شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

حتى لا أتجنى على أحد من أعلام الفقه وأصوله لا بد في هذا الفصل السابع من الشكوك أن أشرح القصد بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة الطوارئ التي ما تزال سارية منذ أربعة عشر قرنا. فالفقه وتأصيله لم يتجاوز تعيين أجوبة قاضي الرسول في ظرف حالة الطوارئ: تعيين أبي حنيفة فمالك فأحمد فالشافعي.

والثلاثة الأول حددوا مصادر الفقه جمعا ولم يحدد طبيعة الدور الذي تؤديه بنظرية يمكن اعتبارها مؤصلة للفقه. وذلك ما يعود الفضل فيه لرسالة الشافعي. وذلك ما نسبته إلى عصر الفقه الأول وقدمت عليه نوعين من الممارسة الفقهية كانت المصادر فيه متعينة في الرسول ثم في الراشدين الثلاثة الأول.

والفرق بين هذين الحالتين السابقتين والحالات الثلاث الموالية هو الذي يحدد الفرق بين الحكم العامل بالدستور والحكم العامل بحالة الطوارئ وتعطيل الدستور الذي نتج عن الحرب الأهلية التي تلت الفتنة الكبرى. وتعطيل الدستور في الممارسة بأحكام استثنائية ينتج بالبون بينهما فصاما في القانون.

لذلك فجواب قاضي الرسول دلالته مختلفة عن دلالة نفس الجواب لدى المؤسسين الأربعة: فهم مثل قاضي الرسول يجيبون عن أسئلة الرسول الثلاثة وسكوته بعد جواب القاضي الثالث: أجتهد رأيي ولا آلو. فالحكم بالقرآن والحكم بالسنة والحكم باجتهاد الرأي في حالة العمل بالدستور غير الحكم بها في حالة تعطيله.

فإذا كان القرآن يحدد موضع البحث عن حقيقته فمعنى ذلك أنه لا يعتبر آيات النص هي المصدر المباشر لمعرفة حقيقته بل تجلي آيات الله في الآفاق والأنفس التي تبين هذه الحقيقة عندما نعلم قوانينها وسننها المتعلقة بالموضوع الذي يتعلق به البحث: النظام القانوني ووظائفه في أي جماعة بشرية.

وإذن فلا بد من التمييز بين النظام القانوني الذي يحدده الدستور والنظام القانوني الذي يعطله ويقدم عليه الأحكام الاستثنائية التي تفرضها حالة الطوارئ. ومن ثم فالنظام القانوني في عهد الرسول والراشدين يعمل بأحكام مطابقة للدستور والنظام القانوني بعد الفتنة يعمل بأحكام استثنائية.

لكن الأحكام الاستثنائية تتضمن ما يشير إلى كونها استثنائية وهو سر الفصام بين الإحالة إلى الدستور مع قلب العلاقة بينه وبين الأحكام الخاصة التي صارت هي القاضية في أمره بدلا من أن يكون هو القاضي في أمرها. فصارت الأحكام الخاصة تقدم الخاص وتعتبره ناسخا للأحكام العامة.

وبعبارة أوضح: فالحرية الدينية هي الحكم الدستوري العام في القرآن الكريم لكن فقه حالة الطوارئ اعتبر الأحكام الخاصة في القرآن ناسخة للأحكام العامة وأولت كل آيات القرآن في ضوء هذا القلب ما جعل فلسفة القرآن الدينية والسياسية تنقلب راسا على عقب بان صار الاستثناء هو القاعدة.

وبذلك يمكنني القول إن المميز الأساسي للفقه وتأصيله في عصره الأول الذي وصفنا هو كونه قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء فجعل الاستثناء محددا لدلالة القاعدة وبات الفقه وتأصيله مؤسِسين ومؤسَسين على نظام قانوني تحدده حالة الطوارئ الدائمة فصار الاستثناء هو القاعدة في كل أحكامه.

ولذلك فصوريا لا شيء يعاب على هذا النظام وهو نظام متناسق لكنه مضمونيا عكس النظام الذي يستند إلى الدستور ومبادئه لأنه يقلب العلاقة بين المبدئي والظرفي فيه. وذلك في أحكام الاجتهاد والجهاد والمعاملات والعبادات والعلاقات الداخلية والخارجية أي في كل ما يتعلق به النظام القانوني.

وكما بينت فإن عصر الفقه وتأصيله الثاني لم يأت بجديد إلى في علوم الآلة: فتقدم علم اللغة وعلم المنطق وعلم التاريخ وعلم التفسير يهدف إلى تجويد الآلة لعله يتمكن من حل معضلة العلاقة بين النص المحدود والنوازل اللامحدودة في كل نظام قانوني. دون جدوى فكان المهرب الوحيد هو نظرية المقاصد.

ونظرية المقاصد تعبر عن أمرين: اليأس من النظام القانوني الذي تحدد في عصره الأول ومحاولة “بطننة” الفقه بأن يصبح مبنيا على وهم معرفة مقاصد الشارع والتشريع بالاعتماد عليها للإيهام بالعمل بمبادئ الإسلام المقاصدية وحينها لا يكون القرآن إلا غطاء لقانون وضعي بتقية دينية خالصة.

المقاصدية هي إذن سعي لوضع نظام قانوني وضعي متنكر في شكل قانون ذي مرجعية دينية شكلية وذلك هو جوهر الموقف الباطني الذي لا يختلف عن الموقف العلماني إلا بنوع التنكر الديني. وهو نظام قانوني مختلف عن النظام الذي حدده العصر السابق وليس أفضل منه حتى وإن أوهم اصحابه أنه تطوير له.

ولأن النظام القانوني المبني على المقاصدية هو بهذه الصفات فلا عجب أن يتقاسمه كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث لأداء الوظائف الخمس التالية: فهو أداة تعديل الموجود من التشريعات القرآنية (مثال الإرث وتغيير بالمقاصد) وإيجاد المعدوم في التشريعات القرآنية (كل الإحداثات التشريعية).

وبذلك يكون القرآن ظاهر وراءه باطن هو المعتمد ويؤسس على المقصد الذي يعلمه الشارع الإنساني والفرق بين القائلين به من السنة والقائلين به من الشيعة هو نسبة هذا العلم للإمام وعلمه اللدني عند هؤلاء ونسبته إلى العقل عند أولئك وشرطه القول بالتحسين والتقبيح العقليين (اعتزال).

وفي الحالتين يكون الإيهام باعتماد القرآن أساسا للمقاصدية تقية لأنها ذريعة لإضفاء الشرعية القرآنية على تشريع وضعي خالص لأن الأمر كله متعلق بالقدرة على اختيار الوسيلة المحققة للمقصد أي كيفية العودة من المقصد إلى الحكم الذي يحققه والذي يقتضي الإيمان أن يكون من الغيب في شرع الله.

فالسر في فاعلية أي تشريع هو في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة في الأحكام. هبنا عرفنا الغاية أو المقصد فكيف نعلم علاقته بالوسيلة التي تحققه على الوجه المناسب بكل يقين؟ فعدم التناسب بينهما يمكن أن يؤدي إلى عكس المقصود لأن الطرق الموصلة إلى نفس الغاية لا متناهية.

وحتى في الفلسفة فإن الحكمة كل الحكمة هي في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة بل هي جوهر الحكمة العملية لأن الفلاسفة يعتبرون الغايات فطرية والوسائل هي التي يحتاج الإنسان أن يحددها بحذر وحكمة وتدبر. والعلة هي أن التحسين والتقبيح ليسا من جنس الوصف النظري للذاتيات في موضوع العمل.

صفات الشيء الذاتية قابلة للتحديد العقلي وهي موضوع العلم النظري. لكن الحسن والقبح الخلقيين ليسا من الصفات الذاتية المقومة للأفعال بل هي مقومة لعلاقات الفعلة وهي من ثم إضافية لما تواضعوا عليه من شروط التعامل الأقل كلفة على شروط وجود الجماعة وبقائها وهي مادة التعاقد بينهم.

والتعاقد بين البشر ليس بالضرورة مصوغا في نصوص صريحة رغم أنه لا يمكن تصور عيشا مشتركا من دونه: فهو نظام قانوني قد يكون مجرد عرف. وقيمه هي المعروف والمنكر وهي عقد بين البشر من دونه لا يمكن أن توجد جماعة من الأسرة فصاعدا. ولما كان علمنا غير محيط فتشريعنا الوضعي نسبي دائما.

والديني بالجوهر في كل الأديان -حقيقة كانت أو مزيفة-هو الإيمان بنظام قانوني نتج عن علم محيط ينسب الله الذي هو ليس خالقا فسحب بل وآمر. الشريعة هي ما نعتقد أنها أمر الله لخلقه المكلفين. والله يقول إن معرفة أمر الله وخلقه هي حقيقة القرآن التي ينبغي طلبها من آياته في الآفاق والانفس.

وإذن فكل طلب للفقه والنظام القانوني الذي يبين حقيقة أمر الله لخلقه المكلفين لا بد أن يتوجه إلى الآفاق والأنفس أي إلى الطبيعة ذات القوانين الرياضية (تقديرا ذهنيا وتجربة) والتاريخ ذي القوانين السياسية (تربية وحكما) بحسب طبيعة الموضوع ووظائفه المحققة لقيام الإنسان معمرا ومستخلفا.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي