شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل العاشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

والعلة بينة لأن القرآن جعل حقيقته تعلم من آيات الله في الآفاق والانفس بوصفهما بعدي عالم الشهادة الذي علمه في متناول الإنسان لأنه شرط تحقيق التكليف الذي هو شرط اختبار أهلية الإنسان للاستخلاف. والتكليف له بعدان: تعمير الأرض شرطا لقيام الإنسان والاستخلاف فيها شرطا لأهلية الإنسان.

وهذان الشرطان لا يتحققان من دون السياسة كفعل والدولة كجهاز لهذا الفعل بوظائفه العشر: خمس هي ابعاد الوظيفة الاولى للدولة (اثنان للحماية الداخلية القضاء والأمن واثنان للحماية الخارجية: الدبلوماسية والدفاع. يوحد هذه الاربعة الاستعلام والإعلام السياسيين في نسبته للجماعة نسبة جهاز الفرد العصبي).

وخمس للرعاية هي أبعاد الوظيفة الثانية للدولة (اثنان للتكوين التربية النظامية والتربية المرسلة في المجتمع واثنان للتموين الانتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية والانتاج المادي أو الاقتصاد العلمي والعملي. ويوحد هذه الوظائف الأربعة الاستعلام والإعلام العلمي أو البحث العلمي أصل كل رعاية).

وهذا هو موضوع السياسة تربية وحكما وما الدولة إلى الوجود المتعين للسياسة بهذا المعنى. وقد جمع القرآن ذلك في سورة قريش: أطعمهم من جوع (رمز الرعاية) وآمنهم من خوف (رمز الحماية). لكنها سياسة مكلف ببعدي التكليف المشروط في قيام الإنسان وفي منزلته الوجودية: معمر للأرض ومستخلف فيها.

ولا يمكن تأسيس النظام القانوني والنظام الخلقي (الفقه يجمع بين النظامين) إلا في إطار هذه السياسة عملا والدولة جهاز عمل يحقق هذه الرؤية لمهمة الإنسان المكلف بتعمير الأرض (مستعمرا فيها) بقيم الاستخلاف (خليفة فيها) فعلين كاملين اجتهادا تشريعيا وتنفيذيا وبينهما قضائيا مع العلاقتين.

والاولى تصل القضاء بالتشريع والثانية تصله بالتطبيق. وإذن فالقضاء بمقتضى الفقه مشروط بشورى تكليف من له أهلية التشريع وبشورى تكليف من له أهلة التنفيذ. وتكليف ذي أهلية التشريع وأهلية القضاء وأهلية التنفيذ هي مهمة الأمة المؤلفة من المستجيبين لربهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وتوسط القضاء بين التشريع والتنفيذ يجعل التنفيذ في الحقيقة محيطا بالقضاء من كلا طرفيه التشريعي والتنفيذي لأن التشريعي في الحقيقة تابع للتنفيذي في الانظمة الديموقراطية: فالقوانين قابلة للتغيير بتشريعات بديلة يضعها الحزب الأغلبي لتحقيق برنامجه هذا فضلا عن طرق الضغط على القضاة.

وحتى الدساتير قابلة للتغيير إذا كانت وضعية وليست مقدسة مثل الدساتير الدينية المتعالية على منطق القوى السياسية المتنافسة في النظام الديموقراطي العلماني. وكل ذلك يعتبر من فضائل تحرير السياسة من سلطان الدين بل هو من أهم حجج المدافعين عن الفصل بينهما.

وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإن ينتهي في الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه للدين العجل الذهبي أي سلطان المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما يمثل أداة تزييف الحقيقة وتحكيم الباطل بمنطق المافيات.

وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإنه ينتهي في الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه لدين العجل الذهبي أي سلطان المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما أداة منافية للحريتين تزييفا للحقيقة وتحكيم الباطل بعد إلغاء الحريتين.

فالوساطة بعد الكنسية صارت حزبية والوصاية بعد الحكم بالحق الإلهي صارت حكما بالحق الطبيعي أي بسلطان المال على الإرادة وبسلطان الإعلام على العقل تزييفا للوعي وتسويدا للباطل. فالحكم العلماني والحكم الديني من دون الوزع الذاتي كلاهما وازع أجنبي وتوظيف مناف للحريتين الروحية والسياسية.

ولا يتحرر القضاء من التوظيف السياسي المنافي لوظيفة الفصل بين المتحاكمين من دون تحقق صفتيه فيه أعني الأمانة والعادل ولا ضامن لهذا التحقق إلا بالوزع الذاتي المصاحب له بوصفه وزعا أجنبيا. والوزع الذاتي هو حضور الله في وعي الإنسان المدرك للأخوة الإنسانية مراقبا (النساء 1).

وهذا الوعي بحضور الله مراقبا للأقوال والأفعال هو التقوى التي تحصل في القضاء عندما يكون الحكم أمينا وعادلا. وتلك العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه(القرآن)التي تسدد العلاقة غير المباشرة أو ما نراه من آيات الله في الآفاق والأنفس بعلمها وعلم التطابق بين العلاقتين.

وذلك يعني أن عصري الفقه الأولين لا يختلفان من حيث الطبيعة ما يتوهمه أصحاب الاعجاز العلمي من وجود القوانين العلمية العينية في القرآن وتوهم البحث عنها في نصه بالشروح اللفظية لبعض الإشارات التي توجه فكر الإنسان إلى محال البحث العلمي فيما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس.

والفقه وتأصيله علم يوجهنا القرآن لمحل طلبه الذي يبين حقيقة القرآن متعينة فيما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وهو ما يغني عن وهم الإعجاز العلمي الذي يطلب قوانين الفقه وأصوله في نص القرآن. لكن القرآن هو العلاقة المباشرة (بين الله والإنسان) المسددة للعلاقة غير المباشرة.

ومثلما حدد القرآن حقيقة الخلق والأمر التي ينبغي طلبها من الآيات التي نراها في الآفاق والانفس لنتبين من حقيقة القرآن. والقرآن لم يعين قوانين الآفاق والأنفس العينية بل حدد طبيعتها. فهو يبين أن الخلق حقيقة قوانينه رياضية وأن الأمر حقيقة قوانينه سياسية أي نظام الطبيعة ونظام التاريخ.

وفي إطار هذين النظامين الرياضي للطبيعة والسياسي للتاريخ حدد القرآن طبيعة قوانين الفقه أو القانون بالمعنى السياسي بكونها خلقية تصف الحكم والحكم: فكلاهما ينبغي أن يتصف بالأمانة والعدل. والأمانة هي حفظ الحقوق والواجبات إذ القاضي يفصل بين المتنازعين فيهما تمثيلا للطرف الثالث.

والطرف الثالث هو حضور الله في فعل الحكم وهو الضامن الحقيقي لحياد القاضي ولاتصافه وحكمه بالأمانة والعدل. ولما كان هذا الحضور في الضمير من أسرار النفوس التي لا يعلمها إلا الله وجبت الحروز التي تتعلق بأحكام القضاء الظاهرة التي تضمن بقدر معقول شروط الحياد والموضوعية.

فتكون الضمانات الأجرائية مقدمة على القانون المضموني وهي أهم ما جاء في القرآن لضمان شروط قيام القضاء بواجبه على أحسن وجه. وتبقى كلها من جنس العلاقة غير المباشرة التي لا بد فيها من علامات المطابقة مع العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. وذلك في وظيفتي الدولة بفروعهما.

فالقضاء يشمل الحماية وفروعها الخمسة والرعاية وفروعها الخمسة وهو إذن لا يستثني نفسه من الخضوع لأحكامه فهو قاض في القضاء قبل أن يكون قاضيا في الأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام لتتحقق شروط الحريتين الروحية والسياسية فيكون المكلف بحق قابلا لاختبار أهليته للتعمير والاستخلاف.

وهو قاض في التكوين أي التربية النظامية والتربية المرسلة في الجماعة وفي التموين الروحي بالإنتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية وفي التموين المادي أو الاقتصاد العلمي والعملي وفي البحث العلمي أصلا لها جميعا. والحماية والرعاية بوصفها موضوع قانون تعير بالأمانة والعدل.

والحماية والرعاية كلتاهما تتعلقان بعلاقة التبادل وبعلاقة التواصل والتفاهم بين البشر في الداخل والخارج وبينهم وبين الطبيعة وبحدي التبادل والتواصل بين إنسانين أو بين أنسان والطبيعة. والمدار هو العلاقة بالأحياز وما يدور حولها من تعاقدات وخلافات يضبطها القانون بقيمتي الأمانة والعدل.

والأحياز التي يضبط القانون والفقه شروط التحاكم فيما يدور حولها خلاف بين البشر هي تقاسم المكان وتقاسم الزمان وتقاسم مفعول الأول في الثاني (ثمرة الإنتاج الرمزي أو التراث) أو مفعول الثاني في الأول (ثمرة الإنتاج المادي أو الثروة). والثروة والمكان والتراث والزمان أصل كل النزاعات.

والنزاعات هي بين الإنسان والإنسان على ما بينهما من علاقات أو ما بينهما وبين الطبيعة من علاقات فيكون الإنسان والطبيعة هما بدورهما موضوعا للقانون المنظم للعلاقات. وكل ذلك قانون مدني. وعن الظلم في الحكم بين المتنازعين فيه تنتج القوانين الأخرى: الأسري والجنائي والإداري والدستوري.

وكل ما نكتشفه في آيات الله في الآفاق والأنفس أو في العلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان يثبت حقيقة ما جاء في القرآن. فهو يحدد مجال القانون أو الفقه بهذه المعاني كلها ويعين قيمتي الحكم أي الأمانة والعدل تاركا تحديد مقدار الجزاء والعقاب العيني الدنيوي للمتنازعين لاجتهاد القاضي.

ولو لم يكن الأمر كذلك لما غير الفاروق الذي هو أكثر الناس أمانة وعدلا العقاب الذي هو وسيلة الحكم وليس الحكم بحسب ظرف الجناية الحاصلة في السرقة: ذلك أن الفاروق كان يميز بين الحكم ووسيلة العقاب. فالحكم هو عقاب الجناية والوسيلة هي تقدير العقاب بحسب ظرفها: شرطا في الأمانة والعدل.

ومن ثم فالثابت هو الحكم والمتغير هو تقدير الوسيلة المحققة للعدل الأمين في أعيان النوازل. ومعنى ذلك أن الفاروق كان يدرك أن حقيقة القرآن تتعين في آيات الله في الآفاق والأنفس وأن العلاقة المباشرة بين الله والإنسان أو القرآن وظيفتها مراقبة العلاقة غير المباشرة بتوسط وظيفتي المكلف.

فالمكلف وظيفته الأولى تنتج عن كونه مستعمرا في الأرض أو مكلفا بتعميرها مصدرا لقيامه ووظيفته الثانية كونه مستخلفا فيها أي مكلفا برعايتها بمقتضى الأمانة والعدل جوهر شرع الله الذي ينبغي أن يكون حضوره الدائم كرقيب على اقوال الإنسان وافعاله هو عين الوزع الذاتي: بمعيار الامانة والعدل.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي