدافعين عن فقه عصور الانحطاط وتأصيله سيعتبرون هذا المنظور علة كافية لاخراجي من الملة وقد سبق المرحوم البوطي أبا قتادة رغم اتزانه وتهور أبي قتادة ومن لف لفه ممن أفسدوا ثورة الشباب بتفاقه يشبه ما كان يرد به ابن رشد على الغزالي ظنا أن علم القدامى مطلق.

ولم أضحك في حياتي أكثر مما حصل عندما قرأت تعليق أبي قتادة على هذه التغريدات. يريدنا أن نتداوى بطب ابن سينا وأن نسير حياتنا بفقه كان علة كل ما حل بالأمة من نكبات. فلا فرق عندي بين من يفسد المعارضة -وهو منهم- ومن يفسد الحكام من الدعاة الذي يتصورون التشقيق اللفظي علما.

القرآن يقول صراحة أن تبين الحق يكون بما يرينه من آيات في الآفاق والانفس وهم يعكسون فلا يقومون بالبحث العلمي فيهما بل يكتفون بشرح الألفاظ: خرافة الاعجاز العلمي. وبكل وقاحة يزعم أن الراسخين في العلم علمهم من جنس علم الله في التأويل فيعطفه عليه.

هؤلاء المخرفون أفسدوا ثورتي الإسلام الروحية والسياسية ويريدون فرض الاستبداد الروحي لمن يسمونهم علماء والاستبداد المادي لمن يسمونه أمراء. والجمع بين العلماء والامراء يسمونهم أولي الأمر. من ولاهم؟ الاقتتال بين أمراء الحرب وليس إرادة الامة التي تختار بحرية من يمثل إرادتها.

لو كان العلم يكفي فيه تعلم العربية لكنا نحن اسياد العالم لكثرة المتقعرين في التشقيقات اللفظية العربية. ما فتحت تفسيرا من التفاسير للقرآن الكريم إلا وأكاد أتقيأ مما يحتوي عليه من ثرثرة لا علاقة لها برسالة خاتمة تعرف نفسها بكونها تذكيرا بالفطرة ودعوة لرؤية آيات الله في الآفاق والأنفس.

وآياته في الآفاق والانفس تتعلق بالخلق وبالأمر. والرسالة تقول لنا إن آيات الآفاق والأنفس رياضية تجريبية في الخلق وسننية تجريبية في الأمر. ومن ثم فلا يمكن وضع علم الطبائع وعلم الشرائع من دون البحث العلمي في الرياضيات وتطبيقاتها التجريبية وفي السياسيات وتطبيقاتها التجريبية.

وإذا كان الله وهو الخالق يقدم قوانين الخلق على قوانين الامر -الربوبية-فإنه من الغريب أن تسمع إنسانا يدعي الرسوخ في العلم يقلب العلاقة بين الخلق والامر فيأمر من دون العلم بحقائق ما يريد تنظيمه بالأمر. التشريع أمر حول موجود وأفعال الإنسان. فكيف نشرع لما نجعل حقيقته؟

فالله يقضي على علم بالمقادير. ومن هنا نفهم ثنائية القضاء والقدر. فهو لا يخلق تحكما بل بعلم وهو لا يأمر تحكما بل بمد المأمور بشروط قابلية التكليف بحكم كونه لا يكلف نفسها إلى وسعها. لذلك فالأمر بما هو تشريع ينظم الوجود مشروط بالعلم بالوجود الذي يراد تنظيمه استنادا لمقومات كيانه.

لذلك فأكبر عائق لنهوض الامة واستئناف دورها الكوني هم هؤلاء العلماء المزيَفون والمزيِفون. القرآن والسنة موجهان لعلم الشرائع (السياسيات تربية وحكما) والطبائع (رياضيات وتجربة) ولا يتضمنان علم التشريع الذي هو ما نعلمه بآيات الله في الآفاق والأنفس اي في الطبيعة والتاريخ وفي الفطرة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي