شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل السادس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

في الفصل السادس ندرس الكيفية التي تفسد بها وظائف الحماية التي تنتج عن الاقتصار على الوزع الأجنبي الذي لا يصحبه الوزع الذاتي سواء كان التشريع شرعيا أو وضعيا فيكون الفقه أو القانون مجرد غطاء لهذا الفساد الناتج عن الاستبداد وتحول السياسة إلى الخداع النسقي في الجماعة.

وما أظنني في هذا الفاصل بحاجة إلى الخوف من ألا يفهم ما سأقول فأتهم كالعادة بالتعسير هذا إذا لم يتجرأ أحد الاميين فيشكك في قدرتي على التبليغ مسقطا غباءه وعيه علي. فما سأقوله لا يتجاوز وصف ما يعيشه كل المسلمين من الهادي الى الاطلسي دون استثناء. وضع عام لوظائف الدولة كلها معكوسة.

فوظائف الحماية انعكست تماما: فالحماية الداخلية:

  1. القضاء فاسد فاقد لشرطي شرعيته أي الأمانة والعدل.

  2. الأمن فاسد لا يحمي المواطن وخاصة المؤمن بل يخيفه ويعذبه.

والحماية الخارجية:

  1. الدبلوماسية في خدمة حامي نوابه في محميات خاضعة له.

  2. والدفاع فاسد يحمي الأعداء ويستبد بالأوطان

ويبلغ فساد وظائف الحماية الغاية في:

  1. المخابرات التي بدلا من أن تكون عينا حارسة للوطن والمواطنين صارت عينا عليهم للحكام وحماتهم الذين جعلوا أوطاننا محميات لا سيادة لها لأنها تابعة في كل شيء وخاصة في شرطي السيادة أعني القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين.

ولا أحد من القراء بجاهل بهذا الوضع حتى وإن كان لا يستطيع فهمه لعدم إدراك علله. وهدفي من هذه المحاولة ليس الكلام على شكوك المقاصد بل وكذلك بيان ثمرات التحريف الذي يظن علما وما هو بالعلم لأنه آل إلى ما نراه من النتائج التي لا يمكن تفسيرها ولو جزئيا إلا بما أصف هنا.

وإذا كان ما قلته عن الحماية بينا للعيان ولا يحتاج إلى استدلال ولا إلى برهان فإن وضع الرعاية أسوأ بكثير. ففي تكوين الإنسان:

  1. التربية النظامية فاسدة لا تكون الإنسان خلقيا ولا معرفيا ومن ثم عجز الأمة على رعاية ذاتها شرطا في قدرتها على الحماية الذاتية.

  2. وفساد التربية اللانظامية أسوأ.

وما أسميه التربية اللانظامية هو التربية المرسلة في غير المدرسة أي في كل الجماعات التي يتألف منها المجتمع من المسجد إلى المقهى إلى أماكن العمل إلى الفضاء العام. فمجتمعاتنا الكل يشك في الكل ما يؤدي إلى التكاذب والتخادع والتغاشش وخاصة في التطفيف والتوظيف حتى صار المصلون يتسارقون.

والعلة هي فساد شروط التموين الذي هو شرط التكوين: فالمجتمع الذي لا يستطيع سد حاجات مواطنية

  1. المادية (الاقتصاد).

  2. والروحية (الثقافة) ويصبح تابعا فيهما لأنه فاقد.

  3. للبحث العلمي الذي يمكن من إنتاج ما يسد الحاجات بتموين ييسر التكوين يصبح مجتمعا عالة على غيره متسولا بدنيا وروحيا.

وهو ما يعيد الجماعة إلى الجاهلية حتما حيث يكون الكل متربصا بالكل من أجل ضرورات الرعاية بوظائفها الخمس والحماية بوظائفها الخمس ولا يكون شيء تصوره مطابقا لواقعه بل هو عكسه تماما فتكون الأفعال مناقضة للأقوال ويصبح التفاهم بين المواطنين مبينا على سوء ظن الجميع بالجميع دائما.

لا أحد يطمئن لأحد ومن ثم فالعقد الضمني للتطامن المتبادل منعدم تماما. فلا القاضي قاض ولا الأمن أمني ولا الدبلوماسي دبلوماسي ولا الجندي جندي ولا خاصة الاستعلامي والإعلامي في خدمة هذه الوظائف هو يستخدمها لمصلحة عاجلة حتى لو حرق كل البلد: غياب الوازع الذاتي.

وفوق هذه الوظائف العشر توجد هيئة الحكم التي تمثلها القوى السياسية حكما ومعارضة والرأي العام السياسي. وهذا هو محل رأس الفساد. ومع ذلك فلو قرأت الدساتير وتصفحت مدونات القوانين وضعية كانت أو شرعية لظننت أن من يحكمك هو الفاروق بعينه. لكنها رسوم بلا أعيان. كلام بلا مضمون. خدعة الخدع.

من يحكم بالفعل (الأحزاب الحاكمة أو القبائل لا فرق) ومن يحكم بالقوة (المعارضات الحزبية أو القبلية) ينطبق عليهم مفهوم شرعي واحد: إنهم محتربون. فالحرابة سرقة مسلحة. وسلاحهم وظائف الدولة. وطبعا يوجد من هو صالح بينهم. لكنه ابرة في كومة قش: عنف الدولة علته غياب الوازع الذاتي.

وهذه الحال تستفزني خاصة عندما يكون برقعها الدين. فالبرقع العلماني قد لا يستفزني لعلمي بأنه لا ينافق بالمعنى الديني بل يدعي أن ذلك هو منطق السياسة والميكيافيلية وخاصة إذا طبقها صاحبها في غير بلده وهو ما تفعل القوى الاستعمارية كلها. لكن قوانا السياسية بدت ميكيافيلة الاستعمار.

فكان تشويههم للإسلام وتمريرهم لحياة المسلمين بالقانون الوضعي أو بالقانون الشرعي من أهم أدواء حضارتنا في كل عصورها باستثناء عصر النبي والراشدين الأول. وما داعش بأكثر تشويها منهم للإسلام وللفقه والقانون. والعلة مضاعفة:

  1. التأصيل بالعلاقة المباشرة (الرسالة) بين المؤمن وربه.

ولما فعلوا ذلك تركوا عالم الشهادة مجهولا وغرقوا في عالم الغيب المحجوب حتى لا الأنبياء. ولا عجب فهم قد اعتبروا الـ”و” في سابعة آل عمران عطفا للراسخين في العلم على صاحب العلم المحيط فظنوا علمهم محيط يمكن أن يستخرج المشار إليه من السبابة المشيرة. فكان العلم الزائف.

والجهل بالآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس جهل بالعلاقة بين الطبيعة والجماعة. فهذه تستمد شروط قيامها المادي من تلك. ولا يمكن تسخير الأرض بالجهل بقوانين الطبيعة. لذلك فحتى ما فيها من ثروات لم يصبح كذلك إلا بفضل المستعمر بعد أن فقدنا كل سلطان على التعمير ولم يبق إلا التدمير.

والتدمير يكون في هذه الحالة تدمير علاقة الإنسان بالإنسان لأن تدمير الطبيعة هو بدوره بحاجة إلى علم قوانينها والمبالغة في استغلالها الذي يدمرها لأن كل ما فيها ناضب بالجوهر ولا يعوض إلا في التاريخ المديد التاريخ الجيولوجي. ولا شيء يضحكني أكثر من الكلام على فقه الواقع.

لا أفهم كيف من لا يعلم قوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية أن يتكلم على فقه الواقع. يجهلون أن الواقع لا يدرك وأن ما يدرك هو ما نعلم وأن ما نعلم بالقياس إلى ما نجهل هو في نسبة المتناهي الضئيل إلى اللامتناهي اللامحدود. وما نعلمه مشروط بنظريات ليست في متناولهم.

وإذن ففي هذه الحالة يكون الفقه والقانون رماية في عماية أو يبنى على ظنون حول ما هو بالجوهر مما لا يعلم أي الغيب المحجوب. والقرآن يوجهنا لمعرفة حقيقته إلى الآفاق والانفس ويوجهنا إليه طبيعة قوانينهما دون أعيان قوانينهما لما كان لمفهوم عالم الشهادة معنى: فهو يشهد لهذه الحقيقة.

ولو كان القرآن يعتبر علم الغيب ممكنا لنا لما نهانا عن المتشابه ولما اعتبر محاولة تأويله مرضا في القلب وابتغاء للفتنة. لكن كذب الرسوخ في العلم وكذبة وراثة الأنبياء هي التي آلت بالباحثين في علوم الملة إلى سلطة كنسية تدعي تمثيل الوحي ووراثة النبي فيما لا يملك فهو لم يؤول المتشابه.

النبي لا يورث لا ماديا ولا روحيا: هو المبلغ والمعلم وليس له سلطان غير سلطان القرآن وسلطان الاجتهاد في التبليغ والتعليم. وسلطان القرآن هو مرجعية سلطان الأمة المؤلفة من افراد يمكن أن تكون لهم أهلية الاستخلاف بشرطين: الحرية الروحية والحرية السياسية أي التحرر من الوساطة والوصاية.

والله نفسه ينفي عن النبي الوساطة والوصاية: “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” وإذن فرسالة مبنية على الحريتين وأكثر من ذلك فهو لا يأتي بأمر ليس قائما عند مخاطبيه بل يذكر بأمر قائم عندهم. فالقرآن مكتوب بعد في الفطرة ومنسي ووظيفة التنبي التذكير بها أو التحرر من الغرق في الفاني.

والإيمان الصادق يتجلى عندما يشعر من يسمع تذكير النبي بصدى ما في القرآن في نفسه فيكون التناغم بينهما هو جوهر التواصل المباشر مع الله. إنها الحالة الوجدانية التي تمثل الوزع الذاتي في كل إنسان ذي بصيرة تحرر من الوساطة والوصاية وتوجه مباشرة إلى الآفاق والانفس طلبا لحقيقة القرآن.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي